الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

الصرخة التى هزت عرش الاستبداد!




عجيب أمر هذه السيدة الرائعة «روزاليوسف»!


لقد  شاء حظى - وما أسعدنى  أن أعرف معظم نجوم الصحافة الذين تتلمذوا وتعلموا وتدربوا وكتبوا فى مجلة هذه السيدة «روزاليوسف».


سحرتنى شخصيتها، وبهرتنى إرادتها الحديدية، وأعجبنى عنادها الأسطورى فى النجاح والإصرار على هذا النجاح.


لقد كانت بحق - وكما وصفها الكاتب الكبير كامل زهيرى - أمرأة حرة  مستقلة ذات سيادة.


لقد كانت معجزة إنسانية وصحفية بكل معايير ومقاييس عصرها، فهذه السيدة التى لا تحمل شهادة مدرسية ولا مؤهلًا علميًا هى التى أخرجت جيلًا كاملًا من الكُتّاب السياسيين ومن الصحفيين، هى التى أرشدت أقلامهم، وهى التى وجهتهم، وهى التى بثت الروح فيهم، وهى التى انتقتهم ورشحتهم لمستقبلهم.


كانت فى السابعة والثلاثين من عمرها عندما أصدرت مجلتها «روزاليوسف» فى 26 أكتوبر سنة 1925، وكانت فى الثانية والأربعين من عمرها عندما أصدرت جريدة «روزاليوسف» اليومية فى فبراير سنة 1935 .


وفى أثناء هذه السنوات الخمس من أواخر سنة 1930 إلى أوائل سنة 1935 تعرضت مجلتها لحرب لا نظير لها لدفاعها عن الدستور والحرية، وما أكثر المرات التى تعطلت فيها وصودرت أو اغلقت إلى الأبد، ولكتم صوتها ورأيها.


لكن «روزاليوسف» كانت تواجه هذا التحدى من الحكومات المستبدة بإصرار وعناء فكلما عطلت الحكومة مجلتها  أو أغلقتها أصدرت مجلة أخرى باسم جديد.


خلال عام واحد صدرت «روزاليوسف» بأربعة أسماء مختلفة هي: «الرقيب» و«صدى الحق» و«الشرق الأدني» و«مصر الحرة»، والبرق والربيع» و«صدى الشرق» وكانت كل مجلة من هذه المجلات يكتب على صدرها عبارة: تشترك  فى تحريرها السيدة روزاليوسف.


وأخيرًا «الصرخة» التى صدر عددها الأول فى 15 أكتوبر سنة 1930.


لقد شاءت الصدفة وحدها أن يكون لدى مجلد يتضمن ثلاثة وثلاثين عددًا من هذه المجلة التى صدر منها 42 عددًا قبل أن توقفها السيدة روزاليوسف فى 16 أغسطس سنة 1931 لتعاود إصدار مجلتها الأصلية، لقد اشتريت هذا الكنز النادر من الصرخة منذ سنوات طويلة بثلاثمائة جنيه دفعتها عن طيب خاطر ومضيت فى تصفحها وقراءتها مندهشاً ومنبهرًا من كل ما تضمه صفحاتها: مقالات، آراء، تعليقات، أزجال، رسوم كاريكاتير مبهرة، يقود ذلك كله باقتدار الكاتب الكبير الأستاذ «محمد التابعي».


لقد صدرت هذه المجلة فى أعقاب مصادرة وتعطيل العدد رقم 184 من مجلة «روزاليوسف» الذى كان سيصدر يوم الخامس من أغسطس سنة 1930 وكان غلاف العدد رسمًا كاريكاتوريًا ساخرًا يصور الخراب ويصور رئيس الحكومة «إسماعيل صدقى باشا» وهو يحمل مسدسًا يتصاعد من فوهته الدخان وكتب تحت الرسم عبارة : إسماعيل صدقى يحكم البلاد بالعناصر الرشيدة الحديد والنار».


لم تستسلم السيدة روزاليوسف كعادتها فى مواجهة المحن والمصائب وراحت تبحث عن رخصة جديدة لمواصلة إصدار مجلتها، وعثرت على رخصة باسم «الصرخة» اتفقت مع صاحبها «عبدالرحمن العيسوي» على استئجارها مقابل أثنى عشر جنيهًا كل شهر!


ثلاثة وثلاثون عددًا من الصرخة تتضمن حوالى 720 صفحة تتضمن نغمة واحدة لا تتغير أو تتبدل: كانت صرخة صادقة ضد استبداد حكومة «صدقى باشا» ودستوره الرجعى، وبرلمانه المزيف، وحزبه الوهمى، وصحيفته التى لا يقرأها أحد!


ولم تكتف «الصرخة» بذلك الدور فقط بل تصدت بنفس الشجاعة إلى الصحف المأجورة التى استعانت بها الحكومة أو جندتها للدفاع عن سياستها الاستبدادية والرجعية، وفى افتتاحية عنوانها «حظ الصحافة فى مصر» وكتبت تصف هذه الحالة بالمصادرة والتعطيل وقطع موارد الرزق دون مسوغ أو مبرر والإيداع فى السجن والزج بالصحفى بين القتلة والسارقين وهاتكى الأعراض».


وتروى قصة صحفى اسمه «على راغب افندى عبد الملك» المحرر بجريدة مصر وحكمت عليه محكمة الجنايات بالحبس البسيط لمدة شهرين لكن عند ذهابه إلى القسم وجد نفسه مأمورًا بكنس القسم كل يوم!


أكثر من هذا فقد كشفت «الصرخة» فى أحد أعدادها عن مؤامرة حكومية لمد أجل امتياز قناة السويس أربعين عامًا مقابل 15  مليون جنيه!


وتسخر «الصرخة» من تصريحات وخطب رئيس الحكومة فى كل عدد بالكلمة والرسم والزجل وخاصة تصريحه إنه باق فى الحكم عشر سنوات!


وتهاجم «الصرخة» صحيفة الحكومة التى خرجت تكتب دون حياء أو خجل ان من بين شعوب الشرق من لا يصلح فى حكمه سوى العصا والكرباج!!


وعندما تصف صحيفة الحكومة على لسان أحد الوزراء بأن كل شيء هادئ فى مصر تسخر الصرخة من هذا الكلام الفارغ فتكتب إليه ساخرة: «اضحكوا من أنفسكم أيها المصريون واضحكوا من تعاستكم، واضحكوا من هذه الأزمة الطاغية، وأضحكوا من دستوركم وبرلمانكم وحريتكم وغنوا كل شيء هادئ».


ولم تترك مجلة الصرخة  «حزب رئيس الحكومة»  - «حزب الشعب» - أو «جريدته الشعب» بل راحت تشن عليها حملات لا تنتهى من النقد والسخرية وراحت تفضح أكاذيب الصحيفة وأرقام توزيعها الذى لم يتجاوز أربعمائة وثمانين نسخة فى ثلاثة أيام! وسخرت من ذلك قائلة: هنيئًا لحزب الشعب ورئيس حزب الشعب بجريدة «الشعب»، ولا تنسى أن تحكى كيف تم فصل رئيس تحريرها قبل سنوات من الهيئة الوفدية.


وبعيدًا عن السياسة اهتمت «الصرخة» بأحوال المسرح والفن والتمثيل والفرق المسرحية ونجوم ذلك الزمان!


كان كل عدد من «الصرخة» يتضمن ما لا يقل عن عشرة رسومات كاريكاتير يرسمها الفنان «صاروخان» الأرمنى الأصل بأفكار الأستاذ «محمد التابعي» وكل كاريكاتير كان يتسبب فى أزمة مع الحكومة!


ورغم أهمية وخطورة ما كانت تنشره «الصرخة»، فالغريب أنها ظلت مجهولة ومنسية لا أحد سمع بها أو أعرف شيئاً عنها، حتى السيدة العظيمة «روزاليوسف» عندما كتبت ذكرياتها لم تكتب عنها سوى سطور قليلة جدًا.


لقد طغت شهرة «روزاليوسف» المجلة والجريدة على كل المطبوعات التى أصدرتها بحماس وحب وصدق السيدة روزاليوسف.
ولم أفرح فى حياتى مثلما فرحت وأنا أعيد قراءة أعداد مجلة «الصرخة» تمهيدًا لإعادة طبعها وإصدارها فى عدة مجلدات تحت عنوان «تراث روزاليوسف» وهو كنز من التاريخ والسياسة والصحافة.


رأى مجلس إدارة «روزاليوسف» أن يرى النور لقارئ معاصر لم يكن قد ولد يوم ولدت الصرخة.


وأكرر التحية والتقدير لمجلس إدارة روزاليوسف ورئيسه المهندس «عبد الصادق الشوربجي» لعنايته وحماسه بهذا النشر الذى صدر منه حتى الآن مجلدان يضمان 13 عددًا، وخلال أيام يصدر الجزء الثالث من الصرخة التى كانت بحق وصدق.. مجلة ضد الاستبداد!