الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

قبل أن تنهار الصحافة القومية




الصحافة القومية قضية أمن قومى، وبالرغم من ضرورتها وأهميتها إلا أنها تعيش أضعف مراحلها الآن، ويظهر ذلك فى الفروق الواضحة بين الصحف القومية والخاصة، ولأن استمرار الحال من المحال، واستمرار الأوضاع الهشة أصبح غير ممكن، لذلك يتوجب على المخلصين من أبناء هذه المهنة والوطنيين الغيورين على هذا الوطن مواجهة الأمراض المزمنة للصحافة القومية ويتأتى على رأسها أوضاع العمال والإداريين والصحفيين، مع الحفاظ على ثلاثة أركان مهمة.
أولا: المهنة وتقاليدها، وأعنى بها إعادة الاعتبار إليها بعد أن تعرضت خلال ربع القرن الماضى إلى الإهدار الكامل وأصبحت القيمة لاعتبارات مسح الجوخ والنفاق.
ثانيا: الحفاظ على المال العام، فبعد 25 عاما من النهب، أثر ذلك بالسلب على المهنة، واستشرى الفساد وتحولت بعض المؤسسات إلى عزب، ووصلنا إلى وضع غريب: مؤسسات مفلسة وبعض ممن كانوا يديرونها يمتلكون الملايين، بل المليارات، بينما الأغلبية من العاملين والصحفيين أوضاعهم المالية متردية، ورواتبهم تافهة.
ثالثا: أهمية الإصلاح ليست مسألة متعلقة بمهنة الصحافة وإنما لها علاقة بحرية الصحافة، وهى قلب الإصلاح السياسى والدستورى الذى تنشده الأمة والوطن، ومنها يجب إعادة هيكلة الأوضاع فى المؤسسات بصورة جذرية، ولابد أن نعترف بخطأ المجلس الأعلى للصحافة الجديد إذا حدث تجاهل لحقيقة أزمة الصحافة القومية واعتبر مسئوليته تجاهها تقتصر على تعيين رؤساء لمؤسساتها واصداراتها من أصحاب الكفاءة والموهوبين، فقد بلغت أزمة هذه المؤسسات المبلغ الذى يفرض الاتجاه فورا إلى عملية إعادة هيكلة مالية وإدارية لتحريرها من القيود التى تكبلها.
مثلا كأحد الحلول: البدء بطرح جزء من رأسمال هذه المؤسسات كأسهم.. ولا تنحصر فائدة إعادة الهيكلة فى ضخ موارد كبيرة ضرورية لتحقيق نقلة نوعية فى الأداء.
فمن شأن إعادة الهيكلة المالية أن تفتح الباب أمام هيكلة إدارية جديدة من خلال تغيير طبيعة الجمعيات العمومية، حيث يؤدى وجود تمثيل للمساهمين فيها إلى زيادة فاعليتها وتحقيق مستوى أعلى من الرقابة والمحاسبة.
كما أن تغيير طبيعة الجمعية العمومية على هذا النحو يمكن أن يوفر قدرا معقولا من المرونة، خاصة على مستوى إدارة العمالة، فمن الطبيعى أن تضم الجمعية العمومية فى هذه الحالة ممثلين للمساهمين أصحاب المصلحة فى خفض النفقات.
وفى هذه الحالة ستبدأ العلاقة بين الإدارة والعاملين فى الانضباط تدريجيا وفق القواعد الاقتصادية الرشيدة، كما تتيح عملية إعادة الهيكلة فرصة لدعم استقلال المؤسسات الصحفية القومية بحيث يقتصر دور الهيئة الوطنية - التى سيتم استحداثها - على متابعة أداء هذه المؤسسات، وبالتالى نتجنب إعادة إنتاج دور مجلس الشورى الذى عصف بهذا الاستقلال.
فإذا بقى الحال على ما هو عليه ستصبح الهيئة الجديدة بديلا عن مجلس الشورى، وربما يزداد دورها ويتوسع تدخلها فى أوضاع المؤسسات وأدق شئونها، فى حالة التفاقم المتوقع لأزمتها إذا لم تسرع بعملية إعادة الهيكلة. وقد يؤدى هذا التدخل الى آثار سلبية إذا تعاملت الهيئة المذكورة مع المؤسسات التى ستتدخل فى شئونها بطريقة بيروقراطية غير مهنية.
ولذلك يتحمل المجلس الأعلى الحالى مسئولية تاريخية هو جدير بها وقادر عليها، لأن أداءه سيقرر مصير هذه المؤسسات إما باتجاه إحيائها عبر إعادة هيكلتها أو بتركها تلفظ أنفاسها، إذا حصر دوره فى إصدار قرارات تعيين رؤساء مجالس الإدارة والتحرير.
فعندما تثمر عملية إعادة الهيكلة تحسنا فى أوضاع تلك المؤسسات، لن يكون فى إمكان أى هيئة جديدة الاستمرار فى حرمان المؤسسات القومية الصحفية من الاستقلال الذى تستحقه.
ولأن أساس اقتصاديات إنتاج الصحف يعنى فى المقام الأول كيف أنتج مطبوعة إن لم تكن رابحة فعلى الأقل لا تحقق خسائر، لذلك لابد أن تكون البداية بنسف كل النظم الإدارية القديمة بكل ما لها وما عليها، ليبدأ نظام إدارى جديد فى جميع المؤسسات، ثم إنه لابد من البحث فى قصة الإصدارات الخاسرة تلك، لأن الإدارة تحمل الاصدار أحيانًا مصاريف لم ينفقها، وحدث ذلك منذ عام 2005، حينما اتخذ قرار بفصل الإدارة عن الصحافة، فحولت إدارة تلك المؤسسات الإصدارات الصحفية بداخلها إلى كيانات صحفية مستقلة، وحملتها كل المصروفات، فشقت المؤسسة نفسها، وأصبح كل قطاع مهتمًا بأن يكون هو الرابح آخر كل عام على حساب باقى القطاعات الأخرى.
نتوجه إلى المجلس الأعلى للصحافة، وأيًا كان المسئول عن المؤسسات بغض النظر عمن هو.. كيف تترك الصحف القومية ولا تبذل أى مجهود فى مساعدتها ومعاونتها، بينما يعلن رجال الأعمال دعمهم للصحف الخاصة حتى يرتقوا بها، فلابد أن يعلم الجميع أن الصحافة القومية هى خط الدفاع الأول عن الوطن قبل وصول الدبابات ونزول القوات، المؤسسات الحكومية بها ما لا يقل عن ثلاثين ألف عامل بثلاثين ألف أسرة، من يستطيع أن يتكفل بهم سوى الدولة؟
فالدعم لا يعنى أن يعطى المجلس المؤسسات القومية أموالاً تدفع بها رواتب العاملين كل شهر، ولكن هناك طرقا كثيرة جدًا للدعم ليس من بينها الدفع كاش، فمثلا لابد أن يذهب جزء من مخصصات ميزانية الإعلان والدعاية فى الوزارات والهيئات للصحف القومية، كما يجب أن تعلن مؤسسات الدولة فى الصحف القومية، والأهم أن تعود طباعة كتب المدارس بشكل كامل إلى حضن مطابع تلك المؤسسات، وقد حدثت كارثة كبرى أيام حكم مجلس شورى الإخوان لتلك الصحف، حيث حرمت مؤسسات الصحافة القومية من حصتها فى طباعة الكتب المدرسية، وذهبت تلك الحصة إلى مطابع قطاع خاص أصحابها من الداعمين للإخوان، والتى مهما بلغت إمكاناتها لن تصل إلى عُشر إمكانات مطابع مؤسساتنا القومية، وأستطيع القول إن ما لدى المطابع القومية من إمكانات يستطيع أن يسدد ديون مصر كلها وليس ديون المؤسسات القومية فقط، إذا أحسن استغلالها وإدارتها والرقابة عليها، وأيضا تصفية المالية للديون من وزارة التعليم بشكل مباشر يُعَدّ تدخلاً سافرًا فى إدارة المؤسسات الصحفية، ولا يحق لها أبدًا القيام بذلك، فالمؤسسات الصحفية هى خط الدفاع عن الأمن القومى المصرى وليست مجرد مطابع، ومعاملتها بهذا الشكل تُعد إهانة كبيرة، فالمؤسسات لديها التزامات ومصروفات وإحلال وتجديد ولا يحق لأحد أن يتحكم فيها بهذه الطريقة التى أقل ما يجب أن توصف به أنها مهينة، وهى ككيانات كبيرة لن تهرب دون دفع ديونها، ولكن يتم ذلك بجدولتها بشكل مقبول يتم الاتفاق عليه وفقا للامكانات المتاحة للمؤسسات لا أن يتم التعامل بين وزارتين بينما تقف المؤسسات الصحفية خارج الصورة، فلا يحق لأحد - أيًا - كان أن (يبيع ويشترى) فيها بهذه الطريقة، لأن النظام السابق هو من أوصلها إلى هذه النتيجة بتركه من كان يأتى بهم لإدارتها بالتصرف وكأنها عزبهم الخاصة وليست أموال الشعب.
بصراحة أرى أنه ليس من العدل أن تبدأ القيادات الجديدة عملها بدفع مديونيات بأثر رجعى تعود أصولها إلى أكثر من ثلاثين سنة مضت منذ تم تشكيل المجلس للمرة الأولى سنة 1980 فى ظل القانون رقم 148 لسنة 1980، خصوصًا أن تراكمها تسبب فيه المجلس أيضًا، الذى أهمل أهم بنود سلطاته، وهو البند رقم 6 الذى ينص على (المتابعة الفعالة للأداء الاقتصادى للمؤسسات الصحفية القومية من خلال دراسة ومناقشة تقارير الإدارة والجهاز المركزى للمحاسبات واتخاذ كل ما من شأنه ضمان حسن الأداء) وبما أنه لم تتم تلك المتابعة، ووصلت مديونيات مؤسسات الصحافة القومية إلى الرقم «المخيف» الذى أصبح من المستحيل سداده، فمن الظلم لجموع العاملين فى المؤسسات الصحفية تحمل ذلك العبء لما فى ذلك من ظلم للمستقبل والشباب.
أما من يتحدثون عن الخصخصة فهى حلول العجزة، وهى حلول سريعة يفكر فيها التجار الذين ينظرون تحت أقدامهم وليس الاقتصاديين، فالبيع لا يعنى فقط بيع كيانات ومبان، لكنه أيضًا يعنى بيع تاريخ، يعنى أيضا بيع أكثر من مائة وسبعة وثلاثين عامًا فى مؤسسة الأهرام، ومائة وعشرين عاما فى دار الهلال، 89 عاماً فى روزاليوسف، وسبعين عامًا فى الأخبار، فالصحف القومية جزء من تاريخ الوطن ومن يهمل تاريخه ويعرضه للبيع يهدم مستقبله بيده، ولو سلمنا جدلاً بجدوى البيع فلا أحد يستطيع أن يدفع المليارات ثمن المؤسسات سوى فئتين، الإخوان وأقباط المهجر، وكلاهما تقف خلفهما شركات وأموال مشبوهة، فهل نسلم بأيدينا تاريخنا من أجل حفنة أموال لن تحل المشكلة إطلاقًا، ففكرة الخصخصة مرفوضة ويجب ألا تطرح للنقاش مطلقًا، وسبب طرحها الآن لأن الدولة ضعيفة وحلولها عاجزة، ولا تعى حقيقة أهمية الإعلام الذى هو القائد الحقيقى لكل ما يحدث فى مصر منذ ثورة 25 يناير و30يونيو وحتى الآن، وإذا استمرت الدولة فى عدم النظر لمؤسسات الصحف القومية نظرة اهتمام ستكون بذلك تفرط فى أهم أسلحتها، فالرصاص يميت المئات، لكن الإعلام المضلل يميت أمة، ولو تركت المؤسسات بلا دعم ولم تعتبر الدولة أن مساندتها لها بمثابة أمن قومى سوف تفقد بذلك صوتها الإعلامى أهم سلاح لها فى المعركة.
وأيضا مقترح دمج الإصدارات المتخصصة مع المطبوعة الأم أو تحويلها إلى موقع إلكترونى توفيرا للنفقات، إن هذا المقترح أيضًا هو ضيق الأفق ولديه قصور فى الرؤية، فالإصدار المتخصص نشأ فى الأساس من أجل القارئ المتخصص، وفكرة دمجه بهيئته التحريرية الكاملة وحصره فى إحدى صفحات المطبوعة الأم فكرة غير منطقية من الأساس، فليس من الطبيعى أن يقتل أب أحد أبنائه بحجة توفير الطعام للباقين، ثم ما الذى ستوفره المؤسسة من تحويل الإصدار إلى موقع إلكترونى سوى ثمن الورق، أما المطبعة فهى موجودة لدى كل مؤسسة وتعمل بكفاءة، وهناك العديد من الدراسات - فضلا عما ذكرناه - يمكن ان تحول هذه الإصدارات من خاسرة إلى إصدارات رابحة.
ومن المشاكل المكتومة فى الصحف القومية مشكلة المتدربين من الشباب الذين تعتمد عليهم الصحف بشكل أساسى ومنهم من أمضى عشر سنوات وأكثر فى هذه الصحف وعلى الرغم من هذا لم يتم تعيينهم لأسباب منها عدم توافر ميزانية وأيضا عدم استطاعة المؤسسات تحمل المزيد من العمالة، وأن هذا الوضع موروث من الماضى ولكن هؤلاء الشباب هم المستقبل ويجب حل هذه المأساة خاصة إذا علمنا أن بعضا من هؤلاء - بل غالبيتهم لاتتجاوز المكافأة الشهرية لأى منهم الـ300 جنيه قبل خصم الضرائب، وإذا كانت المؤسسات تعانى من تكدس العمالة بها فهذا ليس ذنب هؤلاء الشباب بل ذنب من تركهم كل هذه السنوات على أمل ان يستقروا.. ما أسهل أن تنهض المؤسسات القومية وتتقدم الصفوف.. الحل يكمن فى إرادة النجاح ومراعاة الله فى المال العام.