الإثنين 23 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

يحيى الطاهر عبد الله..حكاء الجنوب الذى لا ينام




كتبت – تغريد الصبان

اليوم تحل الذكرى السادسة والسبعين لميلاد شاعر القصة القصيرة يحيى الطاهر عبدالله، ابن الكرنك بالأقصر، وأصدق من عبر عن الصعيد فى الأعمال الأدبيه، ورغم أن حياته كانت أقصر من أقصوصاته، فإنها كانت مليئة بالأحداث والمشاعر والأفكار، وقدمت الواقع الجنوبى فى إطار من الرومانسية السحرية، شكل أحد أضلاع مثلت إبداعى مع الأبنودى ودنقل، ولم تقل كتاباته شاعرية عن كتابات رفيقيه، فى هذه السطور ذكرى نستحضرها لصاحب «الطوق والإسورة».
أمل دنقل و يحيى الطاهر وأنا، أمل وأنا يعرف بعضنا الآخر منذ الصبا فنحن من قريتين متجاورتين، درسنا سويا وحصلنا على الثانوية العامة فى نفس العام، ثم فشلنا بإرادتنا فى الجامعة، وعدنا للعمل بالمحكمة، يعمل أمل «مُحضَر» يذهب إلى القرى ويحجز على أشياء الفلاحين فى نظير اموال للدولة، وأنا أعمل «كاتب جلسة» اجلس بجوار القاضى الشرعى وأسجل الجلسة، ولم يكن كلانا سعيد بهذه الوظائف، لكن لم يكن أمامنا مفر، إذ انها كانت بالنسبة لنا فترة بناء وفى نفس الوقت فترة اختبار لجدية أشعارنا وقبولنا وقدرتنا على الاستمرار.. فى أحد الأيام فوجئت عقب عودتى للمنزل بوجود يحيى الطاهر عبدالله، سألته: مين حضرتك؟ .. قال: أنا يحيى الطاهر! .. يستطرد الخال: سألت كيف دخل المنزل؟ أمى اخبرتنى أنه جاء إلى الدار وطرق الباب ولما سألته من خلف الباب من انت قال أنا يحيى يا حجة صاحب عبدالروحمان.. افتحي! .. وأدخلته منزلنا لينتظرنى ولم يخرج منه إلا بعد ثلاث سنوات!.. اصبح «يحيى» أحد سكان الدار حتى أنه بقى بالدار عاما كاملا رغم نزوحى انا وأمل للقاهرة.
يردف: كان عليّ أن أسلم يحيى لأمل ليتقاسم معى عبء «الإنسان» يحيى الطاهر عبدالله، فهو مخلوق «عقّادي» الفكر، فإيمانه بالعقاد كان مطلقا وخارج المناقشة وغير قابل للحوار، ونحن كنا شاعرين فى بداية الطريق، نسعى للكتاب بالتفعيلة ومتمردين على القالب الشعرى التقليدي، وهو ما كان يحيى يرفضه بشدة.. المهم حين سألته من انت؟ .. قال أنا يحيى من الكرنك بالأقصر .. أعمل بالزراعة.. وسمعت بيكم فجيت .. وأخدت أجازة، وعلمت فيما بعد أنه كان قد استقال من عمله.
وتابع: يحيى شخص نقى جدا وجميل الروح، وأخوى جدا و ودود، إلا فى النقاش، كان عصبيا بشدة، فكل من يتعامل معه يندهش من هذا الإنسان الذى يحمل كل هذه الرقة بداخله وفجأة أثناء النقاش يتحول إلى كائن متناقض تماما، تشعر أن إصبعه سيخترق عين من يناقشه.. لقد أحببت يحيى جدا .. واكتشفت أن قدومه إلى قنا كان من أجلي، وأصبح من أهل دارنا فكان متداخل معنا ومتعايش مع الجميع، حتى أن أبناء الشيخ الأبنودى كانوا ينزعجون أحيانا من ذاك الغريب الذى ينحشر فى كل شىء .. وأكمل ضاحكا .. حتى أنه كان يفتعل أحيانا المعارك مع الجيران، حين يحادثهم بلغة سيريالية، فنحن نعلم أن شخصيات يحيى الطاهر عبدالله الفنية هى شخصيات حقيقية فى الأساس.
يستطرد : المهم نزحنا أنا وأمل للقاهرة وظل يحيى ببيت الشيخ الأبنودي، وبعد عام ونصف فوجئت به يدخل مقهى «إيزا إيفيتش» بالتحرير حيث نجلس دوما، وقلت له: إيه يا يحيى ازيك يا حبيبى عامل ايه؟ .. قال لى : أصل أنا جيت، قلت له: طيب انا اعيش باستديو .. أى غرفة واحدة، فلتبحث لنا عن شقة أكبر نعيش فيها سويا، وجدته أحضر شقة غرفتين وصالة ببولاق الدكرور، وانتقلت من العمارة الكبيرة بجوار سينما أوديون بشارع معروف لأسكن ببولاق الدكرور، ووجدته يشترى 12 سريرًا وضعهم بالشقة التى تحولت فيما بعد إلى ناد مكتظة بالغرباء الذى لا أول لهم ولا آخر، وكل ليلة يبيت معنا الكثيرون ممن لا أعرفهم، وظللت هكذا أنا ويحيى اينما انتقل ينتقل معى يحيى الطاهر، ثم اعتقلنا، و لم أكن أعرف أنه دخل نفس المنظمة السرية التى كنت بها سرا، واعتقلنا جميعا وتركوا يحيى الطاهر ليخبروا عبدالناصر أن «زعيم المنظمة» هارب، وهو موجود بمقهى ريش وفى كل مكان.
ويقول الأبنودى: حين جاء يحيى إلى القاهرة كان شخصا مختلفا تماما عمن تركته، وقد أصبح كاتب قصة من الطراز الأول، يكتب بشكل مذهل حقيقة، إلى أن فجعنا بوفاته المأساوية و دفنته تحت النخلة العالية التى كتب عنها قصته «العالية» كما دفنت صديقى أمل دنقل، وكانا ونسى بالدنيا!
اختتم الأبنودى شهادته قائلا: جيل يحيى الطاهر ظلمه وتنكر له بما لا يليق به، فلا يذكره أحد وكأنهم سعدوا برحيله!