الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

سيكو دراما الثورة المصرية ـ التحليل النفسى لشخصية المصريين بعد الثورة ـ4ـ «جافير» المصرى




كتب: د/ على الشامى

«السيكودراما»  أو الدراما النفسية هى أحد انواع أو فنون العلاج النفسى الذى تكمن فنياته فى تفريغ الانفعالات الناتجة عن الصراعات الداخلية فى النفس البشرية ويتم ذلك فى اطار تحليلى وهى كذلك محاولة لفهم ما يدور داخل النفس البشرية وهو ما سنقوم به بالضبط، فسنقوم برصد ما حدث وما يمكن أن يحدث من تحولات نفسية والتى تؤدى فى الاغلب الأعم إلى تحولات اجتماعية فى نفوس بل وفى المجتمع المصرى بشكل عام، سنقوم بذلك بشكل تحليلى وفقا لقواعد الدراما النفسية على حلقات متوالية لنرصد الخلل ونحاول تقديم انماط مختلفة أو رؤى وتصورات جديدة لعلاج ما طرأ على المجتمع المصرى من خلال ما ظهر منه وما بطن.
هل تحب قراءة الأدب؟ هل تهوى مطالعة الروايات الكلاسيكية المهمة عبر التاريخ؟.. حسنا اذا كانت اجابتك بنعم فلابد انك صادفت فى طريقك رواية عظيمة للكاتب الفرنسى الأشهر، الرواية هى «البؤساء» والكاتب الأشهر هو فيكتور هوجو الرواية هى ملحمة تاريخية انسانية نسجت بمنتهى الرهافة الرواية هى ارهاصات ثورة.. ثورة على الظلم والفساد الذى استشرى فى المجتمع الفرنسى مما دفع المجتمع هذا الى الانفجار والخروج ثائرا فى واحدة من اشهر الثورات عبر التاريخ وعبر سنوات طويلة اسست هذه الثورة لعقد اجتماعى جديد ومبادئ جديدة وقيم جديدة ترفع من قدر الحرية والمساواة والعدالة - ولو نظريا على الأقل ، أما اذا كانت اجابتك بلا فادعوك لمطالعتها مع وعد انك لن تصاب بالملل ولا بالندم ابدا.. وأن تفكر فى طبيعة العلاقة التى تربط بين موضوع اليوم وبين فيكتور هوجو او البؤساء خاصته او بين باريس الغرب المكتملة وبين باريس الشرق -  القاهرة.
  فى الحقيقة وجه الشبه بين شخصيات البؤساء الفرنسية وواقع احداثها – الذى لابد انه كان بائسا جدا – والمؤدى فى النهاية الى احداث الثورة الفرنسية وما بين الواقع المصرى ما قبل ثورة 25يناير واحداث الثورة ذاتها وما تلاها من تطورات رهيبة على كل المستويات، اقول أن وجه الشبه كبير جدا ولافت وهو امر بديهى لأنها فى النهاية ثورات تقوم ضد ظلم والاجحاف والاضطهاد وخلافه من كل انواع الاستغلال الإنسانى البغيضة والتى يمكن ان يحياها الإنسان فى أى مكان وفى أى عصر، الا ان المفارقات والتشابهات تكاد تكون لافتة لتقارب بعض الاحداث وكذلك بعض التفاصيل الدقيقة فى مسار الاحداث.
أما وقد قررنا التواصل والتماهى مع الثورة الفرنسية عبر رواية البؤساء للكاتب الفرنسى هوجو وشخوصها  فاننا سنعبر جسور التماهى تلك على حلقات، الا اننى فى هذه الحلقة قد اخترت نموذجا صادما بعض الشيء عبر تجربة عشتها ولمستها بنفسى فى عيادتى، والصدمة فى طبيعة النموذج نفسه وفى اختياره كنموذج للبدء.. اما النموذج فهو ضابط فى احد الاجهزة الامنية المصرية والحكاية شديدة الصلة بأحداث الثورة، واما اختياره كنموذج للبدء فهو فى رأيى لأن الثورة فى الاساس قامت من اجل التخلص ورفض تغول الاسلوب الامنى القمعى فى زمن ما قبل الثورة، واقول تغول بصراحة شديدة لانه ببساطه لم يأت نموذج حاكم فى مصر من قبل الا واستخدم العصا الامنية الغليظة، لا استثنى احداً من الانظمة المتعاقبة عبر التاريخ المصرى حتى الحكام الوطنيين – من اصول مصرية – لم ينج احدهم من هذه الوصمة الا ان مبارك وعصره وادواته كانوا قد توحشوا فى استخدام العصا الامنية الغليظة بل تحولت الدولة من دولة بها منظومة امنية الى منظومة امنية ترتدى رداء الدولة وتحولت من فساد الدولة الى دولة الفساد.
اعود الآن للاحالة التى سبق وان نوهنا عنها الا وهى العلاقة المباشرة ما بين «البؤساء» - الرواية -  وما بين الواقع المصرى زمن الثورة .
فى احداث الرواية يظهر احد الضباط ويدعى «جافير» وهو يمارس اقسى انواع التعذيب ضد «جان فالجان» بطل الرواية، وعندما يتمكن «فالجان» من الهروب من السجن والخروج الى الحياة مرة اخرى وبشكل درامى تتغير طبيعة شخصيته ويصبح الرجل القوى فى بلدته الجديدة التى ذهب اليها بعد خروجه من السجن ولا يعرفه احد هناك ليبدأ بها حياته من جديد ليجد جافير الضابط المسئول عن تعذيبه فى السجن امامه مرة اخرى بل ويستطيع تذكره وتجرى مطاردة جديدة.. واضيف هنا اننا لو عدنا للنموذج المصرى فاننا نجد ان هذه المطاردة تبدو كافلام الكارتون الشهيرة «توم وجيرى» بلا نهاية بل احيانا تبدو وكأنها عبثية  - وان كانت غير ذلك - لكن على الأقل يمكننا القول بأن المطاردات مقصودة وانها أبدية.. أبدية بحق على الاقل فى النموذج المصرى .
دعونى انتقل الى العيادة والضابط جالس امامى فى حالة ارتباك شديد، ضحك ضحكة قصيرة عصبية واخبرنى بانه مرتبك لانه اعتاد على ان يكون هو المستجوب – بكسر الواو - وليس المستجوب – بفتحها – وبدأ حديثه.. طبعا هنا لن يفوتكم ان الحديث عن استجواب الذى ليس فى محله تماما فهو ليس فى محل استجواب اصلا، ولكن الرجل بسبب مهنته فإن الاستجواب  بالنسبة له جزء من عقيدته وانا هنا لا اهاجمه او ادافع عنه او أبرر له او انتقده فقط اوضح الامر.. فليس الموضع موضع استجواب  .
بدأ الرجل الذى يعمل فى احد الاجهزة الامنية حكايته كالآتى:
- أقوم بواجبى.
- أعلم اننى احيانا أكون عنيفا لكن ذلك من مقتضيات العمل وفى الغالب او لنقل فى المطلق هم مدانون.. عالم ولاد.. يعبثون بأمن الوطن.
-أليس كذلك؟
الرجل جاء يشتكى من اعراض نفسية اصبحت تسبب له رعبا شديدا وهو الاحساس بأنه سيموت وأن الموت فى حد ذاته ليس مزعجا فهو مؤمن بالله ويدرك ان مصير الناس جميعا الى الموت ولكن الفكرة التى لا تذهب عن رأسه تكاد تقتله ويستطرد:
هم سيئون أليس كذلك؟
هل أنا مدان؟
من الأشياء الملفتة ان «جافير» وهو الاسم  الذى اختاره الروائى الفرنسى فيكتور هوجو لشخصية الضابط الفرنسى تكاد تتماهى بل لا ابالغ -  ان استبعدت تأثير اللكنة -  ان قلت انها تكاد تتطابق مع النطق - والمعنى ايضا - المصرى لكلمة غفير وهو لفظ يصف مهنة الحارس النوبتجى البسيط ويكون فى الغالب رجل غير متعلم بسيط ينتمى الى وزارة الداخلية ويستمد سلطاته من سلطاتها، فهل كان هوجو الفرنسى على علم بألفاظ اللغة العربية أو على علم بطبائع الأمور فى وزارة الداخلية المصرية، ام انه كان على علم ما بأحداث تالية لعصره بما يزيد عن مائتى عام.. فى الواقع لا اعتقد ذلك وانما اظن ان هوجو فقط كان على علم بالوجع الانسانى العابر لكل زمان ومكان.. وللحديث بقية نكمله فى الحلقة المقبلة.

[email protected]