الخميس 26 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«روزاليوسف» تكشف.. ماء النار.. جرائم تحرش مسكوت عنها




يعد التحرش إحدى المُضايقات الجنسية أو الأفعال غير المقبولة مجتمعيا وسلوكيا، فهو يتضمن مجموعة من الانتهاكات البسيطة وصولا إلى المضايقات الجادة التى من الممكن أن تتضمن التلفظ بتلميحات جنسية أو إباحية، وصولا إلى النشاطات الجنسية، لكنه فى النهاية فعل مشين بكل المقاييس، إذ يعد شكلًا من أشكال التفرقة العنصرية غير الشرعية، وهو شكل من أشكال الإيذاء الجسدى (الجنسى والنفسي) والاستئساد على الغير.

يعرف المركز المصرى لحقوق المرأة التحرش الجنسى بأنه «كل سلوك غير لائق له طبيعة جنسية يضايق المرأة أو يعطيها إحساسا بعدم الأمان»، لكن أول ظهور تاريخى لاستخدام مصطلح «التحرش الجنسي» كان فى عام 1973 فى تقرير إلى رئيس ومستشار «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» آنذاك، عن أشكال مختلفة من قضايا المساواة بين الجنسين. ووضع سياسات وإجراءات ذات الصلة. معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا فى ذلك الوقت اعترف أيضا بالإصابات الناجمة عن المضايقات العنصرية والمضايقات التى تتعرض لها النساء ذوات البشرة الملونة، وذكر رئيس المعهد أن التحرش يتناقض مع رسالة الجامعة، وكذلك لا يطاق بالنسبة للأفراد.

وبعيدا عن أسباب الظاهرة المتعددة، فإن سلوك التحرش وصل إلى مرحلة متقدمة من الخطورة والإيذاء، أدت خلال عام 2013 إلى إعلان عدد من الأحزاب والحركات السياسية عن الدعوة والمشاركة فى مسيرة تحت عنوان «الشارع لنا».. ردا على الاعتداء من مجموعات منظمة على الناشطات السياسيات والمتظاهرات بهدف إرهابهن وإقصائهن عن المشاركة فى الفعاليات السياسية، لكن.. إذا كانت الأضواء قد سلطت على هؤلاء الناشطات، فإن هناك الكثير من الضحايا اللاتى لم ينتبه إليهن أى من وسائل الإعلام، بل إن بعضهن يتوارين خجلا، والبعض الآخر منهن يرغبن فى الصراخ والإفصاح عما يتعرضن له من ممارسات شاذة، فيما راحت فئة ثالثة تنبه وتحذر من ممارسات غير متوقعة للتحرش.. يؤدى دور البطولة فيها «ماء النار».

فى البداية تقول «إسراء محمد» فتاة مصرية عمرها لا يتعدى 25 عامًا وتعمل مدرسة بإحدى مدارس رياض الأطفال، إنها مثلها مثل الآلاف من الفتيات اللاتى ثرن على الظلم، وخرجت فى ثورة يناير من أجل تحقيق مطالبهن وتحطيم القيود.. ولكن، وبعد ثلاث سنوات من الثورة.. وجدت إسراء نفسها ضحية لظلم مجتمع أصبح يعانى من الجهل والتخلف والقسوة.. ما يجعل إحساس الفتاة المصرية بالأمان حلما بعيد المنال.

لم تتخيل «إسراء» وهى تخرج من منزلها عصراَ، أن تعود إليه مرة أخرى.. لكن مشوهة، نتيجة رش «مياه كاوية» على جسدها، لتبدأ معاناة العلاج النفسى والجسدى، الذى ربما يستمر لشهور، وربما تتحول لشخص مريض نفسيا يريد الانتقام مما لحق به.

فرغم أن ملابسها كانت محتشمة على حد قولها، إذ كانت ترتدى بنطلون أسود وجاكت ولا يظهر منها سوى شعرها، فإنها فوجئت فى أثناء سيرها على مقربة من محطة «عزبة النخل» بشخص يتتبعها ويسير وراءها، فتوقفت لكى تطمئن؛ فوجدته شخصا فى العقد الرابع من عمره لا تظهر عليه أى ملامح للبلطجة أو التطرف، فأكملت سيرها، وبعد لحظات.. اضطرت للعبور للجهة الأخرى لتجد الشخص نفسه خلفها، ثم سبقها بخطوات، ووجه كلاما إليها وهو يسرع الخطى.. «أنا لا أعاكسك.. ولكن نظفى البنطلون»، فنظرت إسراء لملابسها ولم تجد شيئا، وظنت أنه يعاكسها.. فأكلمت طريقها.

لكن.. بعد ربع ساعة وكانت داخل إحدى محطات المترو بدأت تشعر بآلام موجعة بالجزء السلفى من جسدها، فظنت أنها جلست على شىء ما.. ثم زادت الآلام، ولم تتحمل، لتتذكر كلام ذلك الشخص، واضطرت للنزول بإحدى محطات المترو ودخلت إحدى دورات المياه لتصطدم بهول ما وقع بها.. إذ لم تتمكن من خلع ملابسها، التى التصقت بجسدها جراء إصابات بحروق شديدة.

على الفور.. بادرت بالاتصال بأصدقائها وأختها، وانتظرت والألم يعتصرها، حتى أقبلت أختها لتساعدها، فإذا بها تكتشف إصابتها بمادة كاوية حولت جلدها للون الأسود وأصابته بحروق شديدة، فاضطرت إسراء لتناول بعض المسكنات، لكى تتمكن من العودة لمنزلها.

 تحكى لـ«روزاليوسف»: بعد عودتى.. زادت حدة الألم، فذهبت لأحد الأطباء الذى أصابته الصدمة من هول ما رأى، فقد وجد أن لدى حروقا مختلفة من الدرجة الأولى والثانية والثالثة، وغرغرينة ببعض أجزاء الجسم، وتساقط لبعض طبقات الجلد، وهو ما يستغرق علاجه شهورا ويحتاج لإجراء جراحات تجميلية، وأخبرنى أن تلك المواد ليست فقط مادة كاوية أو ماء نار، ولكنها مخلوطة بأشياء أخرى وتم تركيبها كى لا تتأثر الملابس وتخترقها لتصل للجلد وتظهر آثارها بعد نصف الساعة، ليكون الفاعل قد تمكن من الهرب، كما ذكر الطبيب أن تلك المواد يتم استيرادها من الخارج، ومن يستخدمها شخص محترف.

وتابعت إسراء حديثها: اتجهت إلى منزلى مرة أخرى، فكان حال أسرتى يرثى له، فوالدى رغم تماسكه الظاهرى منهار، أما والدتى فقد أصابتها حالة نفسية سيئة، ولكن ما يخيفنى هو أن لدى خمس أخوات أصبحن يخشين الخروج إلى الشارع كى لا يتعرضن لمثل ما أصابنى.

وأضافت: أصبحت الآن أخاف من الخروج إلى الشارع أو المرور به، ولكن كل أملى الآن هو العثور على هذا الشخص، فقد تقدمت ببلاغ وأدليت بأوصافه، ومع أنى تكفينى عقوبة القضاء له، فإننى أتمنى أن ينال مثل ما أذاقنى إياه.. بأن يتم تشويه جسده، فللأسف.. هو لم يشوه جسدى فقط، بل شوه عقلى أيضا، فقد أصبحت أكره البشر وأخشى أن أصبح عدوانية وأبادر الرجال عنفا بعنف بسبب ما حدث معى.

 وبسؤالها عن الدافع عما حدث معها، قالت: أريد أن أجد من آذانى.. فلو سكت سيتوقف الأمر عند محضر فقط، لكنى لن أدفن رأسى فى الرمال، فرغم أننى اعتزلت العمل السياسى منذ أحداث محمد محمود وإصابتى بها، فإن روح الفتاة الثورية لم تنته بداخلى، ولن أتراجع حتى أجده وأقتص منه.

وأنهت إسراء حديثها بأنها رغم كل ما مضى، فلم تفكر مطلقا فى الهجرة، لكنها الآن تفكر بشكل شديد فى الهجرة خارج البلاد، لأن الجميع بدلا من أن يقفوا بجوارها ويساندوها، وجدت بعضهم يتهمها بالكفر والإلحاد، ويبررون ما حدث معها بأنها تهين الإسلام، وأن السبب فيما حدث لها أنها «متبرجة» وكاشفة لشعرها.

ثم وجهت إسراء رسالة للفتيات قائلة: لا ترضخن.. فرغم خوفى الآن.. وبرغم ما نخسره يوميا بعد الثورة من تحرش لفظى وبدنى وانتهاكات لجميع الحقوق.. فإن عليكن الصمود».

إسراء ليست الحالة الأولى.. بل هناك كثير من الفتيات يتعرضن لتلك الاعتداءات، فلم يعد الاعتداء فقط مقتصرا على التحرش اللفظى أو البدنى، ولكن لسهولة الحصول على تلك المواد الكاوية من عند العطارين ووضعها داخل زجاجات وإصابتهن بها، أصبحن للأسف يخشين التحدث أو الإبلاغ اتقاء لافتضاح الأمر.. ويفضلن الصمت.

الأمر نفسه تكرر بتفاصيله فى أماكن مختلفة، ومن ثم لم تكن الواقعة فردية، تقول هالة من محافظة المنيا على صفحة «ثورة البنات» إنها تعرضت للرش بمادة كاوية على الجزء السفلى من جسدها، ولكنها لم تكتشف ذلك إلا بعد عودتها لمنزلها.

وتتابع: «يا جماعة.. فى ظاهرة غريبة بتحصل للبنات.. خلى بالكم، هناك أناس يلقون ماء نار مركزة على البنات وهن بالشوارع، والموضوع ده حصل معايا.. بس الحمد لله ربنا سترها، وكمان مع كذا وحدة تانى وهن بصحبة أهاليهن، ولا تكتشفى الموضوع، إلا بعد عودتك للمنزل، خذوا حذركوا وربنا يحميكوا».

 وأضافت هالة: أنا حصلت معايا وكنت ماشية فى شارع من حوالى شهر ونص.. ولما روحت البيت لقيت قَطع كبير فى الجاكت اللى كنت لابساه وكمان فى البنطلون نقط كبيرة وفى اللبس اللى تحت الجاكت، والمادة اللى اترشت زى الحرق، وسألت أصحابى اللى كانوا معايا.. لقيت منهم واحدة حصلها نفس اللى حصلى بس فى اللبس اللى من فوق، وتكلمت مع صديقة أكبر منى، فقالت لى إن اللى حصل معايا حصل مع واحدة صحبتها اترشت عليها نفس المادة وهى ماشية مع مامتها ومع أختها.. ووحدة تانية من أصحابها حصل معاها بس دى حست بلسعة فى ظهرها.

تقول الباحثة بمركز النديم ماجدة غالب: إن هناك وقائع لفتيات تمت خلال العام، إذ تم رش ماء النار على أجزاء من أجسادهن، سواء الوجه أو منطقة الصدر أو مؤخرة الجسد، وأغلبهن يتم علاجهن عن طريق متبرعين، ويتم خضوعهن لبرنامج تأهيل نفسى ممتد.

وأكدت: لا يمكن البوح بتفاصيل.. فهناك حالتان، إحداهما رش ماء نار على منطقة الصدر، والأخرى على الجزء السفلى من الجسد، وترغبان فى سرية أوضاعهما لإصرار الأسر على ذلك، ولكن أغلب الحالات كان رش بمياه النار على ملابسهن.

وتضيف غالب: هناك «حالة» صحفية الأهرام التى تعرضت أيضا للرش بمياه النار، وصرحت إعلاميا بذلك، وبالمثل حالة إسراء التى تعرضت لمادة مجهولة حتى الآن، وسوف يتم علاجها نفسيا بالمركز.

وتؤكد غالب أنه للأسف الفكر الجهادى والتكفيرى أصبح منتشرا خلال الايام الحالية، ولم يعد فكر مجموعة، وربما يقتنع شخص بهذا الفكر وينفذ جرائمه بمفرده، ولهذا على الفتيات تجنب السير ليلا أو ارتداء ملابس لافتة، ومحاولة التحصن ببعض أدوات الحماية حتى يتمكن من الدفاع عن أنفسهن، وعلى المجتمع أن يتعاون، لأنه بكل أسف هناك لوم دائم على الفتاة وتبرير للطرفالمعتدى عليها، كأنها هى التى ارتكبت الجرم.
عنف سلبي

أما دكتورة هبة عيسوى أستاذ الطب النفسى بجامعة القاهرة، فتقول: إن هناك أنواعا من العنف، ومنها اللفظى والمعنوى، وهناك العنف السلبى، وهو النوع الذى حدث مع إسراء وهالة، ويكون من قبل شخص على قدر من الاحترام والوقار، ولكنه تعرض لإساءة ويريد أن يقوم بها، ولكن من دون عنف جسدى أو لفظى.

وتضيف: من مواصفات هذا الشخص انه يخشى المواجهة عندما يبادر بالعنف السلبى، فشخصيته سيكوباتية ومضادة للمجتمع، إذ إنه يتلذذ برؤية ضحيته بعد إرتكاب الجريمة ضدها، ويشعر بسعادة بعد ارتكاب تلك الجريمة، ولديه طبيعة سادية وروح انتقامية من المجتمع، ورغم انه من المتوقع عدم معرفته بها، ولكنه ينتقم لنفسه من شخص آخر فى صورتها.

وتكمل عيسوى: هو يحتقر النساء.. والدليل قوله إنه لا يعاكسها، كأنه ينفى التهمة عن نفسه ليؤكد لها أنه يحتقرها لهيئتها او شكلها، ومن الممكن أن تكون حالة فريدة، ولكن قد يكررها إذا لم يتم القبض عليه، لانه شخص لا يتعلم من اخطائه.

برنامج علاج نفسى

وتؤكد «عيسوى» أن الفتيات اللاتى يتعرضن لمثل تلك الجرائم البشعة، يكن فى حاجة لبرنامج علاج نفسى متكامل، فهن فى البداية يعشن مرحلة الصدمة والبكاء الشديد، وتنتابهن فى مرحلة ما بعد الصدمة حالة من الخوف الشديد والخيالات المرضية، كالشعور بأن شخصا يسير وراءها يريد أذيتها بشكل مستمر، وتظل لفترة تعانى من الضغط العصبى، ولابد ان يعمل الطبيب المعالج على سرعة العلاج والصبر للتأكد من أنها لن تتعرض لارتجاع الوعى كل فترة، حيث تتذكر الواقعة وتشعر بنفس المعاناة التى شعرت بها عند وقوعها.

إجمدى ضد التحرش

ويرى هانى هلال، الناشط الحقوقى، أن تلك الحوادث قد تكررت كثيرا، ولهذا اهتم العديد من المنظمات الحقوفية بتلك الوقائع ومنها مؤسسة «نظرة» و«خريطة التحرش الجنسى»، وتم تنظيم دورات تدريبية لتوعية الفتيات بمقاومة المتحرشين جنسيا والدفاع عن أنفسهن، وتم عمل برنامج «إجمدي» تحت عنوان «دا جسمك إنتى.. قوية وإحميه. خلى عندك وعى بيه، تعبتى من التحرش؟ بتحسى إنك مالكيش حيلة فى المواقف اللى زى دى؟ ده مش حقيقى».

 ويشرح هلال الفكرة: «إجمدى» هو يوم يحث السيدات والبنات على مواجهة التحرش، لزيادة اللياقة البدنية والوعى مع تمرينات «الزومبا فيتنس»، وتعلم أساليب تحمى بها نفسها من خلال تدريبات «الويندو» للدفاع عن النفس، والتعرف على طرق مقاومة التحرش مع خريطة التحرّش.