الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

ميلاد السيد المسيح مصالحه مع الله والذات والإنسان




نصلى هذا المساء قداس عيد الميلاد متحدين مع قداسة البابا فرنسيس ومع أخوتنا البطاركة والأساقفة فى الكنيسة الكاثوليكية فى أنحاء العالم أجمع.
ونصلى أيضاً مع شعوب العالم بعد أن احتفلت الكنيسة الكاثوليكية بختام السنة المكرسة لتعميق الإيمان، وما الإيمان الحقيقى سوى المصالحة الشاملة، مصالحة مع الله، ومصالحة مع الإنسان الآخر وقبوله.  هذا ما يعبر بصدق عن حال العالم اليوم، وعن حاجة كل إنسان إلى تجديد إيمانه، وعن الرغبة الإنسانية العميقة فى قبول الإنسان لأخيه الإنسان بعد أن مزقت الأسرة البشرية حروب فى اغلب بلاد العالم. يشعلها التعصب المقيت، والعنصرية المرزولة، ويشيع الإرهاب فى كل نفس بشرية الخوف والقلق، فيقتل فى الإنسان كل رجاء فى الحياة، فتنعدم الرؤية لينغلق الإنسان  على نفسه.  
يأتى ميلاد المسيح، ليؤكد على قيمة الإنسان، فلا عبادة حقيقية للخالق إن لم تحترم المخلوق، ولا ايمان صادق إن لم يحترم الحياة. فالحياة لا تستقيم وملايين المطرودين من ديارهم، والضحايا الأبرياء، والظلم المتفشى فى المجتمعات، وفساد الضمير الذى يشكو منه البشر.
بميلاد المسيح، عمانوئيل، أى الله معنا، بدأت البشرية مسيرة جديدة، هكذا أحب الله العالم حتى يحب كل إنسان عالمه ومجتمعه، تنازل الله فى كلمته وصار إنساناً ليعلن سمو الإنسان، وسمو دعوة الحياة الإنسانية. إنها فى الأساس دعوتنا فى هذا العيد للمصالحة الشاملة: مصالحة مع الله، مع القريب، مع ذواتنا.
 أولاً: ميلاد  المسيح  مصالحة مع  الله.
بسقوط الإنسان فى الخطيئة، وبعد أن فقد العلاقة الحميمة مع الله، بادر الرب ووعد الإنسان بمخلص يأتى من نسل المرأة، هو الذى سيسحق رأس الحية. هذا المخلص هو يسوع المسيح، لن يعيدنا فقط إلى ما كان عليه الإنسان من قبل الخطيئة، بل سيمنحنا عمق الشركة الإلهية.
فبعد أن خاطبنا الله بأمور وطرق متنوعة، فى ملء الزمان أرسل الله كلمته إلى البشر إذ يعلن الملاك جبرائيل للعذراء مريم: «المولود منك قدوس يدعى ابن الله» (لوقا 1 : 35) ويبشر الملائكة الرعاة البسطاء الفقراء «اليوم ولد لكم مخلص هو المسيح» (لوقا 2 : 11) وينطلق المجوس الحكماء الأغنياء باحثين عن طفل يولد فى بيت لحم، إنه النور الإلهى الذى سيبدد ظلام الخوف والجهل، إنه الحب الإلهى المتجسد الذى اشتهى يومه الأنبياء، وكتب أشعيا النبى أنه سيقيم صلحاً بين الله والإنسان، فصورة الله فى العهد القديم، المنتقم الجبار، أضحت بعد مجيء المسيح صورة الخالق المتحنن على خليقته، يقبل الابن الضال (لوقا 15 : 20 – 24) ويغفر كل خطاياه، ويضمه إلى صدره فى حنان بالغ. والعبادة فى العهد القديم التى طغت عليها الطقوس الخارجية، والمظاهر المادية، أضحت عبادة الضمير والوجدان، فالله يُعبد بالروح والحق (يوحنا 4 : 23). لقد تمت المصالحة، إذ كشف المسيح طبيعة الله، فهى الحب الذى يفيض مغفرة.
ولد المسيح حباً فى الإنسان، وعاش فى خدمته، ونشر تعاليمه ليقوده  إلى الحق والنور، فالمسيح هو  نور العالم (يوحنا 8: 12) ساوى بين البشر جميعاً فى الكرامة، لا تمييز بين إنسان وإنسان بسبب الجنس أو الحسب أو العلم أو القوة، طوب البسطاء وفقراء الروح والساعين إلى التقوى والقداسة، صالح الإنسان مع خالقه بأن كشف له محبة الآب الخالق، ورحمته الواسعة... ليس هناك شرح لسر التجسد إلا محبة الله للإنسان، فقد تحققت نبؤات العهد القديم، ولد المسيح، فاتحدت السماء بالأرض، وتنازل الله ليحتضن الإنسان؛ تُرى أيدرك إنسان هذا العصر مدى حب الله له؟
 ثانيا: ميلاد المسيح مصالحة مع الذات
إن فى حضارتنا المعاصرة ثقباً خطيراً وهو التهاون بأمور الروح والفضيلة. لقد نسينا أن نور العقل هو اشعاع من نور الخالق، وأن قدرة العقل بعض من قدرة الخالق، فأصبح ما يحققه الإنسان فى مختلف نواحى الحياة سببا للغرور والكبرياء. فيفقده ذلك  الحس الروحى والرؤية الإلهية لمعنى الحياة والمصير.
فى هذا الواقع يأتى عيد الميلاد ليذكرنا بأن كيان الإنسان لا يتحقق إلا بمدى الاتحاد مع الله لا بمعزل عنه، فلا صراع بين الله والإنسان، ولكنه واقع الخطيئة الذى يفقدنا المصالحة مع ذواتنا:  «لأن مجد الله هو الإنسان الحي، وحياة الإنسان رؤية الله» كما قال القديس إيريناؤس.
إن ميلاد المسيح هو دعوة لنا كى نتصالح مع ذواتنا، وتقوم هذه المصالحة فى اعتراف الإنسان بخطئيته، وقبوله سر المغفرة المجانى،  هذه إمكانية ولادة جديدة وخلق جديد، تسمح للشّخص بأن يحيا بطريقة جديدة مختلفة عمّا كانت من قبل. خلق جديد وليس مجرد تحسين سلوك أو تصرفات أو طبع إنسانى، خلق جديد بروح جديد وطبيعة جديدة، تحيا فى سلام مع الله،  ومع الذات وترى فى القريب صورة المسيح؛» فمن كان فى المسيح فهو خليقة جديدة» هذه الولادة الجديدة، التى نلناها بفضل المعمودية تنمو وتتجدد فينا من خلال مسيرتنا المستمرة، ككنيسة،  فى قبولنا سر الاعتراف. إنه غاية في  الأهمية أن نكتشف من جديد عظمة وقدرة هذا السر الذى ينمو  فينا مع سر الافخارستيا ثمرة عمادنا ويحققه.
ثالثاً: ميلاد المسيح مصالحة بين الإنسان والقريب.
إن القضايا الإنسانية ينبغى أن تعالج تحت نور التعاليم الإلهية والشرائع السماوية بالاقتداء بالمسيح الكلمة. ينبغى ألا يتحول العالم إلى ساحة صراع بين الأقوياء والضعفاء، والأغنياء والفقراء.
جاءت مسيرة المسيح على الأرض خلقاً جديداً لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان. فقيمة الإنسان هي فى ذاته، لا فيما يملك من أسباب القوة والمال والسلطة.  لذا ولد المسيح فى مغارة بعيداً عن كل مظاهر التملك، عاش فى أسرة متواضعة ومكافحة، فانتمى هكذا إلى الإنسان العامل الشريف الذى يتعامل مع الطبيعة والمادة فى صبر وثقة، نابعين من ضمير نقي.  لقد حمل رسالته إلى الضمير الإنساني، ليوقظه،  فلا صلاح لإنسان إلا بصلاح ضميره ونقاء سريرته وتوهج روحه بالخير، ولا صلاح لمجتمع إلا بوحدة أبنائه وترابطهم وتعاونهم على الخير.
عاش المسيح حياته، عملاً وقولاً ليؤكّد على أنّ العبادة الحقيقيّة تذهب فى عمقها لتتحقق فى العلاقة بالقريب، فلا محبة حقيقيّة لله بدون محبة عمليّة للقريب. كثيرون ممن آمنوا حقا بالمسيح تبعوه فاختاروا بحرية وحب السير فى دربه يعيشون المصالحة مع كل إنسان، فنجدهم فى كل مكان يعلنون محبة الله المخلّصة ولا يبغون من وراء ذلك إلا الاقتداء بالمسيح والاتحاد به.  لقد أعلن المسيح ملكوت الله وعلّم المحبة التى تذهب حتى محبة الأعداء. فهو الذى قال؛ «جعت فأطعمتمونى، وعطشت فسقيتمونى ومريضا فزرتمونى وسجينا فجئتم الى، فكل مرة عملتم هذا لواحد من هولاء أخوتى الصغار فلى عملتموه» (متى 25 : 34 – 40). إن رسالة المسيح هى الاهتمام بالإنسان الآخر، بل إن الدينونة ستقوم فى التساؤل عن مدى تفاعلنا مع القريب وعن  من أهمل محبته (متى 25 : 34 – 40).
إن ميلاد المسيح فرصة لنا جميعا، لنتساءل مع ذواتنا عن طريقة تعاملنا مع بعضنا البعض، فى عائلاتنا، فى وطننا، تجاه الخير العام : هل محبة الله ومحبة القريب كوصية هى الأساس فى تصرفاتنا ؟ هل هى الدافع الحقيقى للمصالحة واللقاء بالآخر؟
لذا ننتهز احتفالنا بميلاد المسيح لنجدد هذه الوصية فى حياتنا لنعيش مصالحتنا مع الله ومع ذواتنا والقريب.
أحبائي، ولد المسيح، افرحوا، تصالحوا، كونوا سفراءه أينما كنتم.
 ختاماً فى نهاية رسالتنا هذه، بأسمكم جميعاً أتوجه إلى سيادة الرئيس عدلى منصور وكل معاونيه المخلصين بالشكر والتقدير على جهودهم ومحاولاتهم من أجل استقرار وأمن وطننا الحبيب مصر، ونصلى أن يمنح الرب كل واحد فى مكانه حكمة ونعمة وقوة للمثابرة فى مسيرة بناء وطننا، لكى تسترد مصر عافيتها ومكانتها ودورها اللائق بها.  
كما نصلى من أجل قواتنا المسلحة، ومن أجل رجال الشرطة حراس الوطن وشهداء الواجب.
نصلى أيضاً من أجل شعبنا المصرى الأبى، وكل الذين يحملون أمانة الواجب فى إخلاص وتفان، من أجل كل أسرة شريفة مجاهدة تسهم فى بناء إنسان يؤدى عمله فى مخافة الله وحب الوطن، لنصلى من أجل السلام فى العالم أجمع وبالأخص فى شرقنا الأوسط.
بشفاعة أمنا مريم العذراء وصلاتها، ليهبنا مولود بيت لحم كيف يتحقق فينا الإنسان الحقيقى بكل معانيه.
«المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وفى الناس المسرة» (لو 1 : 14).
وكل عام وحضراتكم بخير
كوبرى القبة – 25 ديسمبر  2013
 + الأنبا إبراهيم إسحق
بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك