السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

التحليل النفسى لمرشحى الرئاسة ـ عبدالفتاح السيسى «2» المـُتوحد




كتب: د/ على الشامى

ظهرت فكرة التحليل النفسى لمرشحى الرئاسة فى البداية كمحاولة للحديث عن مرشحى الانتخابات الرئاسية السابقة وذلك من الناحية النفسية وتفسير سلوك تلك الشخصيات وتوجهاتها ومواقفها وتحليلها طبقا لمقتضيات علمية حسب أصول نظرية التحليل النفسى والتى أعلن فيها – فى نتيجة مشكوك فى صحتها إلى هذه اللحظة – تغلب مرشح الإخوان محمد مرسى على مرشح نظام مبارك فى أول انتخابات رئاسية تقام بعد الثورة على نظام مبارك تطالب بحكم مدنى فى شكل كوميدى ينتمى إلى الكوميديا السوداء كأن يتنافس فريقان أوروبيان فى نهاية الدورى المصرى.. وتعطل الأمر لأسباب فنية، وانطلقت الأحداث لعام كامل أو يزيد فاز – صوريا – مرشح الإخوان.

بدأ «مرسى» فى مشروعه «التمكين» أو «الأخونة» كما عرف إعلاميا فى ذلك الوقت، لكن الوتيرة كانت متسارعة جدا والأحداث ملتهبة للغاية بشكل يجعل كتاب «الفنتازيا» أنفسهم يقفون حيارى أمام هذا التتابع وذلك السيل المنهمر من الأحداث - وإن كان له تفسيرات نفسية تعرضنا لها فى السابق ونستمر فى عرضها فى المستقبل - حتى وصلت الأمور فى خلال عام إلى وضع متأزم جدا، لدرجة جعلت المصريين جميعا بلا أدنى مبالغة يتفقون على شيء واحد وهو رحيل الإخوان عن السلطة، وهو الحدث الإعلامى الأبرز فى تجليات المشهد الأكثر جلالا والأكثر نبلا فى تاريخ المصريين بل والإنسانية كلها - ثورة 30 يونيو -، تمر الأيام بعدها ويبدأ الإخوان فى الكشف عن وجههم القبيح، وتعود الدائرة السياسية لنقطة البداية ويعود المصريون للمربع صفر سياسيا، محملين بتجارب وذكريات ثلاث سنوات يغلب عليها الألم والمرار، إلا أن الزمن هو وحده الكفيل بإيضاح ما إذا كان الشعب المصرى قد تعلم من تجاربه ولا سيما المريرة منها أم ماذا؟ هذا ما سنتنبأ به الأيام القادمة.
فى مجمل حديثنا السابق عن السيسى خلصنا إلى وجهة نظر تشرح نظرة الشعب المصرى تجاه السيسى وسلطته المنتظرة، أو القائمة فعليا من وجهة نظر البعض، أو القائمة المتجددة من وجهة نظر البعض الآخر، ورصدنا بشكل تفصيلى التفاعلات النفسية القائمة بين السيسى كرئيس مقترح أو كأب نفسى قائم بالفعل و بين جموع المصريين، نستكمل فى هذه الحلقة أداء السيسى النفسى وتفاعلاته تجاه الشعب المصرى وتجاه منظومته التى خرج منها أو انتمى إليها ما يزيد على أربعة عقود حتى خرج منها مؤخرا، وإن كنت متحفظا على مسألة الخروج الفعلى من الناحية النفسية رغم وقوعه من الناحية القانونية أو الاجرائية بشكل رسمى .. ليكن ولنستكمل إذن .
  حديثنا هذه المرة يتأرجح بين نظريتين متزامنتين متقاربتين فى بعض المفاهيم و إن اختلفتا فى البعض الآخر، الأولى هى نظرية التحليل النفسى عند "سيجموند فرويد" - طبيب نمساوى يعتبر مؤسس علم التحليل النفسي-، الثانية هى نظيرتها عند "كارل يونج" - عالم نفس سويسرى ومؤسس علم النفس التحليلي-، فى الأولى قمنا بعرض تفاصيلها فى الحلقة السابقة ونستكملها الآن وهى خاصة بالوعى الفردي، وتحدثنا عن العلاقة المباشرة بين "السيسي" وجموع الناس والعكس والتفاعلات النفسية طبقا لنظرية التحليل النفسى الكلاسيكية تتحدث عن شعور الفرد ولا شعوره، وهو أمر يخص الفرد وحده أو يخص النفس فيما عداها أما "يونج" فقد أضاف مفهوما جديدا للوعى أو الشعور وهو الوعى الجمعي، ملخصه أن الفرد يحمل فى داخله موروثا جمعيا للفئة التى ينتمى إليها أى يستدمجه فى اللاشعور، ويؤثر بشكل أو بآخر على سلوكه وتفاعلاته مع الآخرين، تكون هذه الخبرات الجماعية المتداخلة فى وعى الفرد لجماعة بشرية معينة وتمتد حتى تشمل الإرث الإنسانى كله أو الوعى الجمعى للبشر جميعهم، بمعنى أن الجينات البشرية لا تحمل فقط الصفات الوراثية وإنما تحمل أيضا الإرث المعرفى و السلوكى للبشرية و إن كان فى خافية الشعور إلا أنه عند اللزوم يطفو ليؤدى دوره المناسب فى الشعور .
بدأت حديثى بأن السيسى الذى ظل قرابة 45 عاما فى الجيش المصرى متدرجا فى وظائفه وقياداته وصولا لأعلى مناصبه فى الحقيقة قد انفصل عن الجيش إداريا فقط، إلا أن الرجل وكيانه المتشكل عبر عقود والذى طفا لا وعيه إلى سطح الوعى فبات ظاهرا فى السلوك، يشى ببساطة بأن الوعى الجمعى للتاريخ الخاص بالجيش أو العسكرية المصرية مؤثر محورى فى مجريات الأحداث سابقا، ولا أكون مبالغا إن قلت ولاحقا أيضا، بل وربما تكون هذه هى الحقيقة الوحيدة حتى لحظة كتابة هذه السطور !
إذا حاولنا استحضار تاريخ العسكرية المصرية فإننا سنكون بالطبع فى أمس الحاجة إلى استحضار التاريخ المصرى كله عبر آلاف السنين وأرى أن المقام هنا يضيق بذلك، لذا فسأقوم باستعراض نماذج حديثة خلال المائتى عام الأخيرة أو مايزيد قليلا، ونجد أننا خلال هذه الفترة الزمنية أمام ثلاثة نماذج أساسية تختص بالعسكرية المصرية وتفاعلاتها مع الواقع السياسى والشعبى المصري، أول النماذج هو تجربة محمد على الثانية، الحركة العرابية، تليها ثورة 1952 "جمال عبد الناصر"، ونبدأ بتحليل التجارب فى مقارنة ومقاربة بين النموذج الرابع وهو نموذج "السيسى"، ولكن وقبل أن استطرد فى الأمر هناك كلمة يجب أن تقال، وهى أن العسكرية المصرية أو الجيش المصرى - على الأقل فى التاريخ الحديث وابتداء من عصر محمد على وحتى الآن - هو جزء من الأحداث، أى أنه مؤسسة قائمة يمتد دورها وينحسر، و ليست مؤسسة الحياد التى تقف بعيدا عن الأحداث، فالجيش وبحكم انخراط أبناء الشعب المصرى فى صفوفه وتحوله إلى جيش وطنى أصبح جزء من العملية السياسية بما له من مميزات، يراها البعض مكتسبات عظمى و ما عليه من عيوب يضخمها البعض ويصل بها إلى حد الخطايا، بمعنى أن الجيش كمؤسسة يمتد دوره وينحسر مثله مثل مؤسسات أخرى متفاعلة مع الواقع الاجتماعى للشعب المصري، وليس جيشا يقف على الحياد، أو جيشا يجلس فى ثكناته عند الحدود، لذا فشئنا أم أبينا فالجيش لاعب أساسى فى العملية السياسية بحكم طبائع الأمور الجارية منذ مائتى عام وأكثر، والمختلف فقط هو حجم الدور الذى تلعبه هذه المؤسسة فى الواقع السياسى المصرى .
توحد السيسى بحكم الموقع وبحكم الأمور التى جرت فى البلاد قبل وبعد ثورة ثلاثين يونيه مع نماذج سابقة بحكم الوعى الجمعى للمصريين وللمؤسسة العسكرية تحديدا، فالجيش هضم التجارب السابقة له وادخلها فى منظومة اللاوعى الخاصة به و إن لم تخرج عن إطار التأثير فى الوعى والواقع المعاش، لكن وتحت أى ظرف من الظروف ظل الاختيار بين كل التجارب السابقة للمؤسسة العسكرية هو اختيار واع، أو لنقل اختيار واقعى تحركه الظروف و الأحداث الراهنة والملابسات على الأرض، فمثلا نجد "السيسى" فى بداية ظهوره كطرف قبيل ثورة الثلاثين من يونيه بأيام وبعد الثورة ومع تعاظم الدور الذى قام به نجد أن النموذج الأقرب له فى تلك اللحظة هو نموذج محمد على مع تخط لنموذج "عرابي"، وإن استلهم ملامح وطنية منه، أما فيما بعد فإننا نجد أن الأمور وأطراف عديدة على الأرض وفى الواقع - ولا أعرف إن كان السيسى نفسه راغبا فى ذلك أم لا - يتماهى مع النموذج الناصري.
توحد "السيسي" مع النماذج الثلاثة وصار عليه صناعة النموذج الرابع فى التاريخ المصرى الحديث ولم يبق أمامنا الآن سوى تحليل تفاعلات النماذج الثلاثة مع نموذج السيسى الذى تجرى وقائع تكوينه هذه الأيام، ما هى أوجه المقاربات و الاختلافات وما هى فرص الاقتراب و الابتعاد من هذه النماذج، وما هو النموذج الأقرب للتحقيق على الأرض فى هذه المرحلة الحرجة من التاريخ الحديث لمصرنا الحبيبة ..  لكن لهذا الحديث بقية نكمله فى الحلقة القادمة مع الجزء الثالث.

[email protected]