الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

إبداع




شعراؤنا شموس فى سماء الإبداع ينيرون لنا ببصيرتهم وبصرهم طريقنا ويخبروننا ما لم نخبره فيما فاتنا من أمورنا الحياتية فهم بمثابة توثيق وشهادة على عصرهم ونحن نخصص هذه المساحة من الإبداع للاحتفال بالشاعر المصرى الراحل محمد عفيفى مطر (1935 - 28 يونيو 2010)، وهو من مواليد محافظة المنوفية تخرج فى كلية الآداب قسم الفلسفة. حصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الشعر عام 1989 وحصل على التقديرية 2006، يعتبر مطر من أبرز شعراء جيل الستينات فى مصر، وقد تنوّعت مجالات عطائه بين المقالات النقدية وقصص الأطفال وترجمة الشعر، وفاز بجوائز عديدة منها جائزة سلطان العويس فى 1999.
يصاحب قصائد «مطر» لوحات للفنان العالمى بيتروس باول روبنس عاش (1577- 1640) هو رسّام فلامنكى - نسبة إلى مقاطعة فلاندرس فى بلجيكا- تعتبر أعماله مثالا صارخا على المدرسة الباروكية فى فن التصوير، كانت تجمع بين أسلوب المدرسة الإيطالية وواقعية المدرسة الفلامكنية.

هذا الليل

هذا الليل يبدأ
دهر من الظلمات أم هى  ليلة جمعت سواد
الكحل والقطران من رهج الفواجع فى  الدهور!
عيناك تحت عصابة عقدت وساخت في
عظام الرأس عقدتها،
وأنت مجندل - يا آخر الأسرى...
ولست بمفتدى..
فبلادك انعصفت وسيق هواؤها وترابها سبياً -
وهذا الليل يبدأ،
تحت جفنيك البلاد تكومت كرتين من ملح الصديد
الليل يبدأ
والشموس شظية البرق الذى  يهوى  إلى
عينيك من ملكوته العالي،
فتصرخ، لا تغاث بغير أن ينحل وجهك جيفة
تعلو روائحها فتعرف أن هذا الليل يبدأ،
لست تحصى  من دقائقه سوى عشر استغاثات
لفجر ضائع تعلو بهن الريح جلجلة
لدمع الله فى  الآفاق..
هذا الليل يبدأ
فابتدئ موتا لحلمك وابتدع حلما لموتك
أيها الجسد الصبور
الخوف أقسى ما تخاف.. ألم تقل؟!
فابدأ مقام الكشف للرهبوت
وانخل من رمادك، وانكشف عنك،
اصطف الآفاق مما يبدع الرخ الجسور..

سلطانة الأطلال


بينى وبين خرائب الأهل القدامى
بعد أن غالتهمو غول الفجاءة بالرحيل
وتقادمتْ خطواتهم فى ليل ذاكرتي
وذاكرة المكان -
شرْخ بشباك وشق فى جدارى مائل،
وأنا أحدق عبر صمت معتم علـى أرى
آثار عرس أو بقايا مأتم أو
صندلا لصبية قد أعْجلتْها الغول عنه
أو انفراط الأحرف الأولى بأقلام
الطباشير الملون خطها طفل صغير
هى قفزة أعلو بها فوق الجدار
وخطوة.. فأكون أول من يرى
النسيان رأى العين:
آنية تكسر طينها حرقا من العطش
استنامتْ فيِ نسيج العنكبوت
ومراقد الحيوان والإنسان ربْقة ماعزى بليتْ
وفضْل حصيرة شرب التراب ترابها
تتأكل الجدران تحت نضائح الملح المرقدِ،
والمهجات العميقة والشنشْنات التى اكتحلتْ
بدخان المصابيح القديمة حفها جير من
الذرْق المنمش.
هذه الأعشاش خالية..
نداء الشمس والريح الطليقة بعثرا أسرابها
عيثت فى ظلم المهجات
ارتعدت بنقرتى وبخمش أظفاري
وريشى مرتعبْ
من مكْمن البوم اسْتللت البومة الكبرى،
لويت جناحها بجناحها،
انتفضتْ وحاولت الهربْ
ورجعتْ وهى أسيرة الفخين: كفى والعش فى الضوء،
وجه فى مهابته كوجه الأولياء الملهمين
حفتْ به من هالة الأسفار فى الظلمات شيْبته
حريرا فى نديفى من زغبْ
عينان واسعتان شهْلا وان كالبحر المصفى
فى زجاج كهوفه،
لا تنظران وليستا تريان شيئا من غثاء الصبح،
منقار به كِبر الملوك وكبرياء الفهم.
أنتِ وريثة الأهل القدامى الراحلين
وحفيظة الدمنِ البواليِ
والعليمة بالسرائر كيف كانت تغْتليِ بالعشق
والشعر المجنح بالجنون
وهواجسِ الأهوالِ من غلى وجوع واحْتراب وانكسار.
أطلقْتها بعد انحدار الشمس،
روحي.. واشهدى فى ظلمة الملكوت
هوْل الذاكرة..

الخفافيش.. أبدا


فتحت عينى فيِ ذبول الشمس وهى تجر في
أظلافها رملا تذريه على شفق الغروب
والظل يزحف صاعدا فوق الحوائط
ناسجا دغْش الزوال سقيفة تدنو
قتامتها رواقا لانفلات الصبْية اللاهين
والمتنظرين أمام باب الليل أن تنقض
أسراب من الفحم المجنح:
خفة، وذكاء تحويمي، ومكر مناوراتي،
وانقضاض ليس يوقفه اصْطدام بالحصى أو
بالعصا أو بالحوائط والسقوف
كانت تدوم ثم ترخى جلدها العريان في
غبشى يذوبه الظلام
شيئا فشيئا.. والشظايا من رفيف الفحم ترْفو
جبة الظلمات فالملكوت خفاش يلعلع صوته
المسنون.
يا ولدى ابتعدْ
واعقلْ جنون الصيد
أوهام وظن طائش هذى العصي
وهذه الحصباء -
فاقعدْ ريثما أحكيِ عن الخفاش
والخفاش صيد لا يصاد
هو لوْعة سوداء كامنة معلقة بأعماق
الخرائب والبقايا من بيوت أقفرتْ..
لم يبق إلا الجن والخفاش،
وهو الوهم والظن المثير المستفز
لبهجة الصياد،
وهو مفتق الإلهام من حيلى ومن أملي
ومن حسْم وتأجيل وطقس يستعاد
حتى إذا اشتبكتْ مخالبه بوجهى أنشبتْ
واستغْوَرَتْ فى لحمه حتى العظام
لا شيء يدفعه ليترك صيده إلا دوى الطبل
والزمار يلعب بالغوازى العاريات
وأبوك شيخ لا تليق به الفضيحة
فاستمعْ لي، وانْس خفاش الظلام
واقعدْ لأحكى عن خفافيش النهار
من نسل آدم أو سلالات الكلام

مراودة الهدهد


شمس تدلتْ فى انفطار الصبح
غرتها تنوس وترتخي
والغيم عصْفرها وخددها بألوان الشقائقِ
والسماء تضيء زخرفة الكتابةِ فوق
ريش الطير من أمم الحروفْ
فى كل سربى من غوايات القراءة ما يخف وما يطوفْ
فافتلْ حبائل صيدك العاليِ،
متون الريح والآفاق صاعدة وهابطة
فأحْكمْ عقدة التخمين ما بين البصيرة والبصر
هذى هى انفلتتْ إليك من السوانح قبضة
الريش المرقشِ فيِ اختيال التاج،
والنقْرِ المشوشِ فى شقوق الدود
والحشرات مرتبك التلفت
نافشا زهْو التشكك واليقين
غمغمْت: هذا صاحبى الرواغ بين معلقات الشعر
والكتب الغويةِ،
هذه أنباؤه انتثرتْ على جنْحيْه نقش قطيفة
مكتوبة فى دهشة الذهب المضفرِ،
قلت: أنت رأيت أشْهى ما اشْتهيْت:
مليكة أختا على ملأ أخي،
حدقْت، من طيش النميمة لم تكن تدرى لواحق
ما استكن من الخراب على يد
الطغيان والملأ الهلام
لم تستمع لملاحم الفوضى
ومكذوب السرائر فى الكلام
أو رجفة الطوفان فى العرِمِ المكتمِ فى عروق الصخر
والغرق الذى ترتد منه الأرض مقبرة
ويغدو العرش والأمم الهوام
بددا يذريه الظلام
أم كنت تعرف.. ثم ألْغزْت الحروف على جناحك
كاشفا معنى التواريخ الدفين:
من خفة التحليق حول العرش والتيجان والأمم
السوالف ليس إلا الدود ينغل فى بقايا الهالكين!!
راودْته عن علم ما يدريه،
شاغلنى بخفته وطيش النقر ما بين الشقوق
نقر التلفت نافشا زهو التشكك واحتمالات اليقين.

نداءات على الجدران


نداءات على الجدران لم تقشرها الاظافر ولم يغسلها المطر
اختبىء ياقطاراً يهرول فى الحلم،
صوتك يخلع ريش النشاز الملون، يسقط بين
الصدى والصدى، وتصنفره شفرات الأظافر،
يدخل أوركسترا الأسر.
فلتختبىء ياقطار يهرول فى الحلم،
فالأرض مكشوفة المحطات مفتوحة تحت ضوء السفر
اختبىء فالإقامة مأهولة بوحوش القرابة
والألفة الناعمة
جسد للعشيرة، اعضاؤه انفرطت
كالعناقيد فى ورق الملصقات- الأفيشات- وهجالنيون المشاكس.
حط الظلام
فهل ينفر النهد تحت الأكف وتلتم رهط العناق
الصريح وهل يفتح الليل مضيفه للتخاصر
والجنس؟ هل تفلت الشهقات المقيمة فى اللون، هل؟
تنفست حقائب الوطن، يالله،
هل يملك كل هذه الملابس الداخلية؟!
وبعثرها فى الريح، فهل كل هذه الألوان من
شمس واحدة؟!
وغربت الشمس
فكل طريق صباح وكل صباح طريق.
العصافير تنسج اعشاشها فى
حديد الشبابيك والارفف الخشبية فى المكتبات
وفى الحافلات المليئة بالزحمة الضاحكة
والعصافير تنسج اعشاشها تحت ليل من
الشعر المستعار وفى خوذ الشهداء
واحذية الهاربين
أسرعوا اسرعوا.. فالبلاد القديمة
ركضت خلفكم، واكتبوا واكتبوا.. فالبلادالقديمة
قطعت شجر الأبجدية.
مطلع جاهلى يجيء
تطلع الشمس فى الذاكرة
تحت ايقاعه يستضىء
وطن للخراب الطلولي،
نهر تجررّه الصرخة الغائرة.
صخب، وبلاد تجلجل فى حجر السمع،
والرعد يزرع أعضاءه..
انتظروا.. تصهل الخيل فى الأروقة.

حجر الأجيال


يا حجراً أعرفهُ مذْ كنتُ صغيراً ألهو
فوقَ العتبة .
وأدقُّ عليكَ نواةَ المشمشِ والخروبْ
فى المدخلِ ..
كنتَ تنامُ عميقاً ..
لا توقظكَ الشمسُ ولا
هَرْوَلةُ الأقدامْ .
كنَّا فى شمسِ طفولتنا وصبانا
نصطادُ فراشَ الأحلامْ
وأنا أسألُ صَمْتَكَ:
هل تَتَفَصَّدُ ملحاً - مثلى - أمْ
تنفصَّدُ عَرَقاً من رملٍ أمْ
سوفَ تشيخُ فتنثركَ الأيامْ
فى طرقِ السعى ؟!
وهل صمتُكَ دمعةُ حزنٍ مكْنونةْ
أم زفرةُ يأسٍ أم بهجةُ حلمٍ
يتوقَّدُ فى أغنيةِ الصمتِ المجنونةْ؟!
كنَّا فى طرقِ السعى نغنّى للعدلِ وللحريةِ
ونفجرُّ فى ضَرَباتِ القلبِ بروقاً خُضْراً
تَسْطَعُ فى كيْنُونتنا السرِّية
فترانا الأرضُ بشارةً فجرٍ يطلعُ من
تاريخِ الظلمة.
يا حجراً أعرفُه ..
هل كنتَ الموسيقى المخبوءةَ فى
شعرِ الشعراءْ
أم كنتَ نداءً كونيّاً يَصَّاعدُ من صمتِ الشهداء؟!
أزْمنَةٌ مرّتْ..
كانت تنثرُ فضَّتَها ورمادَ
كهولتها فى الشِّعْرِ
وَوَهَنِ الخطوةِ
والجسدِ المهزومْ
وأنا أسألُ صمتَكَ :
هل صرختُكَ الملساءُ الحُبْلى
تحملها عرباتُ خرابٍ مندفعةْ
ينقلها بنَّاءون لصوصٌ من أعتابِ البيتِ
لبناءِ السجنِ وتَعْليةِ الأسوارْ ؟!
أم هذى الصرخةْ فجرٌ فَضَّاحٌ مكتومْ
سيُشعْشِعُ حينَ يدقُ الولدُ الآتى
- من ظلماتِ الغيبِ-
نواةَ المشمشِ والخروبْ ؟!

الأرض القديمة


رأيتُها فى صكوكِ الإرثِ مكتوبة
سِفْراً من الإنسان والإزميل
والحجرِ
رأيتُها من شقوق الصيفِ
مسكوبه
غاباتِ أيدٍ ترعرعُ فى دم الشجرِ
وأَوْجُهاً من حميم الطمى مجلوبة
منسوجة بالفروع الخُضَر والثمرِ
وأعظُماً غالبتْ أكفانَها، انقلبتْ
فراشةً حمراءَ مخضوبة
بالنار والغيم والرَّهَج الدوّارِ فى السفرِ..
كانت صكوكُ الإرثِ مختومة
بخاتم ملتهبٍ وأحرفٍ مشويّة
وكان فى أطرافها من سلّة الأيامْ
زخرفةٌ كوفيّة
وأَثَرُ القوافلِ المغبرَّةِ الأعلامْ
والزحمةُ التى تشبهُ عشَّ البومة
وطرّةُ السيّافِ والإمامْ
والصرخةُ المكتومة!
حين تقصّفتْ أصابعى ويبستْ
مفاصلُ الراحلة الملعونة
وقفتُ فى الصحراء تحت الشمسْ
انتظرُ الطغراءَ والأوامرَ الميمونة
كى أستطيع الهمسْ .
وقفتُ فى الصحراء واجماً مُقنَّعاً
أنظر جِلْدَ الأرضْ
مستبدلاً منتسخاً مرقَّعا
وكلما ثبّتتِ الشمسُ رماحَها
الحمراءَ فى جمجمتى
قطعتُ رحلةَ الوقوفِ بالقراءة..
(أُخرج من غيابة العباءة
صحائفَ الإرثِ المقدّسة
وكلما تخرّقتْ سطورُها بالأَرَضة
تهدّمتْ مدينةٌ على رؤوس ساكنيها
أو سقطتْ تحت نعال الروم
قلعةٌ أو مملكة
أو زحفتْ حدودُنا وسوّرتْ
مواطىءَ الأقدامْ..).
لو أن هذى الشجرة
لم تجدلِ الجذورَ للأعماقْ
لو أنها لم تطبخِ الضوءَ بجوفها
وتغزل الأوراقْ
لما تملّكتْ شبراً على مملكة
الصعوِد والهبوطْ
تمتدّ فيه أو تطرح ظلَّها المنقوشَ
بالزَّهَرْ..
أراكِ يا غزالةً بريّة
تنتظريننى خلال كلِّ جبلٍ بجوف
كل شجرة
وتركضين فى الغمامة المسافرة
لو نبتتْ أصابعى المقصوفة
لكنتِ - يا غزالتى البريّة -
صبيّةً فتيّة
تمنحُنى كعكتَها المقدّسة
وشالَها المهدودبَ المنقوطَ
بالسنابلِ الحمراءْ.

كنا معا


كنا معا.. بينى وبينك خطوتان
كنت صراخ اللحم تحت السوط حينما
يقطع ما توصله الأرحام
وشهقة الرفض إذا انقطعت مسافة الكلام
بالسيف أو شعائر الإعدام
كنت أحتاج الضوء والظلام
وثغرة تنفذ منها الريح
لليائسين من أرغفة الولاة والقضاة
والخائفين من ملاحقات العسس الليلى أو وشاية الآذان فى الجدران!!