الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

إبداع




شعراؤنا شموس فى سماء الإبداع ينيرون لنا ببصيرتهم وبصرهم طريقنا ويخبرونا ما لم نخبره فيما فاتنا من أمورنا الحياتية فهم بمثابة توثيق وشهادة على عصرهم ونحن نخصص هذه المساحة من الإبداع للاحتفال بالشاعر المصرى الراحل صلاح عبد الصبور (3 مايو 1931 - 1981) أحد أهم رواد حركة الشعر الحر العربي، ومن رموز الحداثة العربية المتأثرة بالفكر الغربي، كما يعدّ واحداً من الشعراء العرب القلائل الذين أضافوا مساهمة بارزة فى التأليف المسرحي, وفى التنظير للشعر الحر، كما  تقلد عبد الصبور عددا من المناصب، وعمل بالتدريس وبالصحافة وبوزارة الثقافة، وكان آخر منصب تقلده رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب، وساهم فى تأسيس مجلة فصول للنقد الأدبي، فضلا عن تأثيره فى كل التيارات الشعرية العربية الحداثية. يصاحب قصائد عبد الصبور لوحات للفنان العالمى بول جوجان  (1848-1903) وهو رسّام فرنسى كان فى بداية حياته الفنية من رواد المدرسة الانطباعية، إلا أنه بدأ فى تغيير مدرسته الفنية فكان من المؤسسين لحركات فنية لاحقة مثل المدرسة الوحشية.




لحن

جارتى مدت من الشرفة حبلاً من نغم
نغم قاس رتيب الضرب منزوف القرار
نغم كالنار
نغم يقلع من قلبى السكينه
نغم يورق فى روحى أدغالاً حزينه
بيننا يا جارتى بحر عميق
بيننا بحر من العجز رهيب وعميق
و أنا لست بقرصان، ولم اركب سفينه
بيننا يا جارتى سبع صحارى
و أنا لم ابرح القرية مذ كنت صبيا
ألقيت فى رجلَى الأصفاد مذ كنت صبيا
أنت فى القلعة تغفين على فرش الحرير
و تذودين عن النفس السآمه
بالمرايا الفارس الأشقر فى الليل الأخير
(أشرقى يا فتنتي)
(مولاى !!)
(أشواقى رمت بى)
(آه لا تقسم على حبى بوجه القمر
ذلك الخداع فى كل مساء
يكتسب وجهاً جديد ..
جارتى! لست أميراً
لا ولست المضحك الممراح فى قصر الأمير
سأريك العجب المعجب فى شمس النهار
أنا لا املك ما يملأ كفىّ طعاما
وبخديك من النعمة تفاح وسكر
فاضحكى يا جارتى للتعساء
نغّمى صوتك فى كل فضاء
وإذا يولد فى العتمة مصباح فريد
فاذكرينى..
زيته نور عيونى وعيون الأصدقاء
ورفاقى الطيبين
ربما لا يملك الواحد منهم حشوَ فم
ويمرون على الدنيا خفافاً كالنسم
ووديعين كأفراخ حمامة
وعلى كاهلهم عبء كبير وفريد
عبء أن يولد فى العتمة مصباح جديد




البحث عن وردة الصقيع

أبحثُ عنك فى ملاءة المساء
أراك كالنجوم عاريه
نائمة مبعثره
مشوقة للوصل والمسامره
واقتداح الخمر والغناء
وحينما تهتزُ أجفاني
وتفلتين من شباك رؤيتى المنحسره
تذوين بين الارض والسماء
ويسقط الاعياء
منهمرا كالمطره
على هشيم نفسى الذابلة المنكسره
كأنه الإغماء
أبحث عنك فى مقاهى آخر المساء والمطاعم
أراك تجلسين جلسة النداء الباسم
ضاحكة مستبشره
وعندما تهتز أجفاني
وتفلتين من خيوط الوهم والدعاء
تذوين بين النور والزجاج
ويقفز المقعدُ والمائدة الهباء
ويصبح المكان خاوياً ومعتماً
كأنه الصحراء
أبحث عنك فى العطور القلقه
كأنها ُتطل من نوافذ الثياب
أبحث عنك فى الخطى المفارقه
يقودها إلى لاشئ،لا مكان
وهم الانتظار والحضور والغياب
أبحث عنك فى معاطف الشتاء إذ ُتلف
وتصبح الاجسام فى الظلام
تورية ملفوفه، أو نصبا ً من الرصاص والرخام
وفى الذراعين اللتين تكشفان عن منابت الزغب
حين يـُهل الصيف
ترتجلان الحركات الملغزه
وتعبثان فى همود الموت والسموم والرخام
حين يدور العام
أبحث عنك فى مفارق الطرق
واقفة، ذاهلة، فى لحظة التجلى
منصوبةً كخيمة من الحرير
يهزها نسيم صيفٍ دافئ،
أو ريح صبح ٍِ غائم ٍِ مبللٍ مطير
فترتخى حبالها، حتى تميل فى انكشافها
على سواد ظلى الاسير
ويبتدى لينتهى حوارنا القصير




ذلك المساء

حدثتمونى عن سنابك مجنحه
تفتق الشرار فى أهلـّة المآذن
عن عصبة من السيوف لا تفـل
قد أُغمدت فى الصخر لاتـُسل
إلا إذا قرأتم دونها أسماءكم
ياعصبة الأماجد
الأشاوس
الأحامد
الأحاسن
وقلتم:
يا أيها المُغنى غننا
مُسـَمل العينين فى حضرتنا
لحناً يثير زهونا
ويذكر انتصارنا
إذا تحين ساعة موعودة
نغيم فى أشراطها
لم تنخلع عن غيمها إلا لنا
الساعة التى تصير فيها خَوذةَ الشيطان
كأسا لخمر سيد الفرسان.


أحلام الفارس القديم

لو أننا كنّا كغُصنىْ شجرة
الشمسُ أرضعتْ عروقَنا معا
والفجرُ روّانا ندىً معا
ثم اصطبغنا خضرةً مزدهره
حين استطلنا فاعتنقنا أذرُعا
وفى الربيع نكتسى ثيابَنا الملوّنة
وفى الخريف، نخلعُ الثيابَ، نعرى بدَنَا
ونستحمُّ فى الشتا، يدفئنا حُنوُّنا!
لو أننا كنا بشطّ البحر موجتينْ
صُفِّيتا من الرمال والمحارْ
تُوّجتا سبيكةً من النهار والزبدْ
أَسلمتا العِنانَ للتيّارْ
يدفعُنا من مهدنا للحْدِنا معا
فى مشيةٍ راقصةٍ مدندنه
تشربُنا سحابةٌ رقيقة
تذوب تحت ثغر شمسٍ حلوة رفيقة
ثم نعودُ موجتين توأمينْ
أسلمتا العنان للتيّارْ
فى دورة إلى الأبدْ
من البحار للسماءْ
من السماء للبحارْ!
لو أننا كنا بخَيْمتين جارتينْ
من شرفةٍ واحدةٍ مطلعُنا
فى غيمةٍ واحدةٍ مضجعُنا
نضىء للعشّاق وحدهم وللمسافرينْ
نحو ديارِ العشقِ والمحبّة
وللحزانى الساهرين الحافظين مَوثقَ
الأحبّه
وحين يأفلُ الزمانُ يا حبيبتى
يدركُنا الأفولْ
وينطفى غرامُنا الطويل بانطفائنا
يبعثنا الإلهُ فى مسارب الجِنان دُرّتينْ
بين حصىً كثيرْ
وقد يرانا مَلَكٌ إذ يعبر السبيلْ
فينحنى، حين نشدّ عينَهُ إلى صفائنا
يلقطنا، يمسحنا فى ريشه، يعجبُه بريقُنا
يرشقنا فى المفرق الطهورْ!
لو أننا كنّا جناحيْ نورسٍ رقيقْ
وناعمٍ، لا يبرحُ المضيقْ
مُحلّقٍ على ذؤابات السُّفنْ
يبشّر الملاحَ بالوصولْ
ويوقظ الحنينَ للأحباب والوطنْ
منقاره يقتاتُ بالنسيمْ
ويرتوى من عَرَقِ الغيومْ
وحينما يُجنّ ليلُ البحرِ يطوينا معاً.. معا
ثم ينام فوق قِلْعِ مركبٍ قديمْ
يؤانس البحّارةَ الذين أُرهقوا بغربة الديارْ
ويؤنسون خوفَهُ وحيرتهْ
بالشدوِ والأشعارْ
والنفخ فى المزمارْ!
لو أننا
لو أننا
لو أننا، وآهِ من قسوةِ «لو»
يا فتنتى، إذا افتتحنا بالـمُنى كلامَنا
لكنّنا..
وآهِ من قسوتها «لكننا»!
لأنها تقول فى حروفها الملفوفةِ المشتبكه
بأننا نُنكرُ ما خلّفتِ الأيامُ فى نفوسنا
نودُّ لو نخلعهُ
نودُّ لو ننساه
نودّ لو نُعيده لرحمِ الحياة
لكننى يا فتنتى مُجرِّبٌ قعيدْ
على رصيف عالمٍ يموج بالتخليطِ والقِمامه
كونٍ خلا من الوَسامه
أكسبنى التعتيمَ والجهامه
حين سقطتُ فوقه فى مطلع الصِّبا
قد كنتُ فى ما فات من أيّامْ
يا فتنتى محارباً صلباً، وفارساً هُمامْ
من قبل أن تدوس فى فؤادىَ الأقدامْ
من قبل أن تجلدنى الشموسُ والصقيعْ
لكى تُذلَّ كبريائيَ الرفيعْ
كنتُ أعيش فى ربيع خالدٍ، أىَّ ربيعْ
وكنتُ إنْ بكيتُ هزّنى البكاءْ
وكنتُ عندما أحسُّ بالرثاءْ
للبؤساء الضعفاءْ
أودُّ لو أطعمتُهم من قلبيَ الوجيعْ
وكنتُ عندما أرى المحيَّرين الضائعينْ
التائهينَ فى الظلامْ
أودُّ لو يُحرقنى ضياعُهم، أودُّ لو أُضىءْ
وكنتُ إنْ ضحكتُ صافياً، كأننى غديرْ
يفترُّ عن ظلّ النجومِ وجههُ الوضىءْ
ماذا جرى للفارس الهمامْ؟
انخلع القلبُ، وولَّى هارباً بلا زِمامْ
وانكسرتْ قوادمُ الأحلامْ
يا من يدلُّ خطوتى على طريقِ الدمعةِ البريئة!
يا من يدلُّ خطوتى على طريقِ الضحكةِ البريئة!
لكَ السلامْ
لكَ السلامْ
أُعطيكَ ما أعطتنيَ الدنيا من التجريب والمهارة
لقاءَ يومٍ واحدٍ من البكارة
لا، ليس غيرَ «أنتِ» من يُعيدُنى للفارسِ القديمْ
دونَ ثمنْ
دون حسابِ الربحِ والخسارة
صافيةً أراكِ يا حبيبتى كأنما كبرتِ خارجَ الزمنْ
وحينما التقينا يا حبيبتى أيقنتُ أننا
مفترقانْ
وأننى سوف أظلُّ واقفاً بلا مكانْ
لو لم يُعدنى حبُّكِ الرقيقُ للطهارة
فنعرفُ الحبَّ كغصنىْ شجرة
كنجمتين جارتينْ
كموجتين توأمينْ
مثل جناحَيْ نورسٍ رقيقْ
عندئذٍ لا نفترقْ
يضمُّنا معاً طريقْ
يضمّنا معاً طريقْ.



 

رؤيا

فى كل مساء
حين تدق الساعة نصف الليل،
وتذوى الأصوات
أتداخل فى جلدى أتشرب أنفاسى
وأنادم ظلى فوق الحائط
أتجول فى تاريخى، أتنزه فى تذكاراتى
أتحد بجسمى المتفتت فى أجزاء اليوم الميت
تستيقظ أيامى المدفونة فى جسمى المتفتت
أتشابك طفلاً وصبياً وحكيماً محزوناً
يتآلف ضحكى وبكائى مثل قرار وجواب
أجدل حبلا من زهوى وضياعى
لأعلقه فى سقف الليل الأزرق
أتسلقه حتى أتمدد فى وجه قباب المدن الصخرية
أتعانق و الدنيا فى منتصف الليل.
حين تدق الساعة دقتها الأولى
تبدأ رحلتى الليلية
أتخير ركنا من أركان الأرض الستة
كى أنفذ منه غريباً مجهولاً
يتكشف وجهى، وتسيل غضون جبينى
تتماوج فيه عينان معذبتان مسامحتان
يتحول جسمى دخان ونداوه
ترقد أعضائى فى ظل نجوم الليل الوهاجة و المنطفأة
تتآكلها الظلمة والأنداء، لتنحل صفاء وهيولى
أتمزق ريحا طيبة تحمل حبات الخصب المختبئة
تخفيها تحت سراويل العشاق.
و فى أذرعة الأغصان
أتفتت أحياناً موسيقى سحرية
هائمة فى أنحاء الوديان
أتحول حين يتم تمامى -زمناً
تتنقل فيه نجوم الليل
تتجول دقات الساعات
كل صباح، يفتح باب الكون الشرقى
وتخرج منه الشمس اللهبية
وتذوّب أعضائى، ثم تجمدها
تلقى نوراً يكشف عريى
تتخلع عن عورتى النجمات
أتجمع فاراً، أهوى من عليائى،
إذ تنقطع حبالى الليلة
يلقى بى فى مخزن عاديات
كى أتأمل بعيون مرتبكة
من تحت الأرفف أقدام المارة فى الطرقات.