الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

6 أيام فى أرض كنعان




780 كيلو من «الفصل العنصرى».. مزقت العائلات.. قطعت الأرزاق.. وقتلت الأطفال 
 
رام الله المحتلة - أيمن عبدالمجيد
بينما البيوت الفلسطينية فى المنحدر بسيطة البناء فقيرة الفخامة، لكنها غنية الصمود مزدانة بالزهور وأشجار العنب تتحدى ما تتلقاه من قاذورات وطعنات المحتلين وقاتلى البشر والشجر، أعلى السور والسلك المكهرب الذى يفصل عدة بيوت فلسطينية عن الأرض المنهوبة والمسماة « مستوطنات» تطل كاميرات المراقبة برؤوسها كأفاع تنفث ثمها، تقتحم حرمة البيوت، ترقب كل من يخطو خطوة فيما تبقى من حديقة بيته أو يطل من نافذته، هل لى أن ألتقط صورة عبر النافذة؟ أجاب محمد مسرعا:»لا يمكن فتح النافذة سيطلقون علينا النار نحن هنا محاصرون، ينزل المستوطنون ليلا يحرقون ويحطمون سياراتنا، انظر هذه سياراتى التى أحرقوها كنت اعمل عليها لتوفير قوت أبنائي، واليوم أعمل مع صديقى فى ورشة لصيانة السيارات، يحاولون اجبارنا على الرحيل، يطلقون النار على منازلنا يروعوننا كى نرحل، وعندما يفشلون يحاولون أن يغرونا بالملايين، لكن أبدا لن نبيع».

٧ كيلو مترات تقطعها السيارة شمال رام الله، للوصول الى مخيم الجلزون الذى انشأ منذ العام ١٩٤٨ للفارين من مذابح عصابات الصهيونية، لم يقنع الاحتلال بما التهم من أرض، وينثر بؤره السرطانية للانقضاض على ما تبقى، على الحافة اليمنى للطريق أجزاء من جدار الفصل العنصرى يعلوه أبراج المراقبة، وجدر من الأسلاك الشائكة المكهربة التى تحمى «المنهوبات» التى يطلق عليها الاحتلال الصهيونى اسم «مستوطنات»، على الطريق وضعت لافتة تحمل «مستوطنة بيت إيل» وترجمتها بالعبرية، المنهوبات هى اللفظ الأدق.

فالاستيطان Land Settlement لغة:»هو اتخاذ الأرض موطناً» فيقال:أوطنت بالأرض أى اتخذتها موطناً، واصطلاحا:»هو عملية اجتماعية اقتصادية، تهجر فيها جماعة بشرية أرضها إلى أرض أخرى تستحدث بها مجتمعا بشريا». وفى الحالة الفلسطينية لم يكتشف اليهود ارضا جديدة غير مأهولة بالسكان ولم يتعايشوا مع مجتمع قائم بل نهبوا ارضا وهجروا شعبا.

وقديما كانت فرنسا وبريطانيا وامريكا وايطاليا، يسمون منهوباتهم مستعمرات للايحاء بأنهم قدموا للتعمير وليس نهب الثروات، فالمستعمرات فى القاموس اللغوى لفظة محدثة مشتقة من عَمَر، واستعمره فى المكان أى جعله يعمره، ومنه قوله تعالى:{هو الذى أنشأكم فى الأرض واستعمركم فيها}..(هود:61)، فالأصل اللغوي:يفيد معنى طلب التعمير والسعى لتحقيق العمران.

لكن ما اصطلح عليه الناس لا علاقة له بالمعنى اللغوي، فهو يعنى الاستيلاء على أوطان الغير ونهب ثرواتها وخيراتها واستعباد أبنائها، يتمسك الاحتلال بالمعنى اللفظى للإيحاء بكل ما جاء من أجله، إنها حرب المصطلحات.

بينما « النهب « فهو مصطلح غير قابل للتأويل، فالمعنى اللغوى يتوافق مع ما اصطلح عليه الناس: تعنى «اغتصاب حقوق الغير بالقوة والقهر والمغالبة» وهو ما حدث فى أرض كنعان عصابات نهبت أرض الفلسطينيين بالقوة والإرهاب والقهر مدعومة بوعد بلفور البريطانى الذي» أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق».
تلمع عيناها الزرقاوان، معلنة التحدى، وجهها الأبيض يشع نورا، سنوات عمرها المشرفة على السبعين لم تزدها وزوجها أبو عمر إلا إصرارا على البقاء، نهب الاحتلال الصهيونى من أرضهم قرابة ألف و ٢٥٠ دونم بقوة السلاح، والدونم يساوى ألف متر مربع، وفشل فى الاستيلاء على ما تبقى من قطعة أرض يضرب بجذوره فيها بيت صامدا اهله، «يعرضون مليونا لاترك بيتى لكنهم لو منحونى فى السنتى متر الواحد مليون دينار اردنى ما فرطت فيه» هكذا حسم أبو عمر،الشيخ السبعينى الذى يجبر كثيرا وزوجته على غلق منزلهما لايام خشية ان يصيبهما اذى الصهاينة، تقول ام عمر: «هذه الاسلاك على الشبابيك نضعها للحماية فحقد اليهود يدفعهم لالقاء الاحجار علينا وتحطيم زجاج النوافذ ويلقون القنابل الحارقة «، الجوع إلى الأمان يقاومه الدفء بين أربعة جدران تبقت من جسد وطن.

«أرجوحة أطفال» تسند ظهرها إلى سور أسمنتى يعلوه سلك شائك مكهرب جاثم على صدرها صنعه المحتلون ليحتمون خلفه فى «منهوبة بيت ايل»، لفظت انفاسها الأخيرة فيما تبقى من امتار معدودة بالحديقة، بعد أن عجزت عن احتضان احفاد ابوعمر، تحول ذراعيها إلى طعام يقتات عليهما الصدأ، استسلمت الأرجوحة للموت حزنا على أشجار الزيتون والأعناب التى اغتصبها الاحتلال وهو يلتهم تدريجيا ملامح مدينة وتضاريس وطن، هجرها الأطفال مجبرين فهى فى مرمى نيران المحتل واحجاره، ربما هى الأخرى رحبت بهجرهم أهون عليها من أن تراق على جسدها دماء البراءة برصاصة غادرة، لم يعد بإمكان أهل البيت التمتع بها، تركت فريسة للصدأ، هنا فى ارض المرابطين كل شىء ينبض بالمعانة من هول مايراه حتى الجماد والحجر، تقول أم عمر:» نحن لا نستطيع الجلوس فى بالكونة البيت، يطل علىَّ اليهودى ويقول اطفئى النور، أقول له ما شأنك، فأنتم تضيئون الانوار، فيقول اصمتى وإلا أطخك».

«الكلب لا يعض أخوه» مثل عربى يلخص به أبوعمر تجربته مع المحكمة الإسرائيلية التى لجأ إليها كثيرا لاسترداد بعض ما نهب من أرضه أو لوقف الاعتداء على منزله ممن يسمونهم المستوطنين لكن بلا جدوى فلن تنصر المحكمة الإسرائيلية فلسطينياً على المحتل الصهيوني، وتتواصل المعاناة فى مخيم الجلزون، «لن يعض الكلب أخاه ولن يصدر لى حكم لكن لن اترك طريقا للمقاومة دون أن أسلكه حتى مقاضاتهم فى محاكمهم».

دمعت ذاكرتى وانا استرجع وجوه اطفال من فلسطين تصادف خروجهم من مدرسة انشأها الاتحاد الأوروبى، بمخيم الجلزون خلال مرورى امامها منذ اسابيع، عدت ابحث بذاكرتى عن وجه الفتى وجيه وجدى الرمحى ١٥ عاما بزيه المدرسى بين الطلاب، أطابق وجه الطفل من كفن قطعة من القماش الابيض تلف جسده، بعد أن طالعتنا وكالات الأنباء باسمه وصورته، بوجوه الاطفال لعلى قد رأيته يلهو بين رفاقه فى لحظة عابرة، وجوه فلسطين واحدة تتقاسم ملامح الصمود، لولم أكن زرت فلسطين المحتلة ربما لما كان لفت انتباهى هذا الخبر الذى طالعته بعد عودتى من فلسطين بأيام، فكل مكان باتت تضاريسه محفورة بالذاكرة، كشفت الوكالات أن الاحتلال قتله برصاصة قناص فى الظهر أمام مدرسته، بينما علق أهله على الحادث: «،أعدمه الاحتلال كغيره من الأطفال بلا محاكمة» بات اسما شهيرا انضم الى قوافل الشهداء، ترى من يسقط غداً وبعد غد وضمير العالم صامت؟!.

خلف جدر وأسلاك على التلال يعيش المحتلون الصهاينة فى بؤر استيطانية، تحت حماية آلاف الجنود، مسلحين، يختارون المرتفعات بدعوى عقيدة دينية غير أن الحقيقة أنها أسباب أمنية تمكنهم من اقتناص الفلسطينيين، وإغراقهم بالصرف الصحى لإجبارهم على الرحيل، بيوت الفلسطينيين المرابطين تحولت إلى سجن، محاط بأسلاك الاحتلال من جانين، وأسلاك يضعها أصحاب البيوت لحماية أنفسهم من الاعتداءات المتكررة والقاذورات التى تلقى عليهم.

مثل الأفعى يتلوى جدار الفصل العنصرى، بطول ٧٨٠ كيلو مترا مربعا، يعزل ١٢٪ من أراضى السلطة الفلسطينية بما يعادل ٦٨٠ كيلو مترا مربعا من إجمالى ٥ آلاف و٦٠٠ كيلو متر مربع هى مساحة الضفة قبل احتلال ١٩٦٧، يقسم القرى والتجمعات السكنية، ١٧٣ تجمعا سكانيا يعزل عن محيطه السكنى والاجتماعي، تزداد إلى ٥٧٥ تجمع اسكانيا بها ٢٠٨ آلاف فلسطينى، وقطع من الأرض الزراعية باستكمال بناء الجدار بحسب محمود جرادات نائب رئيس الجهاز المركزى للإحصاء الفلسطينى، مضيفا: مستوطنة بيت ايل هى واحدة من ٤٨٢ بؤرة استيطانية تحوى ٥٣٧ ألف مستوطن فى المنطقة الوسطى بالضفة والقدس، والاحتلال لا يقنع وكل يوم يخطط لنهب أراض جديدة وتشريد الفلسطينيين.

فرق بين الفلاح وأرضه، العامل ورزقه، والأمهات وبناتهن المتزوجات فى ذات القرية، مزق جدار الفصل العنصرى بين الأسر أهل القرية الواحدة وبين التلاميذ ومدارسهم، وبات لقاء الأم بابنتها فى مئات الأسر الفلسطينية يتطلب تصريحا، وسنوات من الانتظار حتى يسمح الاحتلال.

يتذكر محمد بدر بحسرة أشجار الزيتون وأرضا كان يملكها شطرها الاحتلال بجدار عنصرى فباتت خارج محيط القدس لا يملك منها حتى التمتع بنظرة عين، قرابة ثلاثة آلاف أسرة فلسطينية مزقها الجدار وبات لقاء أفرادها حلما، السفر الى دول أوروبية للقاء بها أسهل من أن يتم لقاء بينهم على ارض وطنهم، هم على مرمى البصر، لولا الجدار اللعين.

٥٠٠ حاجز فى الضفة الغربية وغزة ناجمة عن الجدار الذى بدأ الاحتلال بناءه عام ٢٠٠٢ فى عهد شارون، ولم يكن وليد اللحظة بل مخطط صهيونى قديم يجرى تنفيذه، لعزل المقاومة الفلسطينية وغل يدها، تقول إحصائية صادرة عن مركز الاعلام والسياسات الصحية الفلسطينية إن ٢٠٪ من وفيات الأطفال فى فلسطين ناجمة عن حواجز الجدار وعزل مناطق عن المستشفيات، وإعاقة نقل المرضى من الأطفال لمراكز العلاج، حيث يتوفى العدد الأكبر فى انتظار إذن المرور إلى المستشفيات على الحواجز، فيما يعبر ٤٠٠ ألف فلسطينى الحواجز من والى مقار عملهم بحسب مكتب الامم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
إرادة الفلسطينيين أقوى من فولاذ الاحتلال وجدرانه الخرسانية، فرغم الجدار وارتفاعه الذى يصل الى ٨ أمتار و٩ أمتار فى المناطق المأهولة بالسكان، وأبراج الحراسة والمراقبة الممتدة بطول الجدار فإن المقاومة الفلسطينية ترسل من آن لآخر رسائل للاحتلال مفادها، نحن قادرون على هدم الجدار والعبور إلى القدس وأراضينا فى الوقت الذى نشاء دون إذن من الاحتلال، بسواعد المقاومة القوية والمطارق يهدم شباب المقاومة بضعة أمتار من الجدار، لتحطيم صلف وغرور الاحتلال.

هناك فى الضفة الغربية خرجت مجموعة من المقاومة حاملة مطارق فولاذية فى جنح الظلام، تحمل أرواحها على اكفها، تنهال على جزء من الجدار، على غطرسة الاحتلال، تتهاوى الكتل الخرسانية يفتح ثقب بطول وعرض مترين يعبر الشباب الى القدس الشرقية ليثبتوا لأنفسهم أن إرادتهم أقوى، وللاحتلال أنهم قادرون وأنه فى مرمى المقاومة ولن يحميه جبنه والقتال من خلف جدر، يتسلق شاب الجدار يرفع علم فلسطين، يمر بعضهم من الفتحة يوثقون اللحظة بكاميراتهم، تلتقط كاميرات أبراج المراقبة الحدث، تبدأ قوات الاحتلال فى التحرك، تهرول السيارات الجيب حاملة مئات الجنود من جيش الاحتلال مطلقة قنابل الغاز ونيران البنادق، يسرع أبطال المقاومة بالانسحاب بعد أن وصلت رسالتهم، وفى يوم الجمعة من كل أسبوع تكون رسائل أخرى عنوانها بالعين.

«غانديو فلسطين» لقب أطلقه النشطاء الغربيون على أهالى قرية «بالعين» تلك القرية القابعة على بعد ١٢ كيلو مترا غرب مدينة رام الله، تبتكر كل جديد فى أساليب المقاومة السلمية للاحتلال والجدار العنصري، ألفى نسمة هم عدد سكانها، اغتصب الاحتلال ٢٢٠٠ دونم من أرض القرية بما يعادل ٢ مليون و٢٠٠ ألف كيلو متر مربع، فى بداية العام ٢٠٠٥، ليعزلهم خلف الجدار العنصري، لكن أهل القرية لم يستسلموا، جعلوا من إرادتهم الصلبة وصدورهم العارية دروعا تواجه مدافع المحتل وفوهات بنادقه، نظموا احتجاجات سلمية أسبوعية متواصلة منذ ٩ سنوات، تارة يجلسون على الأرض ويربطون أقدامهم وأجسادهم فى أشجار زيتونهم فى مواجهة جرافات المحتل التى تقتلعها، لغرس جدار خرسانى عنصري، وتارة أخرى يرفعون الأعلام الفلسطينية ويتقدم تظاهراتهم عريس وعروس فى لباس زفافهما يوم عرسهما، لم يثنهما عن نضالهما الشعبى قنابل الغاز التى يطلقها الاحتلال ورصاصات الخرطوش، وقتل عدد من المتظاهرين بالرصاص الحى فى كثير من الأحيان، لم يوقف تظاهرتهم الأسبوعية إصابة ٦٠٠ من أبناء القرية إصابات خطيرة واعتقال المئات، باتت «بالعين» رمزا للمقاومة السلمية، يتضامن معها وفود دولية من مختلف بلدان العالم.

فى فجر ١٦ نوفمبر الماضى كان هناك مقاومون يهدمون جزءا من الجدار فى منطقة «برنابالا» قضاء القدس وفى الظهيرة يواجه قنابل الاحتلال نشطاء من ٤٠ دولة عربية وأوروبية تضامنا مع أهل «بالعين» بينهم مصريون، نضالهم السلمى حرك ضمير نشطاء بالعالم، واجبرت المحاكمة العليا الإسرائيلية أمام الرأى العام العالمى على الحكم لأهل القوية باسترداد ١٢٠٠ دونم من أرضهم المنهوبة، فقد نهب الاحتلال قرابة ٥٢٪ من مساحة القرية البالغة ٤ آلاف دونم، واعاد لهم الربع، سرق البيت واعاد لهم غرفة، تجسيد للتاجر اليهودى الذى صوره شكسبير فى «تاجر البندقية» لكن مقاومة «بالعين» تحقق نجاحات فى استعادة اجزاء من ارضها المنزرعة بالزيتون والجوز واللوز والتين والعنب ومساحات تزرع بقوليات وخضروات، وما زال النضال مستمراً أسبوعيا.

على جدار العزل العنصرى هناك مقاومة أخرى، سواعد تهدم الجدار وسواعد ترسم شعارات المقاومة وصور الشهداء لتذكر بأن هناك من ضحي، وهناك مازال فى جوف المحتل وطن يحتاج تضحيات لتحريره، أحد رسومات الجرافيتى تصور يد صهيونية تبقر بطون أمهات فلسطينيات حوامل لانتزاع الجنين يريدون قتل المستقبل، لكنها أرض فلسطين الخصبة ستواصل الإنجاب، فكل شهيد يرفع إلى السماء ألف غيره بيتولد، مازال الاحتلال يبنى الحواجز، ومازالت أمهات فلسطين تبنى فى النشء الإرادة، برغم غابات الجدران والاسلاك والحواجز، ها أنا ألمح هناك أسراب الطيور تعبر على عجل حيث لا حواجز فى السماء، وإن صادفها يوما قذائف طائرات المحتل، ستعبر بين النيران كما تتسلل بين حبات المطر.