الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

روزاليوسف شخصيات ـ 6 ـ وحكايات لقاء عاصف بين زعيم الأمة والعقاد!




يكتبها: رشاد كامل

كان «مصطفى النحاس باشا» زعيم الوفد فى مأزق شديد لا يحسد عليه بسبب مقالات الأستاذ «عباس محمود العقاد» فى جريدة روزاليوسف اليومية وحملاته القاسية على حكومة «توفيق نسيم باشا» التى يؤيدها الوفد أملا فى استعادتها لدستور سنة 1923 الذى ألغاه «إسماعيل صدقى باشا»!

ولم تفلح المكالمة التليفونية التى جرت بين «النحاس باشا» و«العقاد» فى تقريب وجهات النظر، فالعناد والتشبث بالرأى كان صفة أساسية فى شخصية كل من «النحاس باشا» و«العقاد».
وبعد ذهاب «توفيق نسيم باشا» إلى النحاس باشا يحمل مقالات «العقاد» فى يد واستقالة حكومته فى اليد الأخري. بادر «النحاس باشا» إلى مكالمة «العقاد» يدعو للقائه فى الإسكندرية! وهو ما حدث بالفعل!
استقل «العقاد» القطار متجهًا إلى الإسكندرية وكان بصحبته صديقه الشاعر «محمد طاهر الجبلاوى» الذى تعود معرفته بـ«العقاد» إلى سنة 1922- أى قبل 13 عاما- وكان لقاء «طاهر الجبلاوى»- حسب روايته- قد التقى العقاد بدار صحيفة الأخبار اليومية التى كان يصدرها الأستاذ الصحفى الكبير «أمين الرافعى»!
لقد حرص الأستاذ الجبلاوى أن يروى ما جرى فى لقاء العقاد بالنحاس باشا كاملاً وكما سمعه من العقاد «فى كتابه البديع من ذكراتى فى صحف العقاد».
فكتب يقول بالحرف الواحد:
استدعى «النحاس باشا» الأستاذ «العقاد» لمقابلته بمنزله بالإسكندرية فرحل إليها وأنا فى صحبته، وجلست معه فى القطار وهو صامت طوال الوقت، فلما وصل إلى الإسكندرية توجه لمقابلة «النحاس» وحدثت بينهما مناقشة حادة:
النحاس: لماذا اتحمل على الوزارة يا أستاذ «عقاد»؟!
العقاد: لأنها انحرفت عن الطريق السوى وهى تماطل فى إعادة الدستور وتعمل لصالح السراى و الإنجليز، ووزير معارفها «نجيب الهلالى» يضطهد الوطنيين!
«النحاس»: ولكن الوفد يؤيد هذه الوزارة، وعند توليه الحكم يصلح كل شىء!
«العقاد»: أنا لا استطيع أن أغض الطرف عن أعمال الوزارة، ولن أقف موقف الإغضاء عن مساويها وهى تنكشف يوما بعد يوم!
«النحاس»: أنا زعيم الأمة أؤيد هذه الوزارة فما عساك تصنع يا «عباس يا عقاد»؟!
«العقاد»: أنت زعيم الأمة لأن هؤلاء انتخبوك (مشيرا إلى بضعة أشخاص من أعضاء الوفد) ولكنى كاتب الشرق بالحق الإلهى!
«النحاس»: إن الوزارة باقية ما دام الوفد يؤيدها ويضع ثقته فيها!
«العقاد»: لن تنتهى برية هذا القلم إلا وقد انتهى أجل هذه الوزارة (وأخرج قلما صغيرا من جيبه).
..
ويمضى الأستاذ «طاهر الجبلاوى» فى شهادته حول ما جرى فيقول:
وانصرف «العقاد» والحاضرون يتشبثون به ويلاحقونه حتى يزيلوا ما بينه وبين «النحاس» لكن «العقاد» أصر على الانصراف!
وكانت أول كلمة سمعتها من «فيه» (فمه) بعد هذه المقابلة: «لسنا مع الوفد بعد اليوم»!
واتصل العقاد بصحيفته: «روزاليوسف اليومية» التى كان يكتب فيها وطلب إليها أن تعد عنوانا مرسوما- اكليشيه- ليواصل حملاته ضد الوزارة!
وركبنا عربة يجرها جوادان سارت بنا فى شارع الكورنيش والعقاد صامت وكل ما حولنا يوحى بالصمت، ما عدا قعقعة العجلات التى كانت تدور وكأنها تقول: «ستدور الدوائر ليعلم الظالمون أى منقلب ينقلبون».
وجلسنا بمقهى فى رمل الإسكندرية ودارت العيون تبحث عن «العقاد» فى كل مكان حتى التقى به بعض أعضاء الوفد الذين تربطهم به صلة الصداقة وحاولوا أن يزيلوا ما بنفسه من حديث «النحاس باشا» ولكن بغير جدوى!
والتقوا به فى الصباح هم وآخرون على شاطئ «سيدى بشر» وأعادوا هذه المحاولة وعبثا حاولوا!
فلما عاد إلى القاهرة زاره المرحوم «محمود فهمى النقراشى باشا» فى منزله وواصل ما بدأه رفاقه فى الإسكندرية، ولكن «العقاد» أقنعه بأن هذه الفئة قد انتهت ودب إليها الفساد، ولا فائدة من البقاء إلى جانبها أو تبادل الرأى معها، وخرج «العقاد» على الوفد!
جانب آخر من لقاء «العقاد» و«النحاس باشا» يرويه الأستاذ «عامر العقاد» ابن شقيق العقاد فى كتابه «لمحات من حياة العقاد المجهولة» فيقول إن «العقاد» فى تلك المقابلة رفض استبداد «النحاس» برأيه ورد عليه يوم ذاك بقوله:
أنت زعيم الوفد لأن هؤلاء الذين حول أجلسوك على هذا الكرسى أما أنا قلمى وحده هو الذى وضعنى فى مكان قدره الرئيس «سعد زغلول» وقدرته الأمة!
وغادر العقاد اجتماع الوفد غاضبا متحديا استبداد رئيسه الذى يطلب منه أن يكتب مؤيدا الوزارة النميمية فيخالف لأول مرة فى حياته مبادئه التى آمن بها منذ أن أمسك القلم وكتب ما كتب!
ويكمل الأستاذ «عامر العقاد» قائلا:
روى لى «العقاد» قصة خروجه من حزب الوفد قائلا: كان صديقنا السيد «الجبلاوى» معى بالإسكندرية يوم تلك الحادثة، وكان ينتظرنى على مقربة من الاجتماع، ولما خرجت اقترب منى ثم سألنى فى هدوء: ما الخبر يا أستاذ لعله خير؟!
فوقفت لحظة ثم قلت: من اليوم نحن لسنا مع الوفد!
وركبنا عقب ذلك عربة سارت بنا فى طريق الكورنيش قاصدين الفندق الذى أنزل فيه، وكان الطريق هادئا على غير العادة، بل كانت حوافر الخيل تحدث ضربات منتظمة كأنها النذير بسوء عاقبة الوفد معى! وكأنها خربات المسرح التى سيرفع بعدها الستار لتبدأ الدراما الكبرى بيننا وبين الوفد ورئيسه الذى فضل الوصول لكرسى الحكم على حساب مصلحة أبناء الأمة!
ولحق بـ«النقراشى»- رحمه الله- وأخذ يرجونى أن أعدل عن رأيى الذى أعلنته منذ ساعات، بل أخذ يصور لى الموقف بأن «النحاس» وأعوانه سيحاربوننى فى كل ميدان حتى أذوق ألوانًا من العذاب!
ولكنى قلت له يومذاك: إننى لا أخاف من الحرب لأننى أؤمن بحرية رأيى وشجاعتى الأدبية وهما أنفس فى مقاييسى من الاستقلال ذاته، لأن الأمة التى تملك رأيها مستقلة فعلا وحقًا لو احتلتها فيالق الغاصبين، أما إذا خسرت الأمة حرية رأيها وشجاعة إيمانها لا خير لها فى استقلال ولا دستور ولا نيابة ولا انتخاب، لأنها تساق سوق العبيد لكل من خطر له أن يسودها من الأقرباء أو البعداء، وتعيش عيشة العبيد ولو لم يكن لها سيد قريب أو غريب! ولا فرق بين عبد مسود وعبد مطلق اليدين والقدمين، لأن العبودية فى النفوس والقلوب لا فى القيود والأغلال!»
انتهى ما كتبه الأستاذ «عامر العقاد»!
تجاهلت الصحف الوفدية تفاصيل اللقاء العاصف بين «النحاس باشا» و«العقاد» لكن اللافت للنظر أن جريدة «الشعب» التى كانت لسان حال «حزب الشعب» الذى أنشأه «إسماعيل صدقى باشا فى أواخر سنة 1930 أشارت إلى هذا اللقاء بقولها أن «العقاد» أصر على موقفه من الحالة السياسية القائمة ومن الوزارة، ولفت نظر «النحاس باشا» إلى إنه - أى «العقاد» - يكتب عن عقيدة تتفق فى هذه الأيام مع عقيدة الرأى العام بدليل أن بعض الصحف الكبرى والتى ليس لها أى لون حزبى معين تكتب مثل كتاباته! فضلاً عن إنه لا يستمد الوحى فى كتاباته من أية جهة!!
وكتبت «الشعب» أيضًا أن «العقاد» نبه «مصطفى النحاس» إلى أن موقفه أصبح محل انتقاد أصدقائه وأنصاره، وأنه يخشى على سمعته كرئيس للوفد إذا تمادى فى موقفه».
وخرج «العقاد» غاضبا من هذه المقابلة العاصفة، مصممًا على المضى فى خطته»!!
==
لا «مصطفى النحاس باشا» زعيم الوفد والأمة ولا «عباس العقاد» كاتب الوفد الأول استوعبا العبارة الشهيرة التى تقول: الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية!
وكثيرًا ما كتب «العقاد» مخالفًا لما يراه «سعد زغلول» سواء فى السياسة أو حتى شئون الأدب!!
كان «للعقاد» رأى قاس فى قصائد وأشعار «أحمد شوقى أمير الشعراء» وخاصة عندما رأس «سعد زغلول» لجنة الاحتفال بتنصيب «شوقى» أميرًا للشعراء وقال العقاد لشوقى:
- إنك حين تعين عمدة تستشير أهل القرية، وأنت رجل الشورى فكيف تعين علينا أميرًا دون أن تسأل وقد قال الله تعالى: اسألوا أهل الذكر.
وقال «سعد»: الحق معك!!
لقد تفهم «سعد زغلول» رأى ووجهة نظر العقاد عندما قال له: ليس بعجيب أن تكون للسياسة خصومات، وأن يكون لهذه الخصومات أهلها والقادرون عليها، ولكن الحق أيضًا أننى لا أنصر رأيًا على رأى رعاية للبرامج الحزبية أو المناوشات الموقوتة فإنها لا تستغرق إنسانًا مشتغلا بالأدب والخيال. إنما انصر الرأى على الرأى رعاية للقيم الإنسانية العليا التى هى عندى أرفع من القيم الحزبية بل أرفع حتى من القيم الوطنية».
وحول هذا المعنى كتب الشاعر «محمد طاهر الجبلاوى» صديق عمر «العقاد» يقول:
كان العقاد يدافع عن مبادئ الوفد برئاسة «سعد زغلول» لأنها تتفق مع مبادئه فى الدفاع عن الحرية والاستقلال ومطالب الأمة.
ولم ينضم إلى حزب الوفد ولا إلى أى حزب آخر ولم يكن يستمد آراءه السياسية من أحد، ويشترط على الصحيفة التى يعمل بها أن تنشر مقالاته كما هى وإن خالفت رأى صاحب الصحيفة، وكانت الصحف تقبل منه ذلك.
ولم يطلب منه الكف عن الكتابة أو تخفيف الحملات ضد خصومه فى عهد الزعيم الخالد «سعد زغلول».
ويروى «الجبلاوى» هذه الواقعة المهمة فيقول:
- «زادا اللورد «لويد» (المندوب البريطانى) مدينة المنيا وهيأت له الإدارة استقبالا كاستقبال أصحاب العروش، فحمل «العقاد» على اللورد الإنجليزى وعلى المحتفلين به حملة شعواء غضب من أجلها، وبلغ به الحنق أن استدعى الأسطول الإنجليزى إلى ميناء الإسكندرية ليزيل ما أصاب هيبته من جراء تلك الحملة، ولم يفاتح أحد «العقاد» فى موضوع مقالاته التى جرحت اللورد فى كبريائه!
فلما وجهت تهمة التحريض إلى «سعد زغلول» أجاب فى صراحة:
- إنها تهمة لا أنفيها أو شرف لا أدعيه!»
وهكذا كان العقاد مستقلا برأيه حافظًا لكرامته وكرامة أمته».
وللدلالة على المكانة التى كان يشغلها «العقاد» عند «سعد زغلول» يروى الكاتب الكبير الأستاذ «مصطفى أمين» هذه الواقعة فيقول «إنهما - أى هو وتوأمه على أمين» - كانا يتناولان الغداء ذات يوم على مائدة «سعد زغلول» ولاحظ الولدان أن «سعد» جلس على رأس المائدة، وجلست «صفية زغلول» (أم المصريين) عن يمينه، وأجلس الكاتب «عباس محمود العقاد» على يساره، ثم يليه أصحاب المعالى «فتح الله بركات باشا» وزير الزراعة، و«مرقص حنا باشا» وزير الأشغال و«مصطفى النحاس باشا» وزير المواصلات، و«محمد نجيب الغرابلى باشا» وزير الأوقاف، وجلس الولدان - مصطفى وعلى - فى نهاية المائدة!
وبعد الغداء قال مصطفى للزعيم: كيف يجلس «العقاد» أفندى قبل أصحاب المعالى الوزراء؟!
قال «سعد»: العقاد هو صاحب جلالة لأن الصحافة هى صاحبة جلالة، والوزراء أصحاب معال، فيجب أن يدخل صاحب الجلالة قبل صاحب المعالى!!».
هكذا كان «سعد زغلول» يتعامل مع «العقاد»! وهو ما لم ينجح فيه «النحاس باشا»!!
==
لقد احتل هذا اللقاء العاصف بين «النحاس باشا» و«العقاد» مساحة مهمة فى معظم الكتابات التى تناولت هذه المرحلة، ومنها ما كتبه «د. محمد صابر عرب» فى كتابه «المفكرون والسياسة فى مصر المعاصرة: دراسة فى مواقف عباس محمود العقاد السياسية» حيث يقول:
لم يلتفت «العقاد» لسياسة حزبه القائمة على فكرة المحافظة على الحكومة لكى يتاح لها فرصة عودة الدستور، وإنما أخذ يعبر عن رأيه وسط الرأى العام ثم انتقل إلى الكتابة فى الصحف منتقدًا الحكومة معلنًا هجومه عليها.
ثم انتقل العقاد إلى مرحلة نقد سياسة الوفد بسبب تأييده لوزارة «نسيم» التى اعتبرها صنيعة القصر والإنجليز!
لقد أدرك «العقاد» أن البون يتسع بينه وبين الزعامة الوفدية وخصوصًا أن صحيفة «روزاليوسف» قد اكتسبت شهرتها الواسعة بسبب مقالات «العقاد» اليومية التى كان يتلقفها الناس باعتبارها منشورًا ثوريًا. اتسمت بقدر كبير من التحليل والرؤية الثاقبة.
كان من الممكن أن تمر هذه الزوبعة لو أن «النحاس» قد تعامل معها من منطلق استقلالية الرأى، وخصوصًا وأن المعركة التى اختارها «النحاس» لم تكن تستحق التضحية برجل «كالعقاد» «فتوفيق نسيم» و«إسماعيل صدقى» كلاهما كانا من أكثر رؤساء الوزارات جرأة على الدستور.
لقد عرف عن «النحاس» إنه سريع الانفعال قليل الدهاء والمرونة ولذا فلم يستطع أن يفهم «العقاد» الذى يعترف بأنه إذا ما عومل بالتسامح لا يبدأ بعدوان أبدًا وإذا هاجمه أحد لا يرحمه وقد أدرك «سعد زغلول» هذه الخصوصية فى شخصية «العقاد»، ولذا فقد كان يتصرف معه بذكاء شديد.
لقد كان من الممكن لو أراد «النحاس» أن تكون حملات «العقاد» على الحكومة والإنجليز وسيلة لخدمة القضية الوطنية على اعتبار أن صحيفة «روزاليوسف» لم تكن وفدية تمامًا، وإتاحة الفرصة لكاتب «كالعقاد» أن يقول ما تعجز الصحف الوفدية عن نشرة يعد وسيلة للمناورة السياسية بهدف دفع الحكومة إلى التمسك بدستور 1923.
إن وجهة نظر «العقاد» فى تلك القضية كانت أكثر تحقيقًا للمكاسب الوطنية، ورجل «كالعقاد» كان مفكرًا أكثر منه سياسيًا ومن ثم فمن الواجب أن يقدر رأيه وأن يناقش بموضوعية وألا يعامل بمفهوم الالتزام الحزبى الذى يتسع مدلوله أحيانًا بشكل يكبل لغة الحوار داخل الحزب ويصنع هالة للزعامة باعتبار إنها لا تخطئ أبدًا بينما الفكرة فى مجملها قائمة على المصلحة الوطنية التى هى فى أشد الحاجة إلى كل الآراء».


وللحكايات بقية!!