الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

خيرى شلبى رائد «الفانتازيا» التاريخية وصاحب «الواقعية السحرية» العربية




كتبت- تغريد الصبان
كان من الممكن أن نحتفل اليوم بعيد ميلاد «وتد» الرواية المصرية خيرى شلبى، لكن القدر أراد أن نحيى ذكرى ميلاده اليوم وقد مر على وفاته ثلاث سنوات حيث توفى فى التاسع من سبتمبر 2011.

خيرى شلبى هو ابن الفلكلور المصرى والخيال الشعبى والسير والملاحم، الذى أبرز المسكوت عنه من الواقع الإنسانى المؤلم والساحر فيما يقترب من الواقعية السحرية التى تم تعريبها على يديه، فهو رائد للفانتازيا التاريخية بأسلوب الواقعية السحرية المعربة، التى تجلت بوضوح فى أربع روايات هى:
الشطار، نسف الأدمغة، بغلة العرش، السنيورة، وأن واقعيته السحرية ترتبط بقضية الفساد، هذه القضية التى ترفرف بظلالها على المهمشين الذين هم محور أفكار شلبى والمعين الأساسى لإبداعه وكتاباته ودراساته أيضا.

فى الذكرى السادسة والسبعين لميلاد شلبى تقدم ابنته ريم خيرى شلبى والكاتبان هشام يحيى وباسم يوسف شهاداته عنه فى السطور التالية...
فقالت ريم: ولدت فى نفس السنة التى ولدت فيها أول رواية لبابا سنة 1970 وهى رواية (اللعبة خارج الحلبة) واللى كان بالطبع إهداؤها من نصيبى.
ومنذ بداية إدراكى للأمور كنت أتابع بين الحين والحين دخول أبى إلى المنزل وهو يحمل بين يديه مجموعة من الكتب المجلدة، وتكون كلها بلون واحد، وعلى جلدتها من الخلف مكتوب إسم الرواية بعدها خيرى شلبى وفى الأسفل اسم ريم خيرى، كان ارتباط اسمى باسمه يسعدنى كثيرا، المهم
والنسخة الأولى من الرواية تكون باسم ماما، إلى ان حضر أخى زين فزادت النسخ المجلدة نسخة جديدة باسم زين العابدين خيرى وهكذا مع بقية الأبناء إسلام ثم إيمان، ونسخة خاصة به توضع على رف المكتبة بجوار أخواتها وكل رواية تحمل لونا مختلفا، والباقية يفتح ضلفة صغيرة بمكتبه يضعها فيها. أخذنى الفضول لأسأل أمى (هو بابا شايل الكتب دى ليه وكاتب عليها اسمنا ليه) قالتلى: دول عشان لما كل واحد يروح بيته ياخد نسخ
من الكتب معاه تكون مجلدة ومحفوظة، لم أدرك وقتها هذه القيمة الغالية، أيفكر هذا الرجل العظيم حتى فيما سنأخذه لبيوتنا من الآن وهل يريد أن يوصل لنا رسالة أن هذا هو كل ما أتركه لكم من ميراث، المعانى كثيرة والأسباب كثيرة، المهم ظلت هذه العادة إلى ان دخل البيت فى يوم وهو يحمل نسخة واحدة من رواية ضخمة تحمل اسم وكالة عطية، كتب عليها إهداء لامى كالعادة، وتركها على استحياء، تلقفتها امى بفرحة كبيرة كالعادة وبنفس
الحماس الذى لم يقل مرة واحدة، هنأته واخذتها وذهبت، وسألته انا فى غضب: اين باقى النسخ؟ فأخبرنى: لسه مجتش كام يوم بس. تعجبت كثيرا وزاد عجبى لتلك النظرة الغريبة التى كان ينظر بها لأمى التى لم تنتظر لحظة كعادتها فهى اول من يقرأ روايته منذ اول رواية.

جو البيت غير طبيعى..صمت غريب، أمى لا تترك تلك الرواية من يدها، أدخل المطبخ أراها تطبخ والرواية تحت إبطها كأنها سوف تهرب منها أو فوق رأسها إلى تقطع شىء، أنظر إليها أحاول أن آخذها منها حتى تفرغ من عملها ترفض، أبى يمر من حين لآخر ليتابع تعبيرات وجهها أثناء القراءة،
وفجأة وفى ظرف 72 ساعة أمى تخرج علينا خلصت الرواية، تنظر لأبى ثم تتجه نحوه بشكل لم نره من قبل، تمنحه قبلة حانية وحضنًا دافئًا، وتقول له: دى أحلى حاجة كتبتها فى حياتك دى لازم تاخد عليها جايزة نوبل، ثم تنظر إليه وتقول: يا حبيبى يا خيرى كل دا انت شوفته فى حياتك. يخرج
أبى عن صمته وقد تغيرت كل ملامح وجهه إنت بتتكلمى جد؟ ترد أمى: آه طبعا، أنا كنت خايف من رأيك موت، انتِ عارفة إنى مأجل الرواية دى بقالى أكثر من عشر سنين عشان خايف من رد فعلك، الحمد لله. كان لازم أقرأ الرواية عشان افهم ليه بابا قال كده، ولما قرأتها فهمت السبب، الرواية
تحمل جزءًا كبيرا من سيرته الذاتية وأيام كفاحه فى دمنهور وبها العديد من القصص والمواقف والألفاظ والسياسة والتاريخ والدراما وحتى كوميديا،
كانت تركيبة جديدة ومختلفة، وبعدها لم يهدأ جرس التليفون لحظة بسبب التهانى والإعجاب وكنا نتوقع لهذه الرواية الكثير لولا أنه على رأى المثل (من كتر خطابها بارت). لكنها بالتأكيد لم تكن الاعظم ولم تكن الاخيرة، وأتحدى ان يعرف أى شخص ما هى اعظم روايات خيرى شلبى ولا حتى ما هى آخر رواية لان تاريخ النشر ليس بالضرورة هو المقياس.

أما الكاتب هشام يحيى فقال: منذ أسبوع تقريباً.. كنت أجلس مع صحفى لاجراء حوار حول كتابى (قبض الريح.. أيام وراحت).. فوجئت به يقول: «فى أكثر حكاية.. من الكتاب.. كنت اشم عطر كتابة شيخ الحكائين خيرى شلبى». رديت عليه: خيرى شلبى مرة واحدة.. هذا شرف كبير.. وجائزة أهم عندى من الحصول على «نوبل» أن يقترن اسمى.. بأحد «اقطاب» الكتابة.. فى العصر الحديث.. لا أكون مبالغاً.. إذا قلت: قبل ان تقرأ خيرى شلبي..
وتدخل محرابه.. لابد أن تتوضأ.. وعندما تذكر اسمه تقول: «رضى الله عنه».. لا انكر اننى تأثرت كثيراً بكتابه «موال البيات والنوم» لدرجة اشتريت منه عشرات النسخ ووزعتها على اصدقائى، وبعيداً عن أنى من قرائه، منحنى الحظ أن التقيه على المستوى الشخصي، وأعمل فى جريدة
«الدستور» فى إصدارها الاول، التى كان يكتب فيها عمودًا أسبوعيًا فى أحد الايام كان على موعد مع رئيس التحرير ابراهيم عيسي لم افوت الفرصةوفرضت نفسى على الجلسة، وجلست مع عم خيرى وجها لوجه وأنا مش مصدق نفسي. فاكر فى اليوم ده لم أتركه واستلمته اسئلة واستفسارات،
وصبره كان طويل لم يمل ولم يعاملنى معاملة الكتاب النجوم. وكمان أنقذنى من وهم كبير كنت عايش فيه. أصل بصراحة فيه كتاب كبار أقرأ لهم أعمالهم ولا أفهمها. منحنى إجابة انقذتني.. «العيب فى هؤلاء الكتاب.. وليس فيك، لانهم يكتبون بعيداً عن الواقع الذى يعيش فيه القارئ».. لدرجة انه
قال لى ايضاً: معظم هؤلاء الكتاب يعيشون فى برج عاجى يخاطبون قراء لا يعرفوهم. بعد هذا اللقاء تكررت اللقاءات السريعة معه.. لكن منحنى الحظ أن أسافر مع عم خيرى فى رحلة تليفزيونية إلى تونس للمشاركة فى حلقة عن الشاعر (بيرم التونسي) ستعرض على (a.r.t) تقدمها صفاء أبو السعود..
وكنت المعد التليفزيونى للحلقة. فى تونس استبدل عم خيرى الشيشة فى حجرته بالسجائر (الجيتان) الفرنسية. ولانه لا ينام الليل.. ويظل سهران.. كنت اسهر معه.. ادخلنى جزءًا من عالمه السحري.. وفتح جراب الحاوي.. كلمنى عن فايز احمد وكمال الطويل وبليغ حمدي.. وسمعنى نصوصًا ممنوعة
لـ«بيرم التونسي».. وكشف اسرارًا لم اسمعها من قبل عن عبد الوهاب، وزكريا احمد وسيد درويش. وصارحنى بانحيازه لكبرياء بيرم فى الحب.. ورفضه لانسحاق رامى ولوعته فى هوى المحبوبة.. سعادته كانت لا توصف لم اخبرته أننى انتمى لقرية اسمها (شبشير الحصة) فى محافظة الغربية..
فتحت شهيته ليكلمنى عن قريته.. لكن الذى لم اتوقعه.. أن يوم التصوير وأنا أعرض عليه اسكريبت الحلقة.. فوجئت به.. مجهز هدية ليه «مقدمة الحلقة» بقلمه.. بقلم خيرى شلبي. نفحاتك ياعم خيري.

الكاتب والسيناريست باسم شرف قال:استيقظت مبكرا على سماع خبر وفاة الكاتب الكبير خيرى شلبى.. فى كل لحظة بعد سماعى الخبر.. كنت أهرب منه لكى لا أصدق انه مات بالفعل.. أغلقت هاتفى حتى لا يتحدث معى أحد الأصدقاء ويقول لى إنه مات.. سحبت كتاب موقع بخط يده وجلست
بالبلكون.. وظللت أنظر للإهداء فوجدت نفسى متلبسا بالبكاء.. فهل مات عم خيرى حقا؟ لا أبكى إلا لشيء قاس.. وما أقسى فراقك أيها الحكاء الأعظم.
يا الله.. أتذكر مكانه فى مكتب دار ميريت على الكرسى المخصص الذى لا يجلس فيه سواه وقت حضوره.. ويحكى دون ملل.. الله يجزيك يا عم هاشم مكتبك عودنا على ناس بنحبهم عشان يموتوا..

كان العم خيرى يعرف الحكاية كما يعرف نفسه.. فكان تلقائيًا فى حكيه.. يحكى تفصيله فى شخصية كأنه يحكى عن طفولته.. وقدرته على جذبك لسماعه بشغف..

صادفنى الحظ أن التقيه بدولة الإمارات بمعرض أبوظبى.. ولما قابلنا أنا والأستاذ محمد هاشم صاحب دار ميريت.. قال: لازم تيجيوا تقعدوا معايا فى الفندق.. قلت له: يا عم خيرى إنت أكيد تعبت من السفر وعايز تستريح.. قالى هستريح لما أروح مصر..
وكانت بالنسبة لى كنزا كى أسأله عن أشياء كثيرة تشغلنى فى الكتابة وعنه هو شخصيا..

قلت: هسألك سؤال محيرنى.. إنت بتكتب كتير قوى يا عم خيرى.. ربنا يديك الصحة.. بس الفكرة فى إن الكتابة طاقة وطاقتك اكبر من طاقة الشباب..تصورت أنه سيضايق ولكنه ابتسم وقال: أنا بكتب فى الأساس لأنى بدور على سر..
قولت: سر؟ سر إيه يا عم خيرى؟

قال لى أنا لوعرفته هبطل كتابة.. قالى الناس اللى حواليك كتير وكل شخص جواه حكاية ينفع تتحكى وينفع تلاقى فيها فلسفة خاصة.. الفلسفة مش عند المثقفين بس..لا.. الفلسفة عند الناس العادية وساعات بتكون أعمق لأن مفهاش فذلكتهم وتصفية حساباتهم..الحياة دى يا ما فيها حاجات غريبة كأنها واقعية سحرية واصبحت واقعية عادية جدا.. عشان إحنا صدقناها..

صمت للحظة وابتسم وأمسك فنجان القهوة بيده التى يسكنها خاتم كبير يميزها وكأن به سرا يخص خيرى شلبى وحده.. وقال: انا مثلا من الحاجات الغريبة إن أنا بحبكم لله فى لله مع إنكم أشرار.. بس أنا شرير زيكم.. ضحكنا وقال عم هاشم متأثرا: إنت طيب قوى يا عم خيرى متقلش كده .. قال: لا يا هاشم أنا شرير ومجنون.. حد يسيب الدنيا ويروح يقعد فى القرافة ويبقى عاقل..؟ و لو كنت عاقل مكنتش هابقى خيرى شلبي..

كان يهرب عم خيرى من الموت بالحياة داخل الموت.. يذهب ليعيش بجوار الموتى.. وهروبه ليس خوفا.. ولكنه لقاء حبيبين.. فهو لم يخش الموت يوما.. كان يطمئن له.. وكأن لديه بالموت علاقة حميمية.. فلن يغدر به دون أن يخبره..حتى يكتمل مشروعه.
سألته: يا عم خيرى ليه مكتبتش سيرتك الذاتية؟

قال: الكاتب الذى يبحث عن كتابة سيرته الذاتية هو كاتب يبحث عن موته.. وآخر ما كتب عم خيرى سيرته الذاتية فلم انتبه إلى أنه يبعث برسالة موته الينا جميعا ولم نلحظ هذه العلامة إلا بموته.. وكتبها بعنوان (أنس الحبابيب) لأنه فعلا لم يقابل شخصا ويكرهه.. كان يعيش الحياة كما هى.. يحبها
بقلب طفل عاش بقريته وينزل لأول مرة ليرى المدينة.. طوال حياته يكتشف الأماكن والأشخاص ويكتبهم عله يعرفهم جيدا.. وكلما زين اسمه غلاف كتاب كلما تعرفت على أنماط جديدة أنت رأيتها.. وهو شعر بها وكتبها.. حتى آخر لافتة كتبت عليها اسمه (عزاء المرحوم الكاتب الكبير خيرى
شلبي).. ظللت طوال العزاء متماسكا الى أن شاهدت اللافتة يزينها اسمه.. فبكيت.. يالها من لحظة قاسية.. الاسم الذى كان يزين أغلفة الكتب والجرائد يزين آخر لافتة موقعة باسمه.. لافتة وداعه.. الله يرحمك يا عم خيرى..