الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الكيل طفح مرار.. يا بشر




رغم بدائية اللغة، وضعف المفردات، فإن البيئة الشعبية زرعت بلغتها معانى عميقة في الحياة حتى صارت مفرداتها كنزا وثروة ضخمة اغترف منه بنهم ووعى عم عموم شعراء العامية بيرم التونسى بتوصيفه لحالة مجتمعية رصدها فى قوله:
عجبى على ناس يعيشوا النفاق والزور
ويمسحوا الجوخ للمنفوخ والمغرور
ويوهبوا الروح لمجرم من بتوع الطورش
عشان مايكلوا غداهم فى طبق بنور
فيه الهنا والغنى لو يطفحوه فى ماجور
ولا يعيش الكريم عيشة سؤال فى سؤال
و«كارت» من ندل يسعى به إلى أندال
فى السنوات الأخيرة خاصة ما بعد ثورة 25 يناير مروراً بثورة 30 يونيو لوحظ أن نمطى «الكلمنجى» و «الحلنجى» قد سادا فى الحياة المصرية وظهرت عنتريات وادعاءات للبطولة من نسج الخيال.
خرج ثوار يناير ويونيو انقياء القلب والهدف عيش حرية عدالة اجتماعية، مصر قد الدنيا، ولكن الموالين والمنافقين التفوا حولهم وامطروهم بالثناء من أجل ركوب الموجة واظهار مشاعر الثورية والولاء.
وقد صدق الثوار الكلام وانتشر الاصطلاح الشعبى الذى غالبا ما اسمعه وانا اجلس على مقاه المطرية الحى الشعبى الذى اعيش فيه «فنجرى بق».
بل وصل الأمر إلى حد الخوف ممن اطلقوا على انفسهم «ثوريون» أو «نشطاء سياسيون» وتحولت كلمة «ثورى» و«ناشط سياسى» إلى نكتة سخيفة تفتح مجالاً للتهكم على من ينتمى لأى من الصفتين.
وللحق والإنصاف فإن أكبر جُرم ارتكبه الإخوان الإرهابيون بعد ثورة 25 يناير تقسيم الناس إلى صنفين احدهما موال للثورة والآخر معارض لها وأيضا بعد ثورة يونيو نفس فصل الجماعة الإرهابية واستمراراً لسياسته فى شق الصف قاموا بتصنيف الناس إلى قسمين المؤيدين لثورة 30 يونيو يقولون عنهم مؤيدو الانقلاب ومن وقف ضد 30 يونيو مؤيدو الشرعية.
الإخوان يسيرون على نهج وسياسة الاستعمار «فرق تسد» نفس النهج قتل الأبرياء، تشويه الرموز، التعالى على الشعب، نهب مقدراته وثرواته، وكأننا استبدلنا نظام مبارك بنظام أكثر فُحشا وهو الإخوان الإرهابى وكأن الثورة لم تقم والشعب لم يثر فلم تكن الكفاءة شرطا اساسياً لاستعانة الثورة برجال يتحملون المسئولية، إنما كان الولاء الشرط الأساسى هنا فى هذه اللحظة انسحب من الميدان أصحاب الكفاءات والمهارات الذهنية، وتبقى بجانب الإخوان الإرهابية نمطان جديدان هما الكلمنجى والحلنجى، وهما نمطان يملكان كفاءة الاقناع بالصوت العالى والإلحاح، وتقبيل الأيادى والرءوس، بدون كلل أو ملل ويملكان مهارات الاقتراب والابتعاد حسب المواصفات ويملكون مفردات التعامل.
ولأن النفس البشرية ضعيفة امام الثناء وحلو الكلام فقد وصل الكلمنجى إلى غايته وحقق الحلنجى أهدافه، ولقد استشرى هذان النمطان فى مجتمعنا وحقق نجاحا ملموساً.
والكلمنجى والحلنجى ليسا حكراً على الرجال فقط، هناك نوعية من النساء يملكن خاصية الكلام المدهون بزبدة وعسل وهو مدمر لمناعة بعض الرجال مهما تحصنوا بالوقار والسلطة.
هناك امرأة حلنجية لها قوة ثلاثية فعالة وفتاكة وهذا النوع يتمتع بجمال باهر أخاذ وينتشر وجوده حول رجال الأعمال وبعض رجال السلطة النافذين ولهن شباك من نوع خاص.
اما المرأة الكلمنجية فهى تدرس فريستها برفق ثم المناورة وأخيرا الانقضاض.
هناك صنفان من البشر، نوع شاطر بكفاءته، ولكن مهارته الشخصية تنحصر فى كونه كلمنجيا أو حلنجياً، كلمنجى بمعنى أنه يجيد الكلام، كل صنوف وفنون الكلام الهايف، وحلنجى بمعنى أنه يلعب على أوتار الضعف عند رئيسه أو المسئول الذى بيده مصلحته.
فالحلنجى يزين لرئيسه انه الأوحد القادر على تحويل التراب إلى ذهب، ونحن بشر والكلام يؤثر فينا، وربما نتهم الكفاءات الصامتة بكبرياء أنهم يتأمرون علينا، حتى طفحت على السطح نظرية «مشى شغلك» أى نافق وداهن وراوغ أو كن كلمنجياً أو حلنجياً أيهما أقرب إلى طبيعتك.
بعض الناس لا يجيدون الكلام والمداهنة والمراوغة، فيظلون محلك سر، آخرون منهم الكلمنجى والحلنجى يحققون أهدافا معنوية كالحصول على الترقيات والعلاوات وأيضا اهدافا مادية وفى كلتا الحالتين هم رابحون.
الكلمنجى أو الحلنجى حالتان لهما مكونات نفسية وبشرية وربما بدنية وليس باستطاعة أى انسان أن يكون ذلك النمط.
أما الإنسان الأمين الكفء المستقيم فى الرأى والرؤية ينطبق عليه وصف كامل الشناوى «بعضى يأكل بعضى» ولكن لماذا طفا على سطح الحياة فى مصر هذان النموذجان؟! والإجابة لأسباب عديدة منها غياب الموضوعية والتحول بسبب الثروات المفاجئة التى لا نعلم كيف هبطت عليهم ومنها أيضا بقايا الحكم الشمولى وتفضيل الولاء على الكفاءة، ومنها افتقاد المعايير الموضوعية المنضبطة فى شتى وجوه الحياة ومنها ضعف النفوس أمام النفاق، ومنها تطلعات الجاه والسلطة والقفز إلى الطبقة الأعلى.
هنا فى مصر بشر تسكنه الكرامة والكبرياء، ولا يحملون نفسية الخدم، وهؤلاء ينبذون الوصول للأهداف بالنفاق و«الحليطة».
الكلمنجى والحلنجى افراز لمجتمع فقد بوصلة الطموح الطبيعى باعتباره احد أهم حوافز الحياة، وكلما شاع هذان النمطان الدخيلان، تدنت نوعية الحياة.
السلامة لكل مسئول من فنون الفهلوة والحليطة والكلمنجى والحلنجى، وليكن نصب عينيه كيف تصبح مصر قد الدنيا؟