نادين جورديمر .. المنحازة للإنسان ضد مجتمعها العنصرى
روزاليوسف اليومية
يبدو أن مرضها المبكر وأسرتها البرجوازية لم يكونا بقوة مجتمعها الذى نشأت به، ومشاكله العنصرية التى عانى منها بقسوة لعقود، وفشلا فى طرد روحها المنحازة للإنسان والحرية والحق والمساواة التى سرعان ما انتصرت.
لم تستسلم الطفلة «نادين جورديمر»، التى أصبحت فيما بعد واحدة من أهم مبدعى العالم الحاصلين على «نوبل» فى الآداب 1991، لمرض القلب الذى أصابها طفلة، فقضت سنوات الطفولة والمراهقة فى القراءة وهى طريحة الفراش، تاركة اللهو والمرح والجرى لآخرين سواها.
ولدت جورديمر فى 20 نوفمبر عام 1923 بإحدى ضواحى جوهانسبرج لأب ليتويانى يهودى وأم إنجليزية مسيحية، ونشأت فى بيئة برجوازية بيضاء بمرجعية كاثوليكية فى وقت كان المجتمع الجنوب إفريقى يعيش أقصى درجات العنصرية اللا إنسانية، ومن هذه البيئة خرجت نادين لتفضح تناقضات نظام الفصل العنصري، وآثاره المدمرة على المجتمع والنفس الإنسانية، والتزمت طوال مشوارها الإبداعى بتقديم قصص الظلم العرقى والطبقي، ووصف ما نتج عنه من معاناة وجودية للسود.
وما بين الميلاد والرحيل، رحلة اهتمت فيها جورديمر كانت تهتم فيها بعمق بجنوب إفريقيا وبحضارتها وشعبها وصراعها المستمر لتحقيق ديمقراطيتها الجديدة، كما جاء فى بيان أسرتها الذى نعت فيه رحيلها بجوهانسبرج الأحد 13 يوليو 2014.
بدأت خطواتها الأولى فى الكتابة فى سن الخامسة عشرة، بتشجيع من والدتها، وفى سن العشرين كانت قد أصبحت اسما معروفا بفضل كتاباتها المنتظمة فى المجلات الأدبية الأمريكية المتخصصة مثل «نيو يوركر» و»نورث أميريكان ريفيو».
وشهد عام 1949 إصدار أولى مجموعاتها القصصية تحت عنوان «فحيح الحية الرهيف»، وعندما بلغت الثلاثين أطلقت عليها الصحافة الثقافية الأمريكية لقب «كاترين مانسفيلد الجنوب إفريقية» بسبب قرابتها الأسلوبية فى فن القصة القصيرة مع الكاتبة الأمريكية كاترين مانسفيلد.
ورغم ولعها بالقصة وإتقانها للسرد القصير، خاضت جورديمر تجربة الكتابة الروائية وأصدرت روايتى «الأيام الكاذبة» و»عالم من الغرباء» لتكونا بداية إنتاج أدبى شمل 15 رواية و15 مجموعة قصصية بالإضافة إلى ثلاث دراسات نقدية وسيرة ذاتية.
وفى عام 1974 حصلت على جائزة «بوكر» للرواية، لتصعد خطوات كثيرة فى عالم الشهرة، ثم جلست على قمة الأدب العالمى وكتب اسمها فى تاريخ عظمائه عام 1991 عندما نالت جائزة «نوبل» للآداب.
انتبهت جورديمير مند نعومة أظفارها إلى المعاملة المجحفة التى يتعرّض لها الأطفال السود عندما رأت بأم عينيها المعاملة الفظة للخادمات الزنجيات فى منازل الجيران. فهمت مبكراً الطبيعة العنصرية والطبقية للمجتمع فتعاطفت تلقائياً مع السود فى معركتهم المصيرية ضد الفصل العنصري. تعرّضت للمضايقات من طرف السلطات بسبب هذا التعاطف وعام 1958 تم منع روايتها «عالم من الغرباء» لكونها تتناول قصة صداقة مستحيلة بين شاب إنجليزى وشابة من جنوب افريقيا، وكذلك روايتها «ابنة بيرجر».
جعلت غوردومير من النضال ضد الفصل العنصرى قضيتها الأولى وكانت مقرّبة من نيلسون مانديلا، الذى حرص على رؤيتها فور خروجه من السجن لكونها واحدة ممن ساهموا بفعالية فى الحملة الدولية لإطلاق سراحه. وبفضل وضعها الاعتبارى ككاتبة شهيرة حصلت على هامش كبير للترويج لقضية النضال ضد الأبارتايد فى المحافل الدولية. واعتبرت نفسها دوماً «إفريقية بيضاء» ورفضت بشدة أن توصف بـ«كاتبة بيضاء من إفريقيا الجنوبية».
اعتبر كثيرون جورديمر أهم كاتبة فى جنوب إفريقيا وأشيد بها باعتبارها فيلسوفة أخلاقية أبرزت رواياتها وقصصها القصيرة معاناة الحياة والمشاعر الإنسانية فى مجتمع كانت تحكمه أقلية من البيض.
وتطرقت كثير من قصصها لموضوعات الحب والكراهية والصداقة تحت ضغوط نظام الفصل العنصرى الذى انتهى فى عام 1994 عندما أصبح نيلسون مانديلا أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا.
تتميز جوردمير سواء فى القصة أو الرواية بتقليلها من شأن الحبكة وتركز أكثر على البعدين النفسى والاجتماعى للشخصيات، كتابتها ذات أسلوب كلاسيكى لكونها غرفت طويلاً من الكلاسيكيات الإنجليزية والفرنسية خاصة توماس هاردى وجين أوستين وغى موباسون. وسردها مشوب بنفحة واقعية وينزع للمباشرة والحياد حد البرودة. لها هوس دائم بالتضاريس الإفريقية الملونة وبالطبيعة التى لا تكل من وصفها من نص لآخر. عن أسلوبها قالت فى إحدى الحوارات: «الأسلوب كلمة فضفاضة، كل حكاية تتطلب تعاملاً خاصاً ومغايرة لا علاقة له بما يسمى بالأسلوب».
بعد تردد كبير قبلت نادين جوردمير الدعوة لحضور «المؤتمر الدولى للكُتاب» فى القدس المحتلة على هامش الاحتفالات بـ«الذكرى الستين لتأسيس إسرائيل» عام 2008. وخلال الحوار الذى أجرى معها أثناء المؤتمر بحضور مجموعة من الكتّاب الاسرائليين أكدت أنها قبلت الدعوة بصعوبة وبألم بسبب إلحاح عدد كبير من أصدقائها، وقالت: «لم آت هنا بدعوة من الحكومة الإسرائيلية بل بدعوة من مؤتمر للكُتاب. جئت هنا لأتحدّث إلى زملائى الكُتاب والنقاش حول ما يمكن فعله لحل المشاكل بين إسرائيل والفلسطينيين».
وحين سألها أحد الكتّاب الحاضرين عمّا سمّاه «تأثير ثقافتها اليهودية» على كتابتها كانت إجابتها واضحة ومخيبة لآمال بعض الذين يصرون على يهوديتها لكونها إبنة أب يهودي: «لم أتلق أى تربية يهودية، أبى وعائلته كانوا يهوداً إلا أنهم لم يكونوا متدينين».