الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

روزاليوسف تتحدى الحكومة!




لم يخطر ببال السيدة «روزاليوسف» أن تتلقى مثل هذا الرد العنيف والجاف من «مكرم عبيد» سكرتير الوفد، ولم يخطر ببالها إنه سيأتى يوم ليقول لها «مكرم عبيد» مهددًا فى خطابه إليها «إذا رأت إحدى الصحف المنتمية إلى الوفد أن تنتهج خطة تغاير خطة الوفد، فعليها أن تتحمل نتائج ما تنتهج»!
كان تهديد «مكرم عبيد» واضحًا وحازمًا للسيدة روزاليوسف، لكنه لم يكن يعلم أو كان يعلم وتجاهل ذلك أن روزاليوسف ليس من طبيعتها أن ترضخ للتهديد بل إن التهديد يزيدها عنادًا أو كما تقول: «عصامية مثلى تشعر دائمًا إنها غير مدينة بما وصلت إليه لأحد، يصعب عليها جدًا أن تخضع للتهديد مهما كان بسيطًا».
لقد كان «مكرم عبيد» وكبار رجال الوفد يعلمون تاريخ روزاليوسف المجلة والسيدة فى مقاومة طغيان حكومة «محمد محمود باشا» ثم «إسماعيل صدقى باشا»، وعندما صادرت حكومة «محمد محمود باشا» العدد 134 من المجلة ذهبت روزاليوسف إلى «مصطفى النحاس باشا» لتروى له ما جرى، ويومها قال لها «مكرم عبيد» فى لهجة خطابية:
- لك الفخار يا سيدتى!!
والمؤكد أن مكرم عبيد كان يعلم وشاهد بنفسه كيف وقف «النحاس باشا» يخطب فى حفل كبير فهاجم الحكم الاستبدادى، واستشهد على ذلك بالاضطهاد الذى يصب على مجلة روزاليوسف!!
تقول السيدة روزاليوسف وهى ترسم فى عبارات واضحة وشفافة شخصية «مكرم عبيد»: «إنه كان أقرب الناس إلى «مصطفى النحاس» والمسيطر عليه إلى حد بعيد، لا يتصل به أحد إلا من خلاله، ولا تتم مقابلة مهمة مع «النحاس» إلا فى حضوره، وكانت خطة «مكرم» تنطوى على احترام وتقديس الوفديين لمصطفى النحاس» حتى وصفه فى إحدى خطبه بالزعيم المقدس(!!).
ولا شك أن «مكرم» مسئول إلى حد بعيد عن تطور الأمور على نحو زاد من استبداد رئيس الوفد وانفراده باتخاذ القرارات دون سائر الأعضاء، مما كان مبعث شكوى الكثيرين من أقطاب الوفد البارزين وأنصاره العديدين».
● ● ●
لقد كان أول خلاف بين «روزاليوسف» والوفد خلافًا بسيطًا كما تصفه السيدة «روزاليوسف» لكن دلالة هذا الخلاف تكمن فى موقف «مكرم عبيد» نفسه من هذا الخلاف تقول «روزاليوسف»:
- حدث يوم أن نشرت خطابًا مفتوحَا إلى الملك «فؤاد» بالمطالبة بإعادة الدستور وإنهاء الحالة الشاذة القادمة واستدعانى «مكرم عبيد» وقال لى:
- كيف تكتبين خطابًا مفتوحًا للملك؟! لقد ظن الناس إننا نريد بذلك مصالحة الملك وهذا غير صحيح فمن قال لك بكتابة هذا الخطاب؟!
ودارت بيننا مناقشة طويلة أوضحت له فيها إنى لا أعبر عن رأى أحد إلا عن رأيى الخاص وحاولت بعد ذلك أن أقابل «النحاس» لأشرح له وجهة نظرى فى الموقف السياسى ولكننى لم أستطع إذ كان الأستاذ «مكرم عبيد» هو الذى يتحكم فى مقابلات النحاس».
أكثر من هذا أن جريدة روزاليوسف لم تكن تستطيع أن تنشر أى خطبة يلقيها النحاس باشا إلا بعد موافقة «مكرم عبيد» نفسه!
وبوضوح أكثر ترسم «روزاليوسف» كواليس ما كان يجرى فى تلك الأيام فتقول:
«كان أغلب الوفديين يحبون «روزاليوسف اليومية والأسبوعية على السواء، فهى لسانهم القوى وصوتهم المعبر، وهى الندوة التى يترددون عليها، كذلك كان جمهور الوفديين من تجار وأعيان وطلبة ومحامين يؤيدون خطتها فى مهاجمة وزارة «توفيق نسيم» وفى المطالبة بالدستور بسرعة وفى الحملة على المستشارين الإنجليز!
وكانوا لا يقرون سياسة «النحاس» و «مكرم» المبنية على ملاينه «نسيم» ومهادنة القصر والإنجليز ريثما يعود الدستور بسلام، على أن هؤلاء الكثرة من الوفديين لم يلبثوا أن تبينوا أن الأستاذ «مكرم عبيد» يتزعم الحملة على «روزاليوسف» وإنه يعتزم إخراجها من الوفد. وكان مكرم هو صاحب السطوة الأولى فى الوفد والمنزلة الكبرى عند «النحاس» وكان الآخرون يخشون التعرض له أو الوقوف فى وجه آرائه، فإذا بهم ينقطعون عن زيارة روزاليوسف، وإذا بهم يخافتون بتأييدهم لها بعد أن كانوا يجاهرون به، وقد فضلت كثرتهم أن تسكت وتنتظر نهاية المعركة».
● ● ●
الحقيقة أن خلافات السيدة «روزاليوسف» لم تبدأ مع الوفد وقادته بعد صدور جريدتها اليومية، بل بدأت قبل ذلك بسنوات، وكانت خلافات حادة رغم أنها جرت فى الكواليس، والغريب أن السيدة «روزاليوسف» لم تتطرق إليها فى ذكرياتها، واكتفت برصد مقاومة المجلة لاستبداد وطغيان حكومة «إسماعيل صدقى باشا»، وكيف صادرت وأغلقت وعطلت مجلتها مما دعاها لأن تصدر أكثر من مجلة لعل أشهرها «الصرخة».
لكن الكاتب الكبير الأستاذ «مصطفى أمين» روى جانبًا من هذه الخلافات أو المعارك غير المعلنة بين «روزاليوسف» و«الوفد» فى مذكراته «من عشرة لعشرين»، حيث كان فى تلك الفترة واحدًا ممن يعملون فى مجلة «روزاليوسف» ولمدة أربع سنوات وكتب يقول:
«كانت الصحف الوفدية كلها تضيق بسوء معاملة الحزب لها، قيادة الحزب تطلب منها أن تضرب الحكومة بشدة، فإذا سقطت الجريدة صرعى فى المعركة تركتها قيادة الحزب ملقاة على الأرض ولم تشترك فى حمل جثتها أو تشييع جنازتها، الصحف التى أفلست لم يتقدم أحد لمساعدتها. الصحف التى صودرت لم يفكر أحد فى تعويضها:
كانت السيدة «روزاليوسف» تشكو أن الأستاذ «مكرم عبيد» سكرتير الوفد يتصل بالمجلة كل أسبوع ويطلب منها أن تكتب أن وزارة «إسماعيل صدقى» ستسقط فى الأسبوع القادم، ويجىء الأسبوع القادم والشهر القادم ولا تسقط الوزارة، وكانت هذه الأنباء مقصودًا بها ألا ييأس الشعب ويستمر فى المقاومة، ولكنها كانت تضعف ثقة الرأى العام بمجلة «روزاليوسف» وعندما يفقد القارئ ثقته بالجريدة يفقد احترامها وعندما يفقد احترامها لا يقبل على شرائها كل أسبوع».
ويضيف أيضًا: «كانت الصحافة الوفدية كلها تضيق بسوء معاملة الحزب لها، قيادة الحزب تطلب منها أن تضرب الحكومة بشدة، فإذا سقطت الجريدة صرعى فى المعركة تركتها قيادة الحزب ملقاة على الأرض ولم تشترك فى حمل جثتها أو تشييع جنازتها، الصحف التى أفلست لم يتقدم أحد لمساعدتها، الصحف التى صودرت لم يفكر أحد فى تعويضها!!
● ● ●
حتى ذلك الوقت لم يكن الرأى العام يعرف شيئًا عن أجواء الخلاف بين الوفد وقادته وبين روزاليوسف وجريدتها. وسرعان ما تسرب خبر الخلاف إلى العلن وكما تروى «روزاليوسف» فى ذكرياتها فقد ألقى «مكرم عبيد» سكرتير الوفد القفاز علنًا لأول مرة عندما أوعز إلى صحيفة «الجهاد» الجريدة التى تنطق بلسانه بمهاجمة «روزاليوسف»!!
بدأت الجهاد هجومها على «روزاليوسف» فى أول الأمر غمزًا، إذ أخذت تقول إن الوزارة سوف تنشر كشوف المصاريف السرية التى كانت تعطيها الوزارات السابقة للصحفيين
وتتساءل السيدة «روزاليوسف» مندهشة ومتسائلة:
«المصاريف السرية» الحجة الخالدة التى تتعلل بها كل حكومة لتجريح الصحف المعارضة!! وعجبت لهذه الإشارة جدًا! من تقصد «الجهاد» يا ترى؟!
فبالنسبة لـ«روزاليوسف» بالذات، كانت «روزاليوسف» هى المجلة الوحيدة التى واظبت على خطة المعارضة العنيفة طوال السنوات السابقة على «نسيم» وهى المجلة التى حملت أثقل عبء من الاضطهاد والمصادرة حتى مرت بعض السنين عليها والمصادر من أعدادها أضعاف الصادر!
ومحررو «روزاليوسف» جميعًا من الذين عرفوا بعنف معارضتهم فلا يعقل أن يكون أحدهم قد امتدت يده إلى المصروفات السرية دون علمى! ولو كانت «روزاليوسف» على صلة طيبة بالحكومات لأعفتها الحكومات من المصادرات، ولكان هذا خيرًا لها من ألف مصروف سرى!».
لقد حاولت حكومة «محمد محمود باشا» أن تجرب هذا السلاح وفشلت، وكانت الحكومة قد صادرت العدد 134 من روزاليوسف، وهو ما دعا السيدة «روزاليوسف» لإصدار أربع مجلات بأسماء مختلفة فى أقل من عام هى: «الرقيب» و«صدى الحق» و«الشرق الأدنى» و«مصر الحرة» وتحكى «روزاليوسف» قائلة:
زارنى يومًا موظف كبير فى «الداخلية» يعرض علىّ أموال الحكومة فى نظير تخفيف الحملة على «محمد محمود» وحكمه المطلق، ولكننى رفضت! ثم تبين أن الموظف الكبير ظل يقبض مبلغًا شهريًا بدعوى أنه يوصله إلينا!!
وكان «محمد محمود» يعجب حين يعرف أن النقود تدفع فى حين أن المجلة ماضية فى عنفها، حتى اكتشف أخيرًا أن النقود تذهب إلى جيب الموظف الكبير، فطردوه شر طردة!!
وقد التقيت يومًا بالمرحوم «محمد محمود» وهو رئيس للوزارة سنة 1939 قبل وفاته بعام واحد فذكرنى بهذه القصة ضاحكًا».
وتكررت نفس المحاولة من دار المندوب السامى البريطانى الذى عرض على السيدة «روزاليوسف» أن يدفع لها خمسة آلاف جنيه دفعة أولى ثم ألفى جنيه شهريًا لمدة طويلة بشرط أن توقف الحملة نهائيًا على حكومة «توفيق نسيم باشا» وهو ما رفضته أيضًا!!
● ● ●
لم تجرؤ صحيفة «الجهاد» الوفدية إلى ذكر اسم «روزاليوسف» فى حديثها عن «المصروفات السرية»، ولم يخطر على بالها أن «روزاليوسف» ستخوض ضدها معركة عنيفة، وطالت الحكومة أيضًا، وتحكى «روزاليوسف» قائلة:
«التقطنا القفاز وكتبنا فى العدد 182 من الجريدة نتحدى الحكومة أن تنشر كشف المصروفات السرية لنرى أى الوجوه تبيض وأيها تسّود!! وسكتت الحكومة طبعا، وأمعنا نحن فى التحدى، وجعلنا ننشر فى الجريدة كلمة يومية فى أبرز مكان بعنوان «نرجوا ألا تنسوا» نقول فيها:
- «نعود اليوم إلى تذكير الوزارة بنشر ما وعدت بنشره من قوائم المصروفات السرية المتضمنة أسماء صحفيين كانوا يتقاضون فى العهد البائد أجورًا شهرية ثمنًا لضمائر تشترى وأقلام تسخر...
ونعود إلى تذكير الوزارة بأن الخير كل الخير فى أن تتضمن تلك القوائم بيان إعانات «غير شهرية» غمرت بعض الصحفيين فى مناسبات خاصة وهم صحفيون تظاهروا ويتظاهرون بوطنية رخيصة وحماسة قوامها الغش والتضليل.
نذكر الوزارة اليوم وسنعود إلى تذكيرها بعد اليوم، ولن نمل التذكير حتى تبر بالوعد الذى أذاعه عنها المذيعون».
وسكتت الحكومة تمامًا ولم تعد تتكلم عن المصاريف السرية!!
لكن صحيفة «الجهاد» الوفدية لم تسكت ولم تصمت وقررت أن تمضى فى المواجهة بشكل سافر وصريح وبدون مواربة!
وتعترف «روزاليوسف» قائلة:
- «لم تنفع إذن هذه «الغمزة» من «الجهاد» فانطلق يهاجم «روزاليوسف» بصراحة بالعناوين الضخمة والمقالات الطويلة وأطلق على أسرة تحرير «روزاليوسف» اسم «فرقة روزاليوسف»!
وأجبنا على الحملة بأحسن منها، وكان هجومنا على «الجهاد» أيضًا من الناحية السياسية والوطنية، فقد كانت الحرب الإيطالية الحبشية فى ذلك الوقت على الأبواب، ولوحت انجلترا فى تصريحات المسئولين فيها بأن مصر ستكون «فى حمايتها» طوال مدة الحرب التى توشك على الاشتعال!
وكان «للجهاد» موقف مائع منها ونشر مرة يقول: «هكذا شاءت سياسة الاحتلال أن تظل مصر فى حاجة إلى حماية القوم حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين» فاتخذنا من هذه العبارة مادة لحملات عنيفة على الجهاد».
والأكثر غرابة وطرافة فى موقف جريدة «الجهاد» هو ما يرويه بنفسه «مصطفى النحاس باشا» فى مذكراته حيث يكشف عن ذلك فيقول:
«انفردت جريدة «الجهاد» دون سائر الجرائد بنشر انتصارات الحبشة على إيطاليا وأتت بإحصائيات القتلى والأسرى بأعداد هائلة، وسألت عن هذا فقيل لى حديث طريف دبره بعض الصحفيين ليروجوا الجريدة!! ومن العجيب أن الجريدة أصبحت توزع ألوفًا مؤلفة، وكان القراء يتلهفون عليها حسبما أخبرنى «توفيق دياب».
ولا تحتاج الواقعة إلى تعليق!!
● ● ●
وعلى صفحات «روزاليوسف اليومية» شارك «العقاد» بمقالاته النارية فى موضوع حرب إيطاليا والحبشة التى كانت مثار اهتمام الرأى العام فى مصر والذى أبدى تعاطفًا كبيرًا مع الحبشة، وكذلك أغلب الصحف المصرية حتى المعتدلة منها مثل الأهرام» والتى كتبت تقول: إن الشعب المصرى غاضب من موقف «توفيق نسيم» ويستنكره تماما «بل اتهمت حكومة «نسيم باشا» بالضعف والخضوع للبريطانيين!
أما روزاليوسف اليومية فقد رأت أن مصر أصبحت مستعمرة بريطانية، ولم يكترث «نسيم باشا» لما يقال عنه وعن حكومته، بل إنه صرح للقائم بأعمال المندوب السامى البريطانى «مستر كيلى» بأن كبار الصحفيين الذين يشنون حملاتهم عليه ويهاجمونه يتلقون مساعدات مالية من الإيطاليين وعن طريق حاشية القصر الملكى!!
وفى كتاب «د. راسم الجمال» «العقاد زعيما يشرح موقف «العقاد» بقوله:
«اصطدم العقاد بعنف بصحيفة «الجهاد» وبدأ يشك فى موقف الوفد من الأزمة عندما نشرت الجهاد أنباء الاستعدادات العسكرية الإنجليزية للدفاع عن مصر فى حال تعرضها لعدوان إيطالى عليها، وطمأنتها المصريين إلى كفاءة هذه الحماية الإنجليزية، فطعن - «العقاد» - فى «الجهاد» واعتبر ما كتبته فى هذا الصدد انحدارًا وطنيًا وارتاب فى الغرض من إشاعة هذه الطمأنينة على صفحات الجهاد، وعندما راحت «المقطم» - جريدة الاحتلال - تردد نفس النغمة، حينئذ تساءل:
«فهل هى خطة مدبرة لسياسة مرسومة وهل يقنع المصريون إذن بما هم فيه ويتحولون عن العناية فى الوقت الحاضر بقضيتهم الوطنية وآمالهم العريضة» ومعنى هذا إنه بدأ يشك فى وجود اتفاق بين الوفد والإنجليز على إشاعة هذه الطمأنينة وإرجاء البحث فى القضية الوطنية فى الوقت الحاضر!
وزاد من شكه - «العقاد» ذلك التهليل التى قابلت به «الجهاد» التبليغ البريطانى الذى قدم للحكومة المصرية بأنه «إذا دعت الضرورة فإن حكومة جلالة الملك ستواصل إطلاع الحكومة المصرية ومشاوراتها فى شأن جميع تطورات الموقف الدولى التى قد تمس مصر من قرب»، فقد رأى «العقاد» أن هذا التبليغ «لا تقضى به دولة مستقلة لدولة مستقلة أخرى، وأنه يساعد على تأييد دعوى الحماية البريطانية بظاهرها وخافيها».
وقررت السيدة «صفية زغلول» (أم المصريين) أن تتدخل لتنهى هذا الخلاف الرهيب!!
وللحكايات بقية!!