الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

المعلم بولس




آثرتني واستأثرتني وأسرتني شخصية المعلم (بولس)، أو (بولص) كما ينطقها الممثلون في مسلسل (شيخ العرب - همام) محاكاة منهم للهجة الصعيدية.. هذه الشخصية التي أداها (الفنان شعبان حسين) ببساطة ونضج وخبرة.. تمثل توثيقاً للدور الذي قام به بعض أقباط مصر في التفاعل الاجتماعي بين فئات صعيد مصر.. وفي مجتمع العصر المملوكي.. وفيما بعد في زمن الدولة التالية مع بدء حكم محمد علي باشا.

اهتم الأقباط بالتعلم منذ وقت مبكر، واحتجزوا لأنفسهم مواقع مهنية مميزة في دواوين مصر، وقد كان (بولس) بمثابة موثق ديوان (شيخ العرب ـــ همام).. وفيما بعد يمكن أن ترصد ذلك بشكل تاريخي دقيق في الدولة المصرية الحديثة.. وصولاً إلي أن أصبح الأقباط في قمة السلم الاجتماعي والسياسي.. من خلال رئاسة نوبار باشا للوزراء في عهد الخديو إسماعيل.. أو وزارة بطرس باشا غالي في عصر الخديو عباس حلمي الثاني.. أو نماذج أخري متنوعة.

أهمية (بولس) ليس في كونه يعبر عن هذه المكانة القبطية التي تطورت من مرحلة إلي أخري، حتي إن كان خارجاً عن نسيج قبيلة شيخ العرب، ولكن في كونه - بإصرار من المؤلف - قد جسد معايير الدقة.. والحرص علي انضباط العمل.. والالتزام بالمهنية.. وأقول إصرار المؤلف لأن الأحداث كان يمكن أن تمضي دون أن يتوقف عند هذه الملامح في شخصية بولس ودوره.. لكنه نحت المعني وحفره في كتلة الأحداث وأردف يكرره لكي يرسي القيمة.. فالدراما ليست مجرد حكاية والمسلسل ليس مجرد تسلية وإن كان لابد أن يسلي.

يصف المصريون المتساهلون، الذين يتواكلون، مواقف المعلم بولس في دراما (شيخ العرب ـ همام) بأنها نوع من (النمكية).. وهي كلمة عامية تشير إلي الدقة المفرطة التي قد تعرقل العمل.. غير أنه عبر عن نموذج حريص تماما علي أداء الأعمال بما ينبغي أن تكون.. حتي لو كان من يعاقبه علي عدم فعل ذلك من أبناء ملته.. فكل الكتبة في ديوان شيخ العرب كانوا هم بطرس وميلاد وآخرين من الأقباط.

يتجاهل كثير من الأعمال الدرامية أن تشير إلي معان مهمة من هذا النوع وهي تستغرق في الحكاية.. فيما مضي كانت الأعمال الفنية ـــ بدون ان تكون مدرسية - تهتم بهذه المهمة الواجبة.. ترسيخ معاني العمل.. قيم الدقة.. معايير الاحتراف.. وبما في ذلك سلوك الأفراد وتصرفات الأشخاص.. وصولا إلي طريقة قطع رغيف الخبز علي مائدة تجمع مجموعة من الأفراد.. ومن المدهش أن عشرات من أعمالنا لم تزل تصر علي أن تضع أمام ثلاثة أشخاص عدداً كبيراً من (الفراخ المحمرة) كما لو أنهم مقبلون علي وليمة.

بالعودة إلي المعلم بولس سوف نكتشف أن الدير في الصعيد كان له دور آخر غير عمليات استصلاح الأراضي الموسعة التي تحرص عليها الأديرة الآن.. الدير بخلاف مهمته الروحية كان يعلم ويربي وبمثابة مدرسة تخرج الكوادر القبطية القادرة علي القيام بمهمات نستطيع أن نعتبرها عملاً محترفاً بمقاييس العصر.

وبالطبع لم يكن بين أقباط ديوان شيخ العرب من يريد أن يسافر إلي الخارج لكي ينال حقوقه بعيدا عما يقول إنه ظلم.. كما أن الوضع الصعيدي لم يكن يمثل نوعا من الاضطهاد للأقباط.

كما لو أن المميزات التي أتاحها العصر وتقدم العلم قد أدت إلي توتير المجتمعات واختلاق الفتن بين أبنائه.. وكما لو أن حياتنا المتناغمة كانت تحتاج لأن تبقي بمعزل عن أدوات العصر حتي لا تنتقل إلينا عدوي الأفكار التي تثير القلاقل وتقض الاستقرار.

إن المعلم بولس بإخلاصه ودقته كان في النهاية موظفًا تابعًا لدي شيخ العرب همام، بحيث إنه اخترق القيود القبلية المعقدة لدي الهوارة، وهي من الصعوبة بحيث لا يمكن المساس بها، وليس هذا بالطبع النموذج الذي أتمناه للقبطي في مصر.. فالقبطي مواطن مثله مثل المسلم.. ويجب أن ينال موقعه علي أسس غير دينية.. وباشتراط الكفاءة دون غيرها.. ولكني أركز علي هذا النموذج باعتباره آتياً من رصيد التاريخ الطويل الممتد بين عنصري الأمة منذ زمن بعيد.
الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net
البريد الإليكترونى: [email protected]