الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«الخال»: أينما تكون مصر أكون موجوداً




حوار– تغريد الصبان

من أعماق جنوب مصر أتى إلى القاهرة، لكنه لم ينبهر بأضوائها ولم يصدم صدمة حضارية كسابقيه من أبناء الأقاليم، بل أدرك منذ البداية أن عليه أن يوجد أينما يوجد الجماهير وأينما توجد مصر على حد قوله، «الخال» شاعر العامية الكبير عبدالرحمن الأبنودى الذى يحتفل هذه الأيام تحديدا فى 11 أبريل بعيد ميلاده السادس والسبعين، الذى يتذكر فى السطور التالية عن أهم ذكرياته ويحكى عن علاقاته بتفاصيل مختلفة فى حياته فى حوار خاص .. يفتح «الخال» قلبه لروزاليوسف ...


■ بعد بلوغك الـ76 .. كيف تنظر لمشوارك الطويل؟
- عادة ما يخاطب الناس أعمارهم الحقيقية..وأضاف ساخرا.. وأنا أريد أن أخبىء عمرى الحقيقى خوفا من حسد الناس على كتر السنين .. فأنا عشت بالفعل 76 عاما لم أفرط فى يوم، فأنا عشت أيامى كما يجب أن يعيشها الإنسان، كما يجب أن يفهمها ويدرك قيمة الحياة الحقيقية وأهميتها، ويصدق فعلا أن الإنسان بلا أمل وبلا عطاء وبلا عمل وبلا محبة للآخرين ولا تمارين لكى يوسع قلبه وعاطفته للآخرين، يصبح شيئا هامشيا .. أنانى .. فردى .. هزيل .. ضعيف .. وخارج سياق الحياة ونبضها، الذى يشبه موج البحر فى هيجانه وفى هدوئه، فقضية أن يستقبل الناس يومهم بالقرف والملل والاستسلام، هو إحساس لا يليق بالإنسان! .. لأنه صانع الحياة وليس العكس، فلا يجب أن نترك الحياة تدهسنا وتهرسنا وتهزمنا، فكيف تهرسنا ونحن صناعها؟
فأنا سعيد ببلوغى عامى السادس والسبعين، وأى يوم أعيشه بالماضى أو بالمستقبل فأنا أستحقه، لأننى لو لم أكتب قصيدة، أو زرعت وردة، أو ساندت ضعيفا، أو أضفت البسمة، أو وقفت إلى جوار مظلوم، أو حتى قرأت كتابا جيدا، فعلى الإنسان ألا يدع يوما يمر دون أن يمنح الحياة شيئا من نفسه، ويترك وراءه ضوءا ولا يكون أنانيا يعيش لنفسه.


■ ما أكثر المراحل التى تتوقف عندها فى يوم ميلادك؟
- أتذكر ست تجارب مهمة ومفصلية فى حياتي، أولها قريتى «أبنود» وهى تجربتى الكبرى، حيث ألهمتنى بأعز ما أملك من أشعار، فى نفس الوقت تجربتى بـ»أبنود» مختلطة بتجربتى كراعى غنم إلى الحصاد إلى قطع البلح إلى جنى القطن، وكل ما مارسته من أعمال كطفل فقير لم يكن يتخيل يوما أن يكون فى هذه المكانة، هذه التجربة مختلطة بتجربة امرأتين أشعلتا بداخلى حب الفن والقصص الشعبية، جدتى «ست أبوها» وأمى «فاطمة قنديل»، فتجربة أبنود هى من أهم الركائز التى تتكىء عليها تجربتى الشعرية وتجربتى بالحياة ككل.


■ ماذا عن التجربة الثانية؟
- التجربة الثانية هى تجربة السد العالي، وهنا تمتشفين أنه «مطرح ما تكون مصر أنا باكون»، فحين كان السد يبنى فى أسوان كانت مصر هناك، فكان على الرحيل لإسوان لأقيم بين العمال والمهندسين، وخرجت منها بديوانى الشهر «جوابات حراج القط».. إلى زوجات العامل بالسد العالى..


 ■ وتجربتك الثالثة؟
- التجربة الثالثة هى تجربة القاهرة المختلطة بتجربة السجن، فلا يجب الحديث عن الحرية ونحن لم نجرب القيد، ففى الماضى كان لفنانون السذج يصورون الحرية، على انها الحمامة التى تحلق بعيدا عن القضبان، لكن عندما يسجنون يدركون سذاجة هذا التعبير والتصوير للحرية، فالحرية الحقيقية هى أن تقرأ جريدتك فى الصباح بدورة المياه! .. أو اللهاث وأنت تصعد إلى منزلك.. يعنى ممارسة تفاصيل حياتك الصغيرة، فالسجن هو المقياس الأساسى للصدق والكذب والقوة والضعف ودرجة الإيمان والقدرة على التخلي، فجدار السجن هو المعلم الأكبر، فحين يسند الإنسان ظهره على جدار السجن يعرف من هو بالتحديد.. هل هو خائف ؟ هل هو نادم؟ .. هل هو فخور؟ ... الخ.


■ وماذا عن الرابعة؟
- هذه هى التجربة الأهم، لأنها التجربة المرتبطة بالغناء عندي، واختلاطها بالنكسة فى 67، ومن ثم رحيلى إلى مدينة السويس، حيث لم أستشعر يوما أننى أنتمى إلى النخبة أو جزءا أصيلا منها، و لا أستطيع أن أقضى الوقت جالسا على المقاهى أنعى حظى وحظ مصر، وأدخن السجائر بكثافة و «أنبط» على الحكومة، وأعيش دور الثورى كما يحلو للكثيرين حتى الآن، فذهابى إلى السويس وقضائى لفترة حرب الاستنزاف كلها تحت الصواريخ والنابالم والقنابل، ورؤيتى لشهداء المدينة والناس «غرفهم» لتضعهم على عربات الكارو والذهاب بهم إلى المستشفى، وكتابتى لأغنية «يابيوت السويس» وديوانى «وجوه على الشط» عن تجربتى مع الفلاحين الذين رفضوا الهجرة والجنود الذين عادوا لينتقموا لنكسة 67، وهنا أيضا تبين لى جزءا آخر من سذاجتنا حين نظن أن الجنود حين استشهادهم يحتضنون أسلحتهم والوطن ويقتلوا وهم مبتسمين! .. هذا غير صحيح! .. فلو نظرت لوجه الشهداء فى المعركة تدركين مدى الرعب والخوف والهلع فى عيونهم، فالشباب فى المعركة شىء مختلف تماما يسقط منك كل رموز الرومانسية، التى تتحول لتكون هذا الكائن الذى يشكله رعب المعركة، فهذا الإنساان الذى يموت فى سبيل الوطن ليس حجرا! ... ما كان يمكن أن أعرف ذلك دون تجربتى الخاصة مع حرب الاستنزاف.


■ الخامسة؟
- تجربة زواجى من الإعلامية نهال كمال وإنجابى لآية و نور، بعد أن كنت قد قررت أن أتخلى عن فكرة الإنجاب واكتشفت كم كنت مغفلا كبيرا! ... فآية ونور قد فتحتا شباكين رائعين على الحياة الرائعة، ومنحتانى مساحات فى المشاعر كانت ستحجب عني، مما يجعلنى أتساءل بينى وبين نفسى : كيف لشاعر أن يعيش بنصف مشاعره؟! .. التجربة الأخيرة هى أنا الآن، فى وسط أحبائى وهذا التقدير العارم والمحبة غير المحدودة، فأنا لم اصنع شيئا يستحق كل هذا الحب، أقول هذا بصدق... فماذا لو كنت نجيب محفوظ! « كنت هدّيت الدنيا ولا إيه؟! « .. أذكر أننى قلت لعم محفوظ ذات مرة : أنا باحمد ربنا ان انت ماطلعتش شاعر! .. كان زماننا صرينا هدوماتنا فى صرة ورجعنا بلادنا البعيدة، لأن الملاحم اللى كتبتها فى «الحرافيش» و»أولاد حارتنا» وهذا التألق الشعرى العظيم كان حيجيب أجل اللى خلفونا، ولا شاعر كان حايبان جنبك، الحمدلله ان عقلك ما وزّاكش تكتب شعر! .. والحمدلله انك بتكتب على أعمالك روايات مش شعر!، فروايات عم نجيب بها مناطق كثيرة من الممكن أن نعتبرها شعرا أو قصيدة نثر بمستوى راقى تماما.


■ كيف استقبلت نبأ اهتمام مؤسسة الأهرام وتكريمها لك والاحتفال بعيد ميلادك؟
- الحقيقة هذا شىء غريب جدا، أولا إذا كرمت «الأهرام» الأستاذ هيكل هو من بنى صرح الأهرام الحديث ومنحه استقراره، لكن أنا نشرت أحيانا فى الأهرام فى ملحق الجمعة «أيامنا الحلوة» وكنت أنشر قصائدى من حين لآخر، لكن الدكتور أحمد السيد النجار ورئيس التحرير محمد عبدالهادى علام وصديقى العزيز الشاعر المهم إبراهيم داوود دينامو الحفل، وما فعلوه من كرم مبالغ فيه واحتفال، وجمع أحبابى بعد سنوات طويلة، رغم أنهم يأتونى من حين لآخر، لكن تجمعهم جميعا وهذا الزحام الدافىء، رغم أنه كان سيقتلنى الأربعاء الماضي، لكنه قتل لذيذ، لم أكن أتخيل هذا الكم من المحبة، فلم أتخيل أن أجد صابرين ومحمود حميدة وحمدى أحمد ومجدى أحمد على ومشيرة إسماعيل ووحيد حامد وكثيرين جدا، كذلك الكتاب والأدباء بهاء طاهر وجمال الغيطانى ومصطفى حسين وإبراهيم عيسى والمسلمانى والدكتور مصطفى حجازى وأحمد مجاهد والدكتور محمد المخزنجي, الدكتور صابر عرب كان من أول الموجودين، وأصدقاء لى لم أرهم منذ زمن طويل، وعلى رأس الجميع الأستاذ هيكل، واليوم وجدت كل الجرائد تحتفل احتفالا كبيرا فيما عدا جريدة واحدة! فوق كل هذا زوجتى العزيزة نهال كمال وابنتى نور وآية وتحدثوا وكان كلاما طيبا.


■ مَنْ من أصدقائك الراحلين كنت تتمنى أن يشاركك احتفالك بعيد ميلادك؟
- كما ذكرت سابقا تمنيت وجود عمنا نجيب محفوظ، صلاح جاهين الذى قدمنى واحتفى بى وأنا فى مقتبلى كشاعر وأول من كتب عنى كلمة، وأمل دنقل، ويحيى الطاهر عبدالله الذى توفى وولد هذا الشهر، واذكر أننى دفنته يوم عيد ميلادي! .. و «فاطمة قنديل» لكننى لم أكن لأحضرها لهذا الحفل .. أضاف ضاحكا: لم تكن لتتقبل هذه الأجواء الأفرنجية، رغم أنها كانت «نمرة» وعاشقة للمرح والكوميديا، فلقد ماتت بقلب طفل كما وصفتها نهال كمال.


■ هل ترى أن الدولة كرمتك بشكل يليق بتاريخك الطويل؟
- أقول الحق؟ .. أنا واحد من الناس ممن حصلوا على أكثر من حقهم، فأنا أتمتع بحب لم يتمتع به .. ربما كاتب بالشارع المصري، فأنا رجل يحبه الحفاة والعراة، وهذا تكريم لم يعطى لأحد، ربما عم عبدالله النديم الذى خبأته الجماهير لتسع سنوات هربا من السلطة والطغاة، أيضا عم بيرم التونسى فى قصائده التى كانت تخاطب المثقفين أيضا، لكن المهمشين من الجماهير لم يضعها أحد فى الاعتبار حقيقة، ربما لأننى منهم أو ربما لأننى لم أفك الروابط بينى وبينهم ولن أفكها بعون الله، فالبسطاء من العمال والفلاحين يتعلقون بحديثى عنهم وعن السيرة الهلالية والمرأة الصعيدية والريفية وتقديمى دوما لنصوص شفاهية للأدب والشعر الشعبي، كل ذلك جعل الحفاة والعرة يعرفون الأبنودي، ليس لأننى الأحسن ولكننى لأننى مرتبط بهم لا أكثر.
فهذه التكريمات انا فخور بها، فمثلا الأهرام لم يكرم قبلى سوى نجيب محفوظ، وأذكر أنه سئل وقتها عن ما يريده فى الاحتفال به، فقال ضاحكا: أريد أم كلثوم، بالفعل حضرت السيدة أم كلثوم حفل تكريم عم نجيب محفوظ إكراما له ولهيكل.


■ ماذا عن ديوانك الجديد «المربعات» هل هى جمع لمربعاتك اليومية بجريدة التحرير؟
- أولا المربعات التى بجريدة «التحرير» ترصد عاما من حكم الإخوان المسلمين، بعد أن أتوا بقليل وبعد أن رحلوا بقليل، وكان السبب فيها هو إبراهيم عيسى الذى استطاع بطريقته إقناعى بالكتابة بالتحرير، الأمر المهم أننى أهديت هذا الديوان فلإخوان المسلمين، فلولا هذا العام الحافل الذى عشناه فى صراع مع الإخوان المسلمين، لما كتبت هذا الشعر، بهذا العدد الرهيب، لكننى لم أنسى الشعر ولا قيم الشعر، التى حرصت عليها لأعطى المربعات قيمتها الشعرية وهى الأعلى من قيمة الحدث السياسي، ربما هذا ما أعطاها قيمتها ورصانتها، وأنا سعيد أن الديوان خرج فى الاحتفالية، وأشكر الدكتور أحمد مجاهد الذى استطاع إنجاز هذا الديوان.


■ حدثنا عن علاقتك بالسيجارة..
- السيجارة! ... هذه هى أحقر علاقة فى حياتى وأعمق علاقة فى حياتي! وهى أشبه دائما بالعلاقات غير الشرعية، لها نوع من الشهوة والاندفاع إليها، ولها من الأخطاء والإحساس بالذنب الكثير، تعلمتها حين توظفت بالمحكمة الشرعية، حين يدخل على المحامون وكتاب المحامون وهم يقدمون إلى السيجارة، وارفضها لأننى لست مدخنا لكنهم يدفعونى لأن أعفرّها! .. وأنا أعلم أنها تبدأ بالسيجارة وتنتهى بالسجن!.. لكن الله أنقذنى واستقلنا أنا وأمل دنقل وجئنا للقاهرة، لكننى اصطحبت معى السيجارة، إلى أن أصبت بأزمتى الصحية الكبيرة وأقلعت عن السيجارة، واكتشفت أننى قد أنهيت علاقة بلهاء! .. فالاعتقاد بأننى لن أكتب إلا وأنا أدخن أو لن يستقر الطعام بمعدتى غلا حين أدخن وكله كلام فارغ فى فارغ! .. فأنا الآن ذهنى أكثر صفاء، وأكتب أضعاف ما كنت أكتب بالماضي، فالسيجارة هى نوع من الاستعمار الأجنبى لنا، ونوع من محاربة الدول النامية والفقيرة أمثالنا، الأهم من كل هذا أن بناتى دخلن مؤخرا مكتبى وكأنهن قد اكتشفن مقبرة فرعونية حديثة! ... حيث رأتا عالم هذا الرجل الذى كان يدعى أنه والدهما، فكانت لقاءاتى بهما قليلة لأننى كنت أفضّل السيجارة بالتالى كنت حبيس غرفة مكتبي، فعلاقتى بابنتى الحقيقية بدأت بعد تركى التدخين.


■ ما أمنياتك بالمستقبل؟
- أمنياتى كأمنيات كل المصريين، وهى عبور تلك الفترة، وأنا متأكد أننا سوف نعبرها مهما كانت التضحيات، وكما قال السيسى سوف نسترد مصر بعون الله، ونحن معه فى محاولة استرداد مصر بلا شك.