السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

ميلاد خير البرية.. معلم الدبلوماسية الأول




كتب - مصطفى عرام

لما كان التكليف الربانى أحد أهم مهام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهى الدعوة إلى نشر دين الإسلام.. التى يريد لها النمو والازدهار.. فإنه أمر صحابته وأوائل المسلمين بالهجرة إلى الحبشة صونا وحماية لهم من بطش قريش.. ولما استتب أمر رسالته وأسس دولة المدينة، فإنه بدأ يفكر فى التمكين لدولة الإسلام سياسيًا، حتى لا يكون هناك عائق مستقبلا يحول دون أداء المسلمين شعائرهم أو انتشار الإسلام بشكل سلس، وقد بدأ هذا التمكين بإعلانه بين المسلمين النية للذهاب لأداء العمرة.. فكان توقيت الإعلان فى الأشهر الحرم.. وهذا التوقيت له دلالته عند العرب قبل الإسلام وبعده.. إذ يحرم فيه القتال مهما كانت الأسباب، وكان الجميع يعلم أن قريشًا تتربص بهم وتترصد لهم.. ومع ذلك أصر على ألا يحملوا من السلاح إلا ما يلزم لحماية الركب فى طريقه إلى مكة، بل إن الدهاء السياسى جعله يصطحب معه من غير المسلمين من يرغب فى أداء العمرة، فلو كان خارجا للحرب.. فإنه كان سيخرج بالمسلمين فقط. فالنبى كان قادرًا على التعايش مع غير المسلمين طوال الرحلة المضنية من المدينة إلى مكة، فإذا ما منعت قريش محمدا ومن جاءوا معه من أداء العمرة، فإنها تكون قد منعت العرب، وليس المسلمين وحدهم، من أداء شعائرهم الدينية.

علمت قريش بقدوم النبى ومن معه لأداء شعيرتهم، فأقسموا على ألا يدخل مكة.. وأخذوا يتناقشون فى الحلول المطروحة أمامهم:

فإما أن تمنع الرسول والصحابة من أن يدخلوا البيت الحرام لأداء العمرة، فإذا ما فعلت ذلك فإنها تفقد زعامتها الدينية فى الجزيرة العربية. وإما أن تترك محمدا وأصحابه يدخلون مكة.. وهذا انتصار له، إذ يعنى أن مشكلاته مع قريش سُوّيت، وأن على العرب أن يستمعوا إليه. وإما أن ترفض دخول محمد عليه الصلاة والسلام إلى مكة على أن تتفق معه على صلح لا يدخل بموجبه مكة فى ذلك العام، لكن يدخلها فى العام التالى.. وهذا انتصار أكبر له؛ إذ إن إبرام الصلح يعنى أنه لم تعد هناك مشكلة تحول دون دخول العرب فى الإسلام، والنبى بهذه البدائل كلها يكسب الحرب الدبلوماسية أو السياسية مع قريش.

تُردد أصوات عدة بل تُنكر أى دور سياسى للنبى، وجعلوا دوره ناحية دينيةً خالصة ناشئة عن الوحى الإلهى.. ليس فيها اجتهاد؛ والقائلون بهذا يمثلهم الخوارج قديماً وبعض المستشرقين والشيعة القدماء والمعاصرين الذين يؤمنون بالإمامة الإلهية دون بقية المسلمين، والتى تطورت اليوم تحت غطاء ولاية الفقيه عن الإمام المعصوم الغائب.

والرد عليهم أن السياسة لا تقف عند أعيان الأحكام الدينية بسبب تطور وتغير أحوال البشر. ولذلك، ففى السياسة كثير مما يشرعه الرسول ولم ينزل به الوحى، فإذا جاء هذا القسم متسقاً مع مقاصد الشريعة والدين القائمة على الحق والعدل، كانت جزءاً من السياسة الشرعية، أما إذا حادت عن طريق العدل كانت مجافية للسياسة الشرعية.

ومثال ذلك.. أن النبى عليه الصلاة والسلام عقد البيعة مع الأنصار مرتين قبل الهجرة، والجانب السياسى فيها ظاهر بأن يحموه ويناصروه، وطلب منهم انتخاب قيادة تمثلهم عنده. ولمّا هاجر عليه السلام، عقد اتفاقية مع اليهود الذين لم يدخلوا فى دينه لكنهم دخلوا فى دولته، وكانت هذه الاتفاقية لتنظيم العلاقة فيما بينهم وبين المسلمين فى جميع المجالات المحلية والخارجية، كالحروب وغيرها.

كذلك فى غزوة بدر حين راجعه الحباب بن المنذر عن خطة الحر ب فقال «أمنزل أنزلكه الله، فليس لنا أن نتقدم أو نتأخر عنه؟ أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟»، فجاء جواب النبى: «بل هو الرأى والحرب والمكيدة». فعارض الحباب هذا الرأى وأشار برأى أفضل. وعندما رأى النبى أن يستميل اليهود ببعض ثمار المدينة فى غزوة الخندق عندما حاصره الكفار، فرفض الصحابة ذلك ووافقهم النبى.

أما خصومه فى الخارج؛ أو ملوك الأمم والامبراطوريات التى تحيط بالجزيرة.. فإنه بعد صلح الحديبية الذى كانت مدته عشر سنوات، أخذ يجهز لهم السفراء.. ليحملوا إليهم رسائله؛ فكان اختياره عليه الصلاة والسلام لسفرائه قائما على مواصفات رباهم عليها، فكانوا  يتحلون بالعلم والفصاحة، والصبر والشجاعة، والحكمة وحسن التصرف، وحسن المظهر.

فرغم أن الهدف دينى، لكنه كان يتحسب لردود أفعال هؤلاء الملوك، ويحتاط لسلامة سفرائه ومبعوثيه إليهم، فكثير ما تغنى السبل السلمية والدبلوماسية عن اللجوء للاقتتال، بل إن النبى لم يلجأ إلى التوسع فى نشر دعوته قبل أن يؤمن دولته داخليًا من خصومه.

فاختار النبي دحية الكلبى وأرسله إلى هرقل عظيم الروم، وكان دحية يُضرب به المثل فى حسن الصورة، ومع حسن مظهره كان فارسا ماهرا، وعليما بالروم. وأرسل عبد الله بن حذافة إلى كسرى عظيم الفرس، وكانت له دراية بهم وبلغتهم، ويضرب به المثل فى الشجاعة ورباطة الجأش. وإلى المقوقس ملك مصر حاطب بن أبى بلتعة، الذى كان أحد فرسان قريش وشعرائها فى الجاهلية، وعلى علم بالنصرانية، ومقدرة على المحاورة.

وقبل التطرق إلى أمر هذه الرسائل؛ فإن هناك نقاطًا محسومة لا خلاف عليها، أنها كانت تدعو هؤلاء الملوك إلى الإسلام؛ من هؤلاء الملوك من كان يعلم بأمر الإسلام قبل أن ترسل إليه هذه الرسائل؛ أن الردود على هذه الرسائل يترتب عليها القرار الذى سيتخذ مستقبلا.. وآلية التعامل مع هذه الأمم، وإحدى هذه الآليات أن يسيّر النبى جيشًا ليفرض على الحكام والملوك الامتثال لدعوته وألا يقفوا عقبة تحول دون انتشار الإسلام؛ وهذا يستدعى قوة من المرسل تتمثل فى دولة وجيش وقائد.

إن الرسائل ذات الصيت الواسع يبلغ عددها نحو تسع رسائل، وإجمالى عددها نحو بضع وسبعين رسالة كتبها النبى، سنذكر منها ثلاثًا:

رسالته إلى ملك الحبشة: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشى ملك الحبشة: سلام عليك إنى أحمد الله إليك، الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه الله من روحه كما خلق آدم بيده، وإنى أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصحى، والسلام على من اتبع الهدى».

رسالته إلى حاكم البحرين: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد فإنى أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، ومن يطع رسلى ويتبع أمرهم فقد أطاعنى، ومن ينصح لهم فقد نصح لى، وإنّ رسلى قد أثنوا عليك خيراً، وإنى قد شفعتُكَ فى قومكَ، فاتركْ للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوتُ عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح، فلن نعزلكَ عن عملك، ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية».

رسالته إلى ملك الروم: «بسم الله الرحمن الرحيم» من محمد بن عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين (أى الرعايا من الفلاحين والزراع) {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.

وهذه الرسائل الديوانية، أو الرسمية، أو العامة تميل فى أغلبها إلى الإيجاز والمباشرة فى معالجة الموضوع، وغلبة عنصر الفكر على عنصر الوجدان، وجاء الأداء التعبيرى فيها بالأسلوب المرسل دون تكلف أو تصيّد بعيدًا عن السجع، والتزين اللفظى، وهى مطعمة غالبًا ببعض آيات من القرآن الكريم.
ويخاطب فيها كل ملك بما يناسبه ويليق به، وبما يتناسب مع الهدف المرجو، فرغم أن هذه الرسائل هى دعوة إلى الدخول فى الإسلام، فإن المسلمين حينها كانوا قد بلغوا من القوة مبلغًا يعينهم على مواجهة أى عناد ومكابرة، وكذلك فإنها لم تكن تحمل تهديدًا؛ بل كانت فى فحواها تحديًا، ولم تكن الرسائل طمعًا فى جاه؛ أو استثمارًا لما بلغه المسلمون فى هذا الوقت من قوة، بل استكمالا لمهمة تتناسب مع طبيعة المرحلة، بدليل أنه أبقى بعض هؤلاء الملوك على ملكهم بعد استجابتهم لدعوته.

والقول بأن النبى صلى الله عليه وسلم «لم يكن له فى تلك السنة حول وطول» قول غير صحيح، ففى هذا العام رهبته قريش، وإلا لقاتلته فى الحديبية، بل إنه والمسلمين مع أنهم لم يكن معهم من السلاح إلا السيوف فى أغمادها تأهبوا لقتال قريش اعتقادًا منهم أن قريش قتلت عثمان بن عفان رسول نبى الله إليها فى مكة. فالمسلمون خلال عامين فقط (الخامس والسادس من الهجرة) استطاعوا أن يقوموا بعشرين غزوة وسرية.

واللافت أن هذه المكاتبات بعث بها النبى إلى الملوك والحكام، بعد أن عزل «جبهة قريش» سياسيًا، وعسكريًا، وجنى بصلح الحديبية مكاسب سياسية كبرى.

وللنبى صلى الله عليه وسلم رسالة خاصة أو إخوانية واحدة، وهى الرسالة التى كتبها إلى الصحابى الجليل معاذ بن جبل رضى الله عنه يعزِّيه فى ابن له مات.

ومن خلال هذه الرسائل أظهر الرسول عليه الصلاة والسلام دراية وحكمة فى سياسته الخارجية، وأصبحت مثالاً لمن جاء بعده، فأظهر قوة وشجاعة فائقتين، فلو كان قائدًا غيره، لخشى عاقبة ذلك الأمر، لاسيما أن بعض هذه الرسائل قد أرسلت إلى دول كبيرة وملوك أقوياء، كهرقل وكسرى والمقوقس.