الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

"سيكو دراما المصرية".. التحليل النفسى لشخصية المصريين بعد الثورة "6"




الناشط!!


«السيكودراما» أو الدراما النفسية هى احد انواع أو فنون العلاج النفسى الذى تكمن فنياته فى تفريغ الانفعالات الناتجة عن الصراعات الداخلية فى النفس البشرية ويتم ذلك فى اطار تحليلى وهى كذلك محاولة لفهم ما يدور داخل النفس البشرية وهو ما سنقوم به بالضبط، فسنقوم برصد ما حدث وما يمكن أن يحدث من تحولات نفسية والتى تؤدى فى الاغلب الأعم إلى تحولات اجتماعية فى نفوس بل وفى المجتمع المصرى بشكل عام، سنقوم بذلك بشكل تحليلى وفقا لقواعد الدراما النفسية على حلقات متوالية لنرصد الخلل ونحاول تقديم انماط مختلفة أو رؤى وتصورات جديدة لعلاج ما طرأ على المجتمع المصرى من خلال ما ظهر منه وما بطن.


البداية بشاب مثل آلاف الشباب المصريين من أقرانه، يشكو من أعراض نفسية ومزاج سيء متحدثا لي:


الشاب: أنا عندى اكتئاب ومش عاوز دواء (يبتسم).

- ايه خلاك تقول ان عندك اكتئاب؟

الشاب: مزاجى وحش ومعدتش بعرف اعمل الحاجات اللى بحبها.

- ومش عاوز دواء ليه؟

الشاب: عشان هيخلينى مدمن.. هما قالولى كده (يبتسم).

هذا الشاب ولد فى إحدى الدول العربية الخليجية لأبوين مصريين من جيل السبعينيات، وظل لفترة طويلة بمدارس الخليج حتى التحق

بالجامعة فأرسله أبواه إلى إحدى الجامعات المصرية، وبالفعل التحق الشاب بالجامعة وتعثر بها حتى استطاع الانتظام، وكان يعانى فى

تلك الفترة من عدم القدرة على التأقلم - وهو ما يعرف فى الطب النفسى باضطرابات التأقلم - وتدريجيا اعتاد الحياة واستطاع تكوين

صداقات، ولكن الأمر كان زائفا بالطبع فلا هو اعتاد الحياة بمصر ولا هو استطاع تكوين صداقات حقيقية أثناء الفترة الأخيرة، تحولت

صلته بأبيه إلى اتصال هاتفى أو حديث عبر الانترنت، وتحول أبوه نفسه إلى بطاقة ائتمانية ملئى بالنقود بشكل مطمئن ويفى بكل

متطلبات الحياة، بل يبتسم أيضا بنزواتها.

قامت الثورة، وكانت أحداث 25 يناير واضحة لا تقبل الشك.. إذن فثمة أمر ما يجرى فى الشارع غير مألوف بالمرة ولم يعتده قطاع

كبير من المصريين، ولم تكن شخصية اليوم على دراية تامة بالواقع السياسى المصرى ولا بآلياته أو متغيراته حتى عند انضمامه إلى

أحد التنظيمات السياسية- أو إحدى الحركات السياسية المتكونة فى مصر قبل أحداث 25 يناير والتى اصطبغت بصبغة سياسية نسبيا- لم

يكن انضماما عن عقيدة، وإنما هو انسياق نحو اندفاع شبابى أو أنه بمثابة تقليد لبعض رفاقه وهو أيضا من قبيل التحرك الجماعى

الجماهيرى والذى سنعرض له بعد قليل فى إطار تحركات ما قبل وما بعد أحداث 25 يناير.. أقول أن انضمام هذا الشاب إلى ذلك

التنظيم هو مجرد انضمام كارتونى أو افتراضى إن جاز التعبير، لكن الحقيقى هو تواجده فى قلب ميدان التحرير فى وسط العاصمة

المصرية، مصر التى يحمل هذا الشاب جنسيتها وربما لا يعرف الكثير من المعلومات الرئيسية عنها، فإن باغته بسؤال عن مساحة

مصر مثلا فستجده عاجزاً عن الإجابة، هذا على سبيل التبسيط بالطبع، فالشخص العاجز عن إجابة سؤال بسيط يتعلق بدولة ينتمى إليها

ورقيا- للأسف- ستجده فى الغالب عاجزا عن إجابات ربما أكثر عمقا عن تاريخها ومجتمعها وأخلاقها وما هو أعمق من ذلك أيضا.

لتفسير هذه الظاهرة أو لنقل تلك الظواهر علينا أولا العودة للوراء واستدعاء بعض المفاهيم التى ستساعدنا أثناء تفسير تلك الظواهر

مجتمعة وتفكيكها إلى أبسط المكونات لفهمها وفهم ملابساتها، أولا: سنقوم بالمرور السريع على مكونات نظرية التحليل النفسى وهى

النظرية المفسرة للسلوك الإنسانى تقوم النظرية على أن النفس البشرية تتكون من ثلاثة مكونات رئيسية ألا وهى الأنا العليا، وهى

مجموعة القيم والقوانين الأبوية الصارمة وتدعى أيضا طبقا لعلوم النفس بـ «وريث اوديب»، المكون الثانى هو «الهو» ونعنى به

مجموعة الغرائز البدائية والأولية والهمجية أيضا والتى لا تعترف بأى قيمة أو رابطة أو مبدأ، وبين هذا وذاك يقع المكون الثالث وهو

«اللأنا» وهو المكون المنسحق بين الأنا العليا -مجموعة القيم الأبوية الصارمة- وما بين «الهو» - مجموعة الغرائز التى تود الانطلاق

بلا أى قيود- وطوال وقت الصراع بينهما ما يسمى بالقلق العصبى، ولأن هذا القلق يسحق «الأنا» فإنها تقوم بما يسمى الحيل الدفاعية

وهى أساليب يحاول بها المرء الحفاظ على إنسانيته وكيانه من الانهيار، تتعدد وتختلف تلك الأساليب باختلاف طبيعة الشخصية أو

سماتها، فمثلا يعد الإنكار والتبرير والوسوسة والمثالية وغيرها أيضا من ضمن الحيل الدفاعية أو الأقنعة التى ترتديها النفس البشرية

لمنع انسحاقها عبر القلق العصابى الذى يصيبها.

حسنا.. إذن ما تفسير كلمة وريث أوديب والتى تمثل الأنا العليا.. هى إحدى العقد أو التفاعلات النفسية التى تتكون فى سن مبكرة من حياة

الإنسان وتتلخص فى أن المرء ينشأ بينه وبين الوالد من نفس الجنس، أى الإبن مع أبيه مثلا- على المستوى النفسى بالطبع - صراع

للسيطرة على الوالد من الجنس المخالف، أى الأم وهذا الصراع يكبت نتيجة خوف الطفل من الأذى الذى يمكن أن يلحقه به الأب ويتحول

لتملق وتقرب من جانب الابن تجاه الأب وهو ما يعرف بعقدة «الخصاء» - على المستوى النفسى - فيتحول الإبن فى بعض الأحيان إلى

نسخة مكررة من الأب وربما بنفس الأفعال والآراء.

بالطبع كل ماذكرناه آنفا يكون على مستوى النفس البشرية فى اللاشعور، بمعنى أن الإنسان الواعى لا يدرك كل هذه التفاعلات ولكن تلك

التفاعلات هى تصورات لما يدور باللاوعى، الأمر الثانى الذى يجب ان نوضحه باعتباره أمرا يخص شخصيتنا اليوم هو مفهوم

الجماهير وتحركاتهم أو كيفية تحركهم؟، وهل يتحركون بوعى أو بلا وعى؟، وهل يكون التحرك جماعياً أم فردياً فى إطار جماعى؟،

وهى كلها أسئلة غاية فى الأهمية سنجيب عليها.. فهناك عدة تفسيرات لوصف حالة تحرك الجماهير، أول تلك التفسيرات تقول أن

الجماهير المتحركة نحو هدف معين هى جماهير هامشية للمجتمع أو لنقل الجماهير المهمشة اجتماعيا، وهى ليست نظرة استعلائية على

الإطلاق بل على العكس هى نظرية توضح كم من الظلم وقع على المجتمع حتى يكون على هامشه عدد كبير بهذا الشكل الذى تابعناه فى

القنوات

أثناء أحداث 25 يناير، وهو تفسير لا يخلو من معايير اقتصادية واجتماعية تتداخل مع المطيات السياسية على الأرض، التفسير الثانى

بخصوص التحرك الجماهيرى هو حالة الهياج أو الجنون المؤقت للجماهير المجتمعة حول رمز ما أو حول أمر بعينه وهى حالة نراها

فى مدرجات الكرة ونراها عند ظهور شخصية محبوبة فى الشارع بشكل مفاجىء، أو عند موت شخصية كاريزمية عظيمة مثل عبد

الناصر مثلا، أو محبوبة قريبة من قلوب الناس مثل ام كلثوم او عبد الحليم، أو دينية مثل الشعراوى او فى المناسبات الدينية كالموالد، أو

عند ظهور البابا فى الفاتيكان من الشرفة أو عند ظهور السيدة مريم عند كنيسة الوراق - طبقا للتصور الثقافى لدى البعض - وهكذا،

التفسير الثانى يضع أمامنا تصورا لجماهير مهووسة لا تدرك ما تفعل ولا تفعل بشكل فردى أبدا ماتفعله بشكل جماعى، وهو ما يدعم

التصور القائم على فكرة وجود ترسبات خفية فى اللاوعى الإنسانى ويكون ذلك بشكل جمعى فى الأساس، التصور الثالث والأخير وهو

مبنى فى الأساس على تصور ضد الجماهير او معاد لهم، حين يصف الجماهير بأنها مجموعة من الخارجين على الأعراف والقوانين،

وانهم مجموعة من المجرمين المارقين، ووصف الجماهير المجرمة هنا استخدم بشكل سيئ من بعض الفئات التى كانت تردد هذا الكلام

لمصالح خاصة.. وفى الحقيقة عندما أتحدث عن هذا التصور سيكون الحديث حياديا وعلميا، مبتعدا أشد ما يكون البعد عن الانسياق

لأهداف وراء كلام هذا او الانسياق وراء جعجعة فارغة يطلقها ذاك وهو ما نحاول ان نفعله عبر حديثنا هذا..أما ربط كل هذه

التصورات السابقة والتى عرضنا لها فسيكون محور حديثنا فى الحلقة القادمة


 

د. على الشامى
[email protected]