الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

حرية سليمان: لست ضد الرجل وأرفض وصف كتاباتى بالعنصرية




كتبت- ر انيا هلال
بين طيات حلم تحاول أن تستكمله المجموعة القصصية «بطعم التوت» للأديبة حرية سليمان، يراود القارئ ويدفعه للتأمل، لا بد أن تعتريك الدهشة حين تقرر خوض التجربة لتستيقظ على عوالم من الفانتازيا المميزة، فتمر شخوص ومواقف وأماكن وومضات متتابعة كفلاش الكاميرا، وتضعك أمام حقائق طالما آلفتها بلغتها الجافة لكنك تكتشفها هذه المرة بلغة فانتازية رشيقة فى المجموعة.

■ نبدأ من عنوان المجموعة..  هل ما زلنا قادرين على الشعور بطعم التوت؟
ـ العنوان يعود لقصة من قصص المجموعة وعنوانها «طعم التوت» وأضفت الباء لمزيد من الحميمية، ولإضفاء الخصوصية على نسيج المجموعة، واخترت التوت كثمرة لارتباطه برغم دقة تكوينه بطبيعتنا كصغار، ولهاثنا المستمر وراء طعم حلو يشبه براءتنا، لذا ثمة ارتباط وثيق بين التوت و مشاعرنا وتراثنا وصورنا الدافئة بقدر تغلغلنا بالماضى، من منا لم يتذوق  ذاك الطعم البكر ليعاوده الحنين للطفولة ولتتداعى الصور كلها لتصب فى بوتقة الذكريات «القرية، الصحبة، الدفء، الوشوم» لكننى مع ذلك أجد التوت كمفردة تحمل من الشجن ما يفوق حروفها.
■ فى المجموعة ركض متواصل خلف الذكريات، فهل أنت ممن يعتنون بذكرياتهم؟
ـ ولدت بقرية تتبع مركز ميت غمر، كان لجدى بيتا كبيرا تحيطه الحقول من كل جانب، لكن لكى نزور حقل جدى كان لابد أن نقطع مسافة كبيرة على أقدامنا، تتخللها صور كثيرة دافئة، الحقول على اتساعها، أشجار التوت الضخمة وحقول الأرز الممتدة، إصفرار سنابل القمح قبل الحصاد، صخب نبتات الذرة واستدارة دوار الشمس، وجوه العجائز، نقوش الجلابيب، ابتسامات متسعة ودعوات طيبة تصحبك عند المرور بكل باب، مشاهد متكررة ترسخ شكل البيوت ونقوش الجدران، الاضاءات الصفراء البسيطة، ورسوم الحجيج، النوق، الكعبة، العبارات المهداة للمسافرين إلى بيت الله، أشياء كثيرة حتما تلك التى شكلت وجدانى وحفرت بالذاكرة، لا يمكن وقتها بالطبع ان ازعم انها شكلتنى حد احتراف الكتابة مثلا، لكنها خرجت بشكل أو بآخر بوقت لاحق.. حتى الترع والجسور التى تعلوها قطعتها ركضا بحثا عن قصة تحتويها مجموعتى.. لذا اصنف نفسى بالضرورة ككائن منتمٍ».
■ هل يمكن أن يهدد عدم الاعتناء بالذكريات إنسانيتنا أو ما تبقى منها؟
ـ إنسان بلا ذاكرة هو نموذج مثالى لآلة معقدة التركيب ولا يمكن فك طلاسمها.. كيف يمكن أن نحيا من دون ذاكرة؟ كيف نتعامل مع مفهوم الإنسانية عموما؟ التاريخ نموذج واضح جدا للذاكرة الحية، قيمنا نفسها مرجعها أشياء حفرت قديما، تخيلى حتى الحكم المأثورة والأمثال الشعبية التى ما زلنا نرددها بمناسباتنا مرجعها أحداث حفرها التاريخ ومواقفا بعينها تستدعى وموطنها الذاكرة. ارتباطنا الوثيق بزمن الجدات وحكاياتهن وحنيننا الغالب للأغان القديمة وللقيم النبيلة موطنه تخوم الذاكرة. اذن كل الجدب آلة سعيها الدؤوب الرزق من دون تفعيل لقيمة نبيلة لنمررها لأطفالنا لنقيهم الجدب، ولنرسخ فيهم انسانيات تقاوم أفكار التصحر. أو على الأقل ترسخ فيهم من النبل ما يعينهم على الحياة بزمن شعاره العولمة وتفتك ببرائته الفضائيات.
■ أسلوب السرد يمازج بين الواقعية وأجواء الحلم، كيف تحققين ذلك التوازن دون أن يقع النص فى فخ الغموض؟
ـ أواجه أزمة كبيرة عند الكتابة ولأننا نعلم أن الكتابة دفقة شعورية لا طاقة لنا على كتمانها أو تحملها من دون بوح، لذا فكل ما يخرج منى بالضرورة هى انفعالات نفسية لأبطالى وبطلاتي، لقطات ومشاهد وصور غير نمطية، ربما تصل بشكل أو بآخر لعوالمهم النفسية وما يحرصون على اخفائه بين الدفاتر وما يظنون أننا لا نعلمه، إذن الأزمة هنا أنها ربما تكون كتابة غير تقليدية وربما يجد البعض فيها فعلا كثيرا من الغموض.
بمرحلة أخرى وجدت أنه من الضرورى أن أجد للقارئ فسحة من الوقت وفرصة ليلج هذا العالم بنفسه ليكتشفه ويتوطنه ويشارك فيه. لذا كان لزاما عليّ أن أمزج بين الحلم والواقع بشكل متدرج لتكون الصورة أوضح، يمكن فهم ما أعنيه من خلال بعض القصص بعينها، مثلا، محاولة ساذجة لاغتيال قرص الشمس، رنين، نافذة القبو، والولد الذى كان نافذة».
■ «أسيل» هى أسطورة امرأة تسبح فى عالم آخر، هل حقا تعتقدين أن «الأسطورة أنثى»؟
ـ المرأة توازى الخلق والإبداع، صورة للجمال المجرد بفطرتها التى خلقت عليها، وبحاجتها الدائمة للأمومة تثبت أنها الأقدر على التحمل والأكثر صبرا وطاقة وميلا للمنح، لذا فهى بالنسبة لى تملك قدرا من الخصوصية يؤهلها لأن تكون طاقة متجددة للشعراء، وإيزيس الأسطورة للأداب والفنون بشكل عام، المرأة بمعناها المجرد هى الوطن الكبير الذى نتوق لاحتضانه، السكينة التى ننشدها، الطمأنينة التى نرغبها، الحب الذى نفتقده، السلوى حين المحنة، الحبيبة التى تقتسم الخبز وتتحمل رحلة البحث عن الذات، لذا كانت أسيل منتهى الحلم لرجل القصة والتى ظل لأكثر من نصفها يكلم الطفل عنها، وظلت بالنسبة للطفل مجرد أسطورة حاكتها الجدة على نول الأمسيات، لأنها ببساطة هى الكمال الذى ننشده، وربما بالضرورة لم نحققه.
■ فى بعض القصص سادت صورة عن الرجل غير القادر على التعاطف، الذى لا يجيد قراءة مشاعر الأنثى، هل يمكن أن تحدثينا أكثر عن تلك الصورة؟
ـ لست ضد الرجل بالمجموعة وأرفض مثلا أن تصنف كتاباتى بالعنصرية أو التحيز، فبعض قصصى تحدثت عن آدم بشكل محايد وربما التمست له بعض العذر فى بعضها. انما طبيعة الحال بأوطاننا تفرض تلك الصورة، آدم ببلادنا غير قادر حتى الآن على استيعاب أنثاه وربما يحمل لها قدرا كبيرا من الحب بالوقت ذاته، إنما شرقية آدم تأبى إلا أن تظهر حين تحاول حواء البحث عن ذاتها، وكأنه يفترض خروجا محتملا من عالمه، ولما كان الرجل معنيا بالعمل ومهتما بالبحث عن ذاته وزاده كان لزاما عليه أن يقبلها تابعا يرتق جواربه، يعد طعامه، يدرس أولاده، يطبب آلامه، يواسيه، ولا يمكن أبدا أن يبكيه. اضطررت وأنا اكتب قصصى عن أحلام حواء المجهضة أن أتذكر صديقاتى المحبطات وتراثنا من حواديت النسوة وقضايا الأحوال الشخصية، وكثيرا من النماذج لم أهدف منها لتشويه الرجل وإنما لعرض بعض سلبيات الرجل الشرقى.
■ هل ينبغى دائما أن يموت «الشاطر حسن»؟
ـ بالقصة كان لزاما عليه أن يموت فعلا على عكس ما حكت قصة جدتي، ربما أنها وجهة نظرى الخاصة والمرتبطة ارتباطا وثيقا بحال مجتمعنا الآن, هؤلاء الذين ينشدون الكمال هم أكثر الناس وجعا وتوجعا من الواقع، هؤلاء الساعين إلى التغيير عليهم أن يتحملوا النتيجة وان كانت آخر آنفاسهم..  عليهم دائما أن يقبلوا التضحية، هو درس حياتى تعلمته وعلمتنيه الأيام، ولعل ثورات بلادنا العربية أكبر مثال حى لتلك الحقيقة، فى كل الأحوال أحترم قراره ولعل القصة منحته التخليد الذى يستحقه فبدا الكون بالنهاية وكأنه يزفه فى رحلة الأخيرة، حتى السحب كتبت حروف اسمه، تقمصته بعض شخوص القصة، حتى قطع الغسيل بالشرفات كانت تودعه.
■ «تخوننا قناعاتنا عندما تتأخر الأمنيات»، أرى هذه الجملة جملة مفتاحية لقراءة النصوص، فهل حقا تعبر عن الجو العام للمجموعة؟
ـ أوافقك الرأى، فالأمنيات محور مجموعتى وإن كان البعض منها أجهض ذاتيا، كل أبطال وبطلات نصوصى فى سعى للبحث عن شيء ما، علاقات ناقصة تسعى للاكتمال، أحلام مبعثرة تبحث عن أخرى تجمعها أو تكمل أجزاءها كقطع البازل حين يركبها الأطفال. قصة «باولو والذات المنفلتة» مثلا تسعى السيدة لالتقاط صورة شخصية كأمنية عزيزة ظلت تقاوم إلحاحها، ولكنها كانت تدرك أنها ربما تكون صورة أخيرة مرفقة بنعي، وربما لهذا السبب تحديدا لجأت لباولو العجوز القبيح لتعلن أن تأخر الامنيات بالضرورة يعنى زهدها.
■ للمكان دور خاص فى النصوص، كيف ترين ذلك فى ظل المجموعة التى تتحرك ما بين القرية والمدينة؟
ـ حدثينى عن الأماكن لأحدثك عن أبطالها، تلك حقيقة، فالمكان جزء لا يتجزأ من المجموعة، وله اسقاطات مباشرة على الشخوص وله القدر ذاته من الأهمية، الأماكن والشخوص علاقات تكاملية لا يمكن تجاهل أيا منها أو تناولها بمفردها بمعزل عن الآخر، فالمدينة تعنى الشتات والغواية، والشخوص هناك هم أناس يفتقدون الدفء والثقة وسط ضجيج السيارات ودخان العادم وصمت البنايات وبهرجة الألوان، كلها أشياء تؤشر للمدينة وأوجاعها، على العكس تأتى شخوص القرية بشكل أكثر حميمية وألفة، هم دوما فى حالة من التقارب ويعتبرون البوح وسيلة لعلاج ندوب الروح، لذا فمفردات القرية أكثر رهافة وأقل ضجيجا وأعمق تجربة، يمكن الاستدلال على ذلك مثلا من قصة «طعم التوت ونخطئ حين لا نبكى ونورس وبحيرة» فهم على بساطتهم أكثر روعة ورهافة وقربا للنفس.
■ لماذا لا نرى الكثير من المبدعات فى مجال القصة القصيرة؟
ـ أريد ان أحرف مسار السؤال ليسأل عن موقف حواء من الكتابة عموما. فما زالت حواء محاصرة بمصطلح «الكتابة النسائية» بالرغم من أن الوضع اختلف كثيرا بالنسبة للمثقفة العربية، صارت  قاب قوسين أو أدنى من الاكتمال وتلك وجهة نظر شخصية بحتة تحتمل النقاش، ما وصلنى شخصيا من خلال الاحتكاك بالوسط الثقافى أنها كسرت القشرة الصلدة التى غلفتها لأعوام طوال، هذا أفرز الكثير من الأديبات المتحققات بمصر كما بالوطن العربي، وان كنت أجدهن خارجا أكثر قدرة على التحرك واثبات الذات، ما اتحدث عنه عموما انها استطاعت بمنتهى الحنكة أن تكسر العديد من التابوهات التقليدية والتى قيدتها لعصور، فأصبح بإمكانها أن تكتب عن المكنون وأن تتطرق لعوالم مسكوت عنها، عوالم موشومة بالسرية.