الأحد 12 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

المسمارى فى «سيرة فبراير»: نجوت من الموت لأحكى قصة الثورة




كتب- مصطفى عرام
ربيع واحد.. وثورات ثلاث، تتابعت وتوالت على بلدان ثلاثة متجاورة، هى تونس ومصر ثم ليبيا، فإذا كانت البداية من تونس مرورا بمصر، فإن ثوار ليبيا اعتبروا ثورتى مصر وتونس بمثابة الطرق الشديد على أبواب الثورة الليبية، التى اعتبر ثوارها انها حتما قادمة، فقط هى تبحث لنفسها عن تاريخ ويوم يؤرخ لبدايتها، فمع الـ14 من يناير 2011، كانت الثورة التونسية تطوى نهاية الفصل الأول من بداية ثورات الربيع العربى، ومع حلول الـ25 والعشرين من يناير كانت الشرارة الأولى فى الثورة المصرية، حتى جاء الـ17 من فبراير 2011 الذى انتظرته بنغازى وسط تساؤل: هل سيحدث شىء؟

بالفعل حدث شىء، تطور إلى أشياء كثيرة، فها نحن فى العام الثالث على اندلاع هذه الثورات نحيا توابعها، ولأن الوقت مازال مبكرا على التأريخ الرسمى الكامل والموثق لهذه الثورات، فإن ما يجرى من محاولات إنما يندرج تحت باب «السير الذاتية» كل يروى الاحداث والوقائع التى عايشها ويفسرها كيفما يهديه عقله، وهذا لا يتعارض مع مصداقية كل سيرة يرويها صاحبها، إذ تظل هذه السير المدد الذى تستمد منه كتب التاريخ مادتها، إضافة إلى ما رصدته العدسات وأقلام الصحف.
فى هذا الكتاب «سيرة فبراير.. تجربة شخصية»، يروى الكاتب إدريس المسمارى قصته مع هذه الثورة، بدءا من الإرهاصات وصولا إلى الهرب عبر الحدود الليبية التونسية، يفتتح المسمارى كتابه بإهداء على غير المعتاد، إذ وصلت صفحات الإهداء إلى ثلاث صفحات، خص فيها بالإهداء كلاً ممن شاركوا فى هذه السيرة، وبينهم ابنتاه «ليبيا» التى أعطاها اسم وطنه ليبيا علامة على عشقه وإخلاصه له، و«يمنى»، وقد وصف كلتيهما بالشجاعة.
على غرار الروايات يبدأ المسمارى سيرته بمشهد ملاحقته من القوات الأمنية وطرقهم الشديد على الأبواب، وبعد سرد تفاصيل المشهد، يأخذ القارئ إلى نقطة البداية.. ثم يحكى سيرته، يشارك المسمارى قارئه تساؤلا منطقيا، فحواه «أن الأيام تمضى بغيض كئيبة، فهل ثمة ما يستحق الحياة؟ وما الذى بقى فيها لنعيشها؟ لا بد من أن هناك سببا ما، كان الدليل والمرشد إليه أبيات محمود درويش:
على هذه الأرض ما يستحق الحياة:
نهايةُ أيلول
سيدة تترك الأربعين بكامل مشمشها،
ساعة الشمس فى السجن،
غيم يقلد سربا من الكائنات،
هتافات شعب لمن يصعدون إلى حتفهم باسمين،
وخوف الطغاة من الأغنيات،،
يسترسل إدريس المسمارى واصفا عام 2010 بعام الكآبة الذى كان يترقب نهايته، مستغلا الفعاليات الثقافية مثل معرض طرابلس فى لقاء الاصدقاء وإجراء مناقشات واحاديث حول مجريات الأحداث والمشاغل الليبية، وإعداد العدد التاسع من مجلة «عراجين» الذين قرروا أن يكون مخصصا عن الذكرى المئوية لحتلال إيطاليا لليبيا، وعبر سرد مشوق يخبر المسمارى القارئ بإصابته بداء السكرى، الذى تفاجئه وعكاته كل حين، هذا المرض الذى سيصبح له دور فى محاولات هروبه من أنصار القذافى الذين أرادوا توريطه فى موقف يقضى على سنوات عمره معارضا وتصويره مؤيدا لنظام انتهى عمره الافتراضى، ومع هذه الأجواء الثقافية بنهاية عام وحلول آخر، قرر المسمارى أن يشرع فى روايته «حيه على برقة..»، التى بدأها بجملة «إدريس جابلكم الاستقلال»، من دون ان يكون فى ذهنه شيء محدد حول ما سيكتبه، فقط هى رغبة ملحة فى الكتابة، تصحبها تساؤلات فى ذهنه حول بعض القضايا التى تخص ليبيا مثل مسألة تقسيم ليبيا.
يتابع المسمارى فى سيرته، أن الأجواء التى سادت قبيل سقوط نظام بن على فى تونس كانت هى أجواء الترقب والقلق، كذلك فيما يتعلق بالدعوات التى بدأت تتصاعد فى الشارع المصرى قبيل الـ 25 من يناير، ومع تصاعد الاجواء عربيا واندلاع الثورات، كانت قد تبلورت لدى الطبقة المثقفة الليبية مجموعة من المطالب تتمحور حول دستور للبلا، وإطلاق حريات التعبير والمساواة الاجتماعية وإتاحة فرص العمل الشريف.
يصف المسمارى ميدان التحرير فى مصر مع سخونة الاجواء بأنه مخزن الثورة المصرية طوال تاريخها الحديث، ما جعله يستدعى إلى الذاكرة أبيات أمل دنقل:
أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة!
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح!
ثم تصاعد الحديث فى الشارع الليبى عن موعد الـ17 من فبراير، الذى اصبح الشرارة التى انطلق منها الحراك الثورى فى ليبيا، وفى خضم مشاركته الشباب فى هذا اليوم قرر المسمارى الاتصال بالجزيرة ليخبر العالم بما يدور فى ليبيا، قائلا: الشباب يتظاهرون فى ليبيا، ومثلما حدث فى تونس ومصر من مطاردات أمنية للمتظاهرين، وفض التظاهرات، تكرر الأمر فى ليبيا، ليصبح المسمارى مطاردا، لكنه عوّل على عكازه ومرضه لينجو من بطش الأمن، لكن مع تكرار الأمر مع فضائية أخرى هى الـ بى بى سى، عادت المطاردات الأمنية أشد ضراوة.
وبالفعل استسلم المسمارى لقوات الأمن الليبية، التى أذاقته من التهكم والتسفيه والشتائم ألوانا شتى، وبعض الضرب والتعذيب والضغط النفسى احيانا اخرى، وتحقيقات تتكرر مع اختلاف المحققين، وعمليات نقل وتحرك دائم بين السجون والمعتقلات بشكل سريع، وفى كل مرة، كان المسمارى يستشف ان الأجواء بالخارج تتصاعد، وان النظام يتهاوى، وكلما تأزمت الحالة فى الشارع، زادت أهميته كمعتقل لديهم، ولما بلغ الاقتتال فى الشارع أوجه كانت المناورات والتحقيقات تزداد ضغطا عليه، مع تدهور حالته الصحية نتيجة مرض السكرى، فاستدعى ذهنه أبيات الشاعر محمد الشلطامى:
حينما أينع شوك القهر،
فى وجه الزمن
حينما أوقد كف الليل قنديل المحن
حينما جهز لى السلطان أسلاك الكفن
حينها ازددت التصاقا بالوطن
ازدادت ازمة المسمارى تعقيدا، وصار خروجه حيا من السجون ضربا من الخيال، ومع ذلك لم يتنازل او يتراجع عن افكاره ومبادئه، وخلال عرضه لسيرته يجيب ويرد على استنكار الكثيرين قبول الليبيين دخول القوات الدولية إلى بلاده، موضحا أنها قيدت يد القذافى من ان تعمل آلة القتل والذبح فى الليبيين بلا هوادة، غافلين أن فى كل لحظة جدل يراق دم ليبى بلا رحمة، بل إنه قالها مباشرة بأن هذا رأيه بساطة ووضوح دون تبريرات لا فائدة منها.
بعد محاولات عدة من اصدقاء المسمارى، كتب له ان يخرج من السجن، لكنه ظل تحت أعين رجال القذافى، كمن خرج من سجن ضيق إلى سجن أرحب، وصار هاجس تصفيته يراوده ويلاحقه، فى ظل محاولات رجال النظام إقناعه بالخروج على الشاشات فى محاولة ظاهرها حقن دماء الليبيين وباطنها تأييد نظام القذافى، فظل يناور ويحاور حتى استطاع ان يعد عدته للخروج من ليبيا، قاصدا تونس.
يؤكد المسمارى انه طوال معاناته من الملاحقات والسجن ومحاولة الهرب، أن هناك عناية إلهية كانت تحيطه، مردداً أبيات الإمام الشافعى رحمه الله:
ولرب نازلة يضيق لها الفتى..... ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت  ولما استحكمت حلقاتها... فرجت وكنت أظنها لا تفرج
ومع اقتراب نجاح محاولة الهرب من ليبيا عبر تونس، فى ما يشبه المغامرة التى تغلفها الكوميديا السوداء، عاد المسمارى ليردد بيتا للإمام الشافعى:
يريد المرء أن يعطى مناه...... ويأبى الله إلا ما أراد نجح المسمارى فى المرور من نقاط التفتيش عبر الحدود بين ليبيا وتونس بما يشبه الحيلة الطريفة، تنفس بعدها الصعداء، ثم راح يجرى اتصالاته بأصدقائه واسرته ليطمئنهم عليه.
طوال هذه الرحلة منذ السابع عشر من فبراير، عرف المسمارى بين الجميع بأنه «إدريس المسمارى بتاع الجزيرة»، اى صاحب المكالمة الهاتفية مع الجزيرة التى لفتت انظار العالم إلى ما يدور فى ليبيا.
مع الكلمات الأخيرة لإدريس المسمارى فى سيرته، فإنه راح يردد كلمات على القيعى «إلى فتاة تونسية»
ذات ليلة من ليالى صيف يوليو القمرية حيث آتيك بأشعارى واوهامى الحيية راعش المهجة.. سكران الهوى فانتظرينى.