الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

التحليل النفسى لقيادات جماعة الإخوان المسلمين ـ أردوغان 2 ـ الحلقة 27 ـ أفندينا




كتب : د/ على الشامى

يقول الكاتب والفيلسوف اليونانى نيكوس كازانتاكيس: «ما إن نولد حتى تبدأ محاولاتنا فى أن نخلق ونبتكر، أى أن نجعل للمادة حياة»، أى نولد فى كل لحظة، لذا جاهر البعض ولا أبالغ إن قلت أن هدف الكثيرين فى هذه الحياة هو الخلود، فى الأجسام الحية الفانية يتصارع هذان التياران، الصاعد نحو التركيب، نحو الحياة، نحو الخلود، الهابط نحو التحلل، نحو المادة، ويقول «نيكوس» أيضا فى وصف هذين التيارين: «هذان التياران كلاهما مقدس»، إلى هنا انتهى كلام كازانتاكيس، ويقول الطبيب النفسى والمفكر النمساوى الشهير سيجموند فرويد: «إن الإنسان يحمل داخله - أى فى النفس اللاواعية - رغبتين احداهما هى رغبة البناء، ودعاها «الإيروس»، والأخرى رغبة الهدم وسماها «الثانتوس»، وفى بدء مشروعه العلمى أكد سيجموند فرويد أن الإنسان تحركه الدوافع طبقًا لغرائزه الجنسية فقط، تعرض بعدها لانتقادات شديدة ورفض أشد فى الأوساط العلمية والطبية أجبرته على تعديل آرائه فى نهاية حياته إلى مفهوم أقل حدة، وهو أن الجنس هنا المقصود به كل صور البناء والحياة، وأن العدوان والتدمير المقصود به كل الصور السلبية والهدم والرذائل حتى المعنوية منها، بل خصوصا المعنوية منها التى يمكن أن تندرج تحت هذا اللواء.


وفى الفترة الأخيرة ابتليت بلادنا ليس فقط بطوفان من النوع الثانى الهدمى والتدميرى، بل وبتمكن هذا الطوفان لفترة من مقدرات البلاد ومفاصلها، هذا الطوفان هو جماعة الإخوان الإرهابية، أما الابتلاء فهو مشروعها المقصود به التمكين لها فى جميع أرجاء الدولة المصرية، فيما عرف إعلاميا بمشروع «الأخونة»، وقامت على هذا المشروع الخطير الغريب عن مصر مجموعة من الشخصيات أغرقت البلاد فى فوضى لا مثيل لها، حتى لفظت مصر شعبيا هذا الكيان الإرهابى الغريب النبت، ونحن نهدف هنا بالأساس لمحاولة فهم ما يدور فى نفوسهم، وبعض الديناميكيات لهذه الشخصيات التى تقود الجماعة الإرهابية، نتساءل: ما التكوين النفسى لهذه الشخصيات؟ هل هى شخصيات سوية أم بها خلل ما؟ سنحاول جاهدين بلا إفراط ولا تفريط أن نوغل برفق فى تحليل نفسى بسيط لهذه الشخصيات، والتى ظلت طوال عام كامل من حكم الإخوان تطل على الساحة تحت الأضواء حتى أفول نجم الجماعة، فضلا عن سيطرتها على مقاليد الأمور بالدولة بعد ثورة 30 يونيو.

كنا قد تحدثنا فى الحلقة السابقة عن ملامح شخصية رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان، وتناولنا مفهومين أساسيين، الأول كان الملامح النفسية الخاصة به وبشخصيته وتلك التى تتماس مع المجموع الكلى أو المشترك بين أعضاء الجماعة وإن اختلفت ألوانهم وألسنتهم، أما المفهوم الثانى فقد عرجنا إلى نظرية كارل جوستاف يونج والتمسنا فيها نقطة غاية فى الأهمية وهى الوعى الجمعى لجماعة بشرية معينة، صعودا إلى المشارك العام بين أفراد الجنس الإنسانى كله وهو ما ميز نظرية يونج عن نظرية فرويد فى نفس الصدد، والذى لا يعترف بمفهوم الوعى الجمعي، مقتصرا على الوعى الفردى للإنسان فقط والمتكون مع الوقت من واقع خبراته الشخصية ولا شيء آخر، أى يعامل الإنسان كوحدة واحدة مستقلة، ولكل رأى وجاهته.

هناك ملمح مهم - طبقا ليونج - سنتعرض له وهو مبدأ الاتحاد، وهو أمر مبنى على الاواعى يمارسه الناس، بمعنى أن وجود قوتين متصارعتين يدفعهم للتطاحن، ولكن عند ظهور قوة ثالثة قوية تهدد كلا القوتين فإن هاتين القوتين تسارعان إلى الاتحاد فى مواجهة هذه القوة الثالثة المهددة، ونجد ذلك ليس على المستوى النفسى فى اللاوعى البشرى وحسب و إنما على مستوى التصارع السياسي، فقد اجتمعت عدة قوى تاريخية أوروبية مع روسيا ضد محمد على لإيقاف مشروعة التوسعى الذى بات يمثل تهديدا لتلك الدول خاصة فى ظل ضعف الدولة العثمانية وعدم قدرتها على ردع القادم القوى المنطلق نحو أوروبا، وقد أوردت هذا الملمح للتأكيد على أن الاتحاد على المستوى النفسى أحيانا ما يكون لجلب لدفع ضرر مثل ما ذكرنا، وأحيانا دفع ضرر وجلب منفعة سواء بسواء، وهو ما لمسناه فى تعاون الإخوان مع الأجهزة الأمنية فى كل العهود رغم التطاحن المستمر بينهما، وهو أمر يتجاوز المشهد «الفرويدي» - نسبة لفرويد - فى الصراع الثنائى إلى المشهد «اليونجى» - نسبة إلى يونج -  فى الصراعات متعددة الأقطاب فيتحول الصراع على المستوى الثنائى وقت الأزمات - الانتخابات وماشابه - إلى حالة الاتحاد اليونجية، وما تلبث حالة الاتحاد أن تتفكك إلى مكوناتها فيحتدم الصراع الفرويدى الكلاسيكى ثانية وهكذا.

كنا قد تحدثنا عن ما يسمى بالحيل الدفاعية وهى أساليب لحفظ النفس  أو الذات «الأنا» وعدم انسحاقها فى الصراع تحت تأثير القلق العصبى أو لتحقيق غايات وأحلام هذه الشخصية وطموحاتها، وأحد هذه الحيل الدفاعية أو الطرق التى تنتهجها النفس لحل الصراع واحد، أهم هذه الطرق طبقا ليونج هو مايسمى بالتعويض، ويمكننا أن نوجزه فى أنه عندما تشعر الشخصية بأنها فى حالة صراع نتيجة عجزها عن تحقيق هدف مرغوب فيه فإنها تبحث لنفسها عن أهداف أخرى لها نفس الجاذبية ويترتب على تحقيقها إزالة هذا الصراع، ونتوقف هنا عند موقفين غاية فى الأهمية، الأول هو موقف اعتذار أردوغان نيابة عن الدولة التركية عن السلوك المشين لها تجاه الأكراد، فنجد أنه قد قدم - أردوغان -  خلال اجتماع لحزب العدالة والتنمية فى أنقرة اعتذارا تاريخيا حول الأحداث المأساوية التى وقعت بين سنوات (1936- 1939) فى منطقة درسيم، التى ارتكبتها الحكومة التركية آنذاك، ممثلة بالحزب الجمهورى بحق الأكراد العلويين فى نهاية الثلانينات من القرن الماضي، وقوبل هذا الاعتذار بترحيب شديد من قبل رئاسة إقليم كردستان، والتى رحبت بتصريحات أردوغان و ليس ذلك فقط، بل أعطاهم أردوغان سلطات نسبية من الناحية المعنوية على الأقل، كحق التدريس والحديث باللغة الكردية وغيرها من المزايا المعنوية التى منحتها تركيا للأكرد، وهنا نجد التجاوز السياسى إلى النفسى الذى يصب فى صالح المرونة والمحاولة لكسب ود الاتحاد الأوروبى للانضمام إليه، وهو ما نوهت عنه من منطلق التعويض، أما الموقف الثانى فكان فى مؤتمر دافوس والذى قام فيه رجب طيب أردوغان بموقف غاية فى الغرابة، وهو انسحابه المفاجئ من الجلسة احتجاجا على عدم إعطائه الفرصة الكاملة للحديث بشكل ووقت مواز لشيمون  بيريز رئيس وزراء الكيان الصهيونى-  فى ذلك الوقت -، وبغض النظر عن الإستعراض الهستيرى والذى تحدثنا عنه فى الحلقة الماضية نجد أن هناك حالة من الصراع الداخلى نتيجة الضعف، ضعف الموقف تجاه اسرائيل وأمريكا فى غير صالح القضية الفلسطينية، وهو ما يخلق صراعا داخليا، ولخلق حالة من التعويض، والتعويض هنا عن أمرين، الأول أنه يدافع ويناصر القضية، والثانى أنه بطل مغوار يحمل جينات أفندينا العثمانى المسئول عن المنطقة وعن كل رعاياها، وهى نظرة استعلائية قدمنا لها فى الحلقة السابقة.

فى إطار التعويض عن حالة الـ «أفندينا» هذه يطلق أردوغان تصريحات عدائية متوالية تدخلا فى الشأن المصرى وتجاه ورموزها لتعويض ضياع مصر من بين أيديهم وانتهاء حلم عودة الحكم العثمانى بها وبغيرها، نقطة أخرى يجب سردها للأمانة العلمية، فأحيانا ما يكون مبدأ التعويض فى اتجاه ايجابي، وليس دوما فى اتجاه سلبي، فأردوغان استطاع أن يقدم نموذجاً ناجحا اقتصاديا وسياسيا وتنظيميا لاسطنبول ونقلها نقلة حضارية على المستوى الاقتصادى ولا سيما السياحي، وذلك للتعويض عن إرث بغيض من الحكم الدينى انتهى بانتصار العلمانية، وكأنه يريد إيصال رسالة مفادها أنه ليس كل ما ستجدونه من التيار الدينى سيئا، وكان هذا إبان فترة توليه لمنصب عمدة اسطنبول، ومازالت هناك بعض الملامح النفسية التى سنوردها فى الحلقة القادمة عن رجب طيب اردوغان، أفندينا العصر الحديث.