الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

إبداع




شعر أمل دنقل - رسوم الفنان: ميكيلانجلو ميريزى

شعراؤنا شموس فى سماء الإبداع ينيرون لنا ببصيرتهم وبصرهم طريقنا ويخبرونا ما لم نخبره فيما فاتنا من أمورنا الحياتية فهم بمثابة توثيق وشهادة على عصرهم ونحن نخصص هذه المساحة من الإبداع للاحتفال بالشاعر المصرى الراحل أمل دنقل «23 يونيو1940 -  21 مايو 1983» كان والده عالماً من علماء الأزهر أطلق اسم «أمل» على مولوده الأول تيمناً بالنجاح الذى أدركه فى ذلك العام، وكان يكتب الشعر العمودى، ويملك مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربي، التى كانت المصدر الأول لثقافة الشاعر، فقد أمل دنقل والده وهو فى العاشرة فأصبح  وهو فى هذا السن مسئولا عن أمه وشقيقيه، أنهى دراسته الثانوية بمدينة قنا والتحق بكلية الآداب فى القاهرة لكنه انقطع عن متابعة الدراسة منذ العام الأول ليعمل موظفاً بمحكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية ثم موظفاً بمنظمة التضامن الأفرو آسيوى لكنه كان دائم الانصراف إلى الشعر، عرف بالتزامه القومى وقصيدته السياسية الرافضة ولكن أهمية شعر دنقل تكمن فى استعمال رموز التراث العربى تأكيداً لهويته القومية وسعياً إلى تثوير القصيدة وتحديثها، وقد صدرت له ست مجموعات شعرية.
يصاحب القصائد لوحات للفنان العالمى ميكيلانجلو ميريزى والملقب بـ كارافاجيو  «1571 - 1610»، وهو رسًّام إيطالي، قام بإضفاء جوٍ درامى على مشاهد لوحاته الواقعية، من خلال لجوئه إلى استغلال تفاوت الضوء والظلال، كان له تأثير كبير على الفنانين الذين جاءوا من بعده، وأطلق اسمه على تيار فنى شمل كامل أوروبا.

 




الورقة الأخيرة


الصورة
هل أنا كنتُ طِفلاً..
أم انّ الذى كانَ طفلاً سواىْ؟
هذهِ الصوَرُ العائليةُ..
كان أبى جالساً، وأنا واقفٌ.. تتدلّى يداى!
رفسَةٌ من فَرَسْ
تَرَكتْ فى جبينيَ شجّاً، وعَلَّمَتِ القلبَ أن يحتَرِس.
أتذكّر..
سالَ دمى
أتذكّر..
ماتَ أبى نازفاً.
أتذكّر..
هذا الطريق إلى قَبْرِه..
أتذكّرُ..
أختى الصغيرةَ ذاتَ الربيعين،
لا أتذكّرُ حتى الطريق إلى قبرِها المنطَمِس.
أوَكان الصبيُّ الصغيرُ أنا؟
أم تُرى كانَ غيرى؟
أحدِّقُ..
لكنّ تلكَ الملامحِ ذاتِ العذوبة
لا تنتمى الآنَ لى
والعيون التى تترقرقُ بالطيبةِ
الآنَ لا تنتمى لى.
صِرتُ عنّى غريباً
ولم يتبقَّ من السنوات الغريبةِ
إلا صدى اسمى..
وأسماء من أتذكّرُهم –فجأةً-
بين أعمدةِ النعى،
أولئك الغامضون: رفاقُ صباى
يُقبِلون من الصمتِ وجهاً فوجهاً..
فيجتمعُ الشملُ كلّ صباحٍ،
لكى نأتَنِسْ.
وجه
كان يسكنُ قلبى
وأسكنُ غرفَتَهُ
نتقاسمُ نصفَ السريرِ،
ونصفَ الرغيفِ،
ونصفَ اللفافةِ،
والكُتُبَ المستعارةْ.
هجرَتْهُ حبيبتُهُ فى الصباحِ فمزّقَ شريانَهُ فى المساء،
ولكنّهُ بعدَ يومين مَزّقَ صورَتَها..
واندَهَشْ.
خاضَ حربينِ بينَ جُنودِ المظلاتِ..
لم يَنخَدِشْ
واستراحَ من الحربِ..
عادَ ليسكُنَ بيتاً جديداً
ويكسبَ قوتاً جديداً
يدخّن علبةَ تبغٍ بكاملها
ويجادل أصحابَهُ حولَ أبخِرَةِ الشاى..
لكنّهُ لا يطيلُ الزيارة.
عندما احتَقَنَتْ لوزَتاهُ، استشارَ الطبيبَ،
وفى غرفةِ العمليات..
لَمْ يصطَحِبْ أحداً غيرَ خُفٍّ..
وأنبوبةً لقياسِ الحرارةْ،
فجأةً مات!
لم يحتَمِلْ قلبُهُ سريانَ المخدّر،
وانسَحَبتْ من على وجهِهِ سنواتُ العذابات،
عادَ كما كانَ طِفلاً..
يشارِكُنى فى سريري
وفى كِسرةِ الخبزِ، والتبغ،
لكنّهُ لا يشارِكُنى .. فى المرارة!
وجه
من أقاصى الجنوبِ أتى، عاملاً للبناء
كانَ يصعدُ «سقّالَةً» ويُغنّى لهذا الفضاء
كنتُ أجلِسُ خارجَ مقهى قريب،
وبالأعينِ الشاردةْ..
كنتُ أقرأُ نصفَ الصحيفةِ،
والنصفَ أخفى به وَسَخَ المائدةْ.
لمْ أجِدْ غيرَ عينينِ لا تُبْصِران..
وخيطَ الدماءْ
وانحنيتُ عليه.. أجُسُّ يَدَهْ
قالَ آخرُ: لا فائدةْ.
صارَ نصفُ الصحيفةِ كلَّ الغطاءْ
وأنا.. فى العَراء..
مرآة
- هل تريدُ قليلاً من البحر؟
- إنّ الجَنوبيَّ لا يطمئنُّ إلى اثنينِ يا سيدى:
البحر – والمرأةِ الكاذبة.
- سوفَ آتيكَ بالرملِ منه
..وتلاشى بهِ الظِلُّ شيئاً فشيئاً،
فَلَمْ أسْتَبِنْه.
- هل تريدُ قليلاً من الخمر؟
- إنّ الجنوبيّ يا سيّدى يتهيّب شيئين:
قنّينة الخمر – والآلةَ الحاسبة.
- سوف آتيكَ بالثلجِ منه.
..وتلاشى بهِ الظِلُّ شيئاً فشيئاً،
فَلَمْ أسْتَبِنْه
بَعدَها لم أجِدْ صاحِبَيّ
لم يعُدْ واحدٌ منهما بشيّ
- هل تريدُ قليلاً من الصبر؟
- لا..
فالجنوبيّ يا سيّدى يشتهى أن يكون الذى لم يَكُنْه
يشتهى أن يلاقى اثنتين:
الحقيقةَ – والأوْجُهَ الغائبَةْ.
العشاء



 

  العشاء..!


قصدتهم فى موعد العشاء
تطالعوا لى برهة،
ولم يرد واحد منهم تحية المساء!
وعادت الأيدى تراوح الملاعق الصغيرة
فى طبق الحساء
نظرت فى الوعـــاء:
هتفت: ويحكم.... دمى
هذا دمى..... فانتبهوا
لم يــأبهوا!
وظلّت الأيدى تراوح الملاعق الصغيرة
وظلت الشفاة تلعق الدماء!




الطيور

الطيور مشرّدةٌ فى السماوات،
ليس لها أن تحطّ على الأرض،
ليس لها غير أن تتقاذَفَها فَلَواتُ الرياح!
ربّما تتنزّلُ..
كى تستريحَ دقائق..
فوق النخيلِ – النجيلِ – التماثيل –
أعمدةِ الكهرباء –
حوافِ الشبابيكِ والمشربياتِ
والأسطحِ الخرسانية.
(اهدأْ، ليلتقطَ القلبُ تنهيدة،
والفمُ العذبُ تغريدة
والقط الرزق..)
سرعان ما تتفزّعُ..
من نقلةِ الرّجْل،
من نبلةِ الطفل،
من ميلةِ الظلّ عبرَ الحوائط،
من حصواتِ الصياح!
الطيورُ معلّقةٌ فى السموات
ما بين أنسجةِ العنكبوتِ الفضائيّ: للريح
مرشوقةٌ فى امتداد السهامِ المضيئة
للشمس،
(رفرِفْ..
فليسَ أمامَك –
والبشرُ المستبيحونَ والمستباحون: صاحون –
ليس أماَمكَ غيرُ الفرارْ ..
الفرارُ الذى يتجدّد، كلَّ صباح!)
والطيورُ التى أقعدَتها مخالطةُ الناس،
مرّت طُمأنينةُ العيشِ فوقَ مناسرِها..
فانتَخَتْ،
وبأعينِها.. فارتَخَتْ،
وارتَضَتْ أن تقأقئ حولَ الطعامِ المُتاحْ
ما الذى يتبقّى لها غيرُ سكّينةِ الذَبْح،
غيرُ انتظارِ النهاية؟!
إنّ اليدَ الآدميةَ.. واهبةَ القمح
تعرفُ كيفَ تَسِنُّ السلاح!
الطيورُ .. الطيورْ
تحتوى الأرضُ جثمانها.. فى السقوطِ الأخيرْ!
والطيورُ التى لا تطيرْ..
طَوَتِ الريشَ واستَسْلَمَتْ.
هل تُرى عَلِمَتْ
أنّ عمرَ الجنَاحِ قصيرٌ..قصيرْ؟!
الجنَـاحُ حيـاة
والجنـاحُ ردى
والجنـاحُ نَجـاة
والجنـاحُ سـُدى!

 

العينان الخضراوان

العينيان الخضراوان
مروحتان
فى أروقة الصيف الحران
أغنيتان مسافرتان
أبحرتا من نايات الرعيان
بعبير حنان
بعزاء من آلهة النور إلى مدن الأحزان
سنتان
وأنا أبنى زورق حب
يمتد عليه من الشوق شراعان
كى أبحر فى العينين الصافيتين
إلى جزر المرجان
ما أحلى أن يضطرب الموج فينسدل الجفنان
وأنا أبحث عن مجداف
عن إيمان!

العرافة المقدسة


جئت إليك مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف فى معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء
عن فمك الياقوت عن نبوءة العذراء
عن ساعدى المقطوع .. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة
عن صور الأطفال فى الخوذات... ملقاة على الصحراء
عن جارى الذى يهم بارتشاف الماء
فيثقب الرصاص رأسه .. فى لحظة الملامسة
عن الفم المحشو بالرمال والدماء
أسأل يا زرقاء
عن وقفتى العزلاء بين السيف .. والجدار
عن صرخة المرأة بين السبى والفرار
كيف حملت العار
ثم مشيت؟ دون أن أقتل نفسي؟ دون أن أنهار؟
ودون أن يسقط لحمى .. من غبار التربة المدنسة؟
تكلمى أيتها النبية المقدسة
تكلمى بالله باللعنة بالشيطان
لا تغمضى عينيك، فالجرذان
تلعق من دمى حساءها .. ولا أردها
تكلمى لشد ما أنا مهان
لا الليل يخفى عورتى .. ولا الجدران
ولا اختبائى فى الصحيفة التى أشدها
ولا احتمائى فى سحائب الدخان
.. تقفز حولى طفلة واسعة العينين.. عذبة المشاكسة
كان يقص عنك يا صغيرتى .. ونحن فى الخنادق
فنفتح الأزرار فى ستراتنا .. ونسند البنادق
وحين مات عطشا فى الصحراء المشمسة
رطب باسمك الشفاه اليابسة
وارتخت العينان
فأين أخفى وجهى المتهم المدان؟
والضحكة الطروب: ضحكته ..
والوجه .. والغمازتان
أيتها النبية المقدسة
لا تسكتى.. فقد سكت سنة فسنة لكى أنال فضلة الأمان
قيل لى اخرس
فخرست وعميت ائتممت بالخصيان
ظللت فى عبيد عبس أحرس القطعان
أجتز صوفها
أرد نوقها
أنام فى حظائر النسيان
طعامى الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة
وها أنا فى ساعة الطعان
ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان
دعيت للميدان
أنا الذى ما ذقت لحم الضان
أنا الذى لا حول لى أو شأن
أنا الذى أقصيت عن مجالس الفتيان
أدعى الى الموت ولم أدعَ الى المجالسة
تكلمى أيتها النبية المقدسة
تكلمى تكلمى
فها أنا على التراب سائل دمى
وهو ظمئ يطلب المزيدا
أسائل الصمت الذى يخنقنى
ما للجمال مشيها وئيدا
أجندلا يحملن أم حديدا
فمن ترى يصدقنى؟
أسائل الركع والسجودا
أسائل القيودا
ما للجمال مشيها ويدا
ما للجمال مشيها وئيدا؟
أيتها العرافة المقدسة
ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلت لهم ما قلت عن قوافل الغبار
فاتهموا عينيك، يا زرقاء بالبوار
قلت لهم ما قلت عن مسيرة الأشجار
فاستضحكوا من وهمك الثرثار
وحين فوجئوا بحد السيف: قايضوا بنا
والتمسوا النجاة والفرار
ونحن جرحى القلب
جرحى الروح والفم
لم يبقى الا الموت
والحطام
والدمار
وصبية مشردون يعبرون آخر الأنهار
ونسوة يسقن فى سلاسل الأسر
وفى ثياب العار
مطاطئات الرأس، لا يملكن الا الصرخات التاعسة
ها أنت يا زرقاء
وحيدة، عمياء
وما تزال أغنيات الحب، والأضواء
والعربات الفارهات، والأزياء
فأين أخفى وجهى المشوها
كى لا أعكر الصفاء الأبله المموها
فى أعين الرجال والنساء
وأنت يا زرقاء
وحيدة عمياء
وحيدة عميــاء

أوتوجراف

أوتوجراف
لن أكتب حرفا فيه
فالكلمة – إن تكتب – لا تكتب
من أجل الترفيه
(والأوتوجراف)
الصامت تنهدل الكلمات عليه،
تحيّيه
وتطرّز كلّ مثانيه!
ماضيك
وماضى الأوتوجراف –
بقايا شوق مشبوه
بصمات الذكرى فيك، وفيه
وخطى العشّاق المحمومه أدمت كلّ دواليه
لكنّى أطرد كلّ ذباب الماضى عن بابى
فدعيه
غيرى قد يصبح سطرا من ورق
يقلّبه من يجهله أو من يدريه
غيرى قد ينبش تابوتا برّاق اللّون
تعفّن خافيه
لكنّى أطرد كلّ ذباب الذكرى
عن غدى المشدوه
عن ثوبى، وطعامى، و فراشى
عن خطوة تيهى
يا أصغر من كلماتى
لن أكتب فيه
فخطى العشّاق المحمومة أدمت كلّ دواليه