الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

مواسم الإعدام




كتب : د. حسين محمود


للكاتب الإيطالى تيتسيانو ترتسانى كتاب جميل بعنوان «خطابات ضد الحرب» يصدر قريبا (أتمنى) من المركز القومى للترجمة بعد أن راجعت ترجمة أمانى فوزى حبشى له قبل بضعة أشهر. ومع إعجابى برسالة الكتاب، إلا أن إعجابى به يزيد بسبب أسلوبه الشاعرى، أسلوب مؤلف عجوز على وشك الرحيل (رحل مؤلف الكتاب بالفعل بعد إصابته بالسرطان)، يكتب باكيا، ويبكى كاتبا، ويصب فى وجدان المتلقى شحنة انفعالية محسوسة.
يكفى أن تقرأ السطور الأولى له عن الزمن المفقود، أو الأيام الضائعة، أو الأيام التى تشبه غيرها من الأيام. يقول ترتساني: «فى الحياة أيام خاوية، تمر بلا ذكرى ولا أثر وكأنها لم تكن.
عندما أفكر ملياً أجد أن هذا هو طابع معظم الأيام، إلا أننا عندما يظهر لنا جليا أن الأيام الباقية محدودة جدًا، عندئذ فقط نبدأ فى التساؤل كيف تركنا كل تلك الأيام تمر بهذه الطريقة. ولكن هكذا هو الإنسان: لا يقدر قيمة ما فات إلا عندما يكون قد فات بالفعل، فيدرك أنه كان بمقدوره أن يحصل على تلك الأشياء التى أصبحت فى عداد الماضي».
طابع الأيام الذى يتحدث عنه ترتسانى فى كتابه هو طابع الأيام التى نعيشها الآن فى مصر، أيام الاعتياد، انتظار المواسم والمحاصيل، المرور العابر للزمن دون أن يترك له بصمة تذكرنا به ونتذكره بها. آفة بلدنا الآن ليست النسيان، وإنما التعود، فقد تعودنا على القتل، حتى صرنا نحن أنفسنا نقتل، نرضى أن تسيل الدماء، البريئة الطاهرة والنكراء النجسة سواء بسواء. الصورة القرآنية فى السورة القرآنية كانت دائما تصدمى رغم أننى لم افهمها حق الفهم أبدا: «أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا، فكرهتموه»، فما بالك وما أراه الآن ليس إلا شعبا يأكل لحما حيا يقطر دما. أقزام يسيرون فى الشوارع تحسبهم منا، ولكن لون الدم الأحمر يسيل من شفاههم، ويقطر من بين أصابعهم، ويلطخ ثيابهم، ينظرون نظرات بلهاء وكأن على رءوسهم الطير. 
نحن لا نكف عن القتل ليل نهار. كان القتل بالأمس حدثا وأصبح اليوم اعتيادا، نقتل بالقنابل، والبنادق، والرصاص. نقتل بالتحرش والتفحش والسباب. ونقتل أيضا بحكم المحكمة. 
هل ندرك أن الأيام الباقية محدودة، وأننا لن نحس بتعاسة ما يحدث الآن، وبأنه كارثى، إلا بعد أن يكون الأوان قد فات.
أستاذ الأدب بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا
[email protected]