الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

عالم مصريات بريطانى يسجل علاقة النهر بالمصريين




ألهبت العلاقة الأزلية بين مصر والنيل خيال الكتاب والمؤرخين وعلماء الجغرافيا والأنثروبولوجيا على مدى الزمان ولعل مقولة المؤرخ الإغريقى الشهيرة مصر هبة النيل خير شاهد على ذلك. وفى أحدث الدراسات التى تتحدث عن « نيل مصر» يستكشف عالم المصريات البريطانى توبى ويلكنسون أهمية هذا النهر للحضارات العديدة التي عاشت وماتت على ضفافه منذ فجر التاريخ إلى العصر الحديث ويدعو المصريين والعالم إلى ضرورة فهم العلاقة بين النهر ومصر لاستشراف مستقبل بلادهم.
وفى كتاب توبي ويلكنسون، الذى سحره تاريخ مصر منذ نعومة أظفاره، «النيل: رحلة عبر ماضى وحاضر مصر» يقول: النيل هذا الخيط الأخضر الذى يمتد عبر مصر هو القوة الواهبة للحياة وسط صحراء صحراء قاحلة. ويوضح أن فيضانات النهر، قبل بناء السدود عليه بدءًا من نهاية القرن التاسع عشر، ألهم المصريين بمنظومة من التقاليد والممارسات الدينية تهدف إلى إتقاء مخاطر الفيضانات العارمة وهجمات التماسيح.
والمؤلف،الذى يشغل منصف استاذ الحضارة المصرية القديمة بجامعة كامبريدج، له عدة كتب عن مصر الفرعونية منها «صعود وهبوط مصر القديمة»(2011) و « العالم المصرى» فى 2009 وحياة المصريين 2007.
ويقول ويلكنسون أن موضوع كتابه هو مصر القديمة من خلال علاقتها بنهر النيل ويعيش قارئ الكتاب عبر صفحاته كل حقبة من تاريخ مصر الضارب فى جذور الزمن- الفرعونية، الإغريقية، الرومانية والبيزنطية والإسلامية والعصر العثمانى ثم زمن الاستعمار والوقت الراهن.
ويدعو ويلنكسون المصريين لفهم التحولات التى تمر بها بلادهم فى الوقت الراهن إلى العودة إلى ما أطلق عليه « قلب مصر» ألا وهو النيل الذى يعتبره مصدر اقتصاد البلد ومعتقداتها الروحية ونظامها السياسى. 
نلمس فى الكتاب حقيقة تاريخية بارزة مفادها أن الحضارة الفرعونية التى أذهلت العالم وما عقبها من حضارات بطلمية ورومانية وقبطية وإسلامية قامت على ضفاف النيل؛ عبره انتقل المصريون من الجنوب للشمال والعكس وتم نقل الحجارة الضخمة التى شيدت بها المعابد والأهرامات، بل قامت على ضفافه المراكز التجارية فى أرض النوبة.
يصحبنا الكتاب فى رحلة فى أنحاء مصر نابعة من نهر النيل،نقطة بدايتها فى منطقة الشلال الأول بصعيد مصر والذى كان حتى بناء السد العالى في أسوان في عام 1964 المسئول الأول عن حدوث السيول بسبب مياه الأمطار فى أفريقيا فى منتصف فصل الصيف، مغرقًا الحقول بالمياه والطمى الخصب.   
كنوز النيل وظلم المصريين
تبدا رحلة الكاتب من أسوان، حيث اعتقد المصرى القديم أن النيل ينبع من هناك ويجوب فى مصر بريفها ومدنها.. البلدات القديمة والمقابر الأثرية والأثار المتداعية وتتنتهى أخيرًا فى العاصمة القاهرة المكتظة بالبشر وحيث زحفت غابات الأسمنت من المبانى المرتفعة نحو أهرامات الجيزة الشهيرة وأبو الهول الذين كانوا على هضبة مرتفعة يحيط بها ماء النيل من كل ناحية.. ويوجه الكتاب صيحة تحذير للمصريين من ضياع سحر الأهرامات بسبب العشوائيات حوله التى لاتخضع لأى سيطرة وخطط التنمية الفاشلة  المتعاقبة فى تاريخ مصر.
يصف ويلكنسون فى صفحات كتابه عن النيل مشاهد حياة القرى الرابضة على طول مجرى النهر وينسج عبر دراسته الأكاديمية لتاريخ مصر القديم مشاهد رائعة بين القرى المصرية القديمة التى تزخر بها كتب التاريخ والقرى الحالية التى بنيت عليها وبعضها مازال يحتفظ بذات الاسم الفرعونى على طول ضفاف النيل مثل ميت رهينة وسقارة وقرية جابلين التى كانت بلدة قديمة تقع على الالنيل على بعد أربعين كيلو مترًا من طيبة الأقصر حاليًا، ويطلق عليها نبع الغريرة حاليًا. ويشير الكاتب إلى أن الطفل المصرى فى القرية لايزال يحمل فى أعماقه سحر الطفل الفرعونى الذى كان يسير حافي القدمين محتضنًا الطمى الخصيب الذى يحمله له النيل... ويصاب الكاتب بالدهشة مما لمسه من أن الإنسان المصرى البسيط على مر العصور يتمتع بروح مفعمة بالسعادة رغم الفقر.
ويقرر أن دورة حياة الثراء والفقر فى مصر، والتى مركزها نهر النيل، لازالت كما هى لم تنفصم عراها منذ عهد الفراعنة حتى الأن فالأغنياء يواصلون بناء الأهرامات الحديثة من وجهة نظره ممثلة فى ناطحات السحاب والمصانع على ضفاف النيل يسجلون بها خلودهم مثلما فعل أجدادهم القدماء على حساب وبعرق الفقراء من أبناء ملح الأرض فى مصر.. مقررًا أن ثروة النيل لم يتم توزيعها بطريقة ديمقراطية بين سكان مصر على مر التاريخ حتى الأن ... والمستقبل القريب لاينبئ بتغيير تلك المعادلة الظالمة لغالبية المصريين البسطاء.
المتحف المصرى 
يتجنب الكاتب الحديث عن الواقع السياسى الحديث فى مصر، حيث يشير بإيجاز ثورة يناير 2011 وعواقبها من أحداث وقلاقل، إلا أنه يركزعلى حالة المتحف المصرى باعتبارها مؤشرًا على الواقع المصرى الراهن ويشير إلى إن الإجراءات الأمنية فى المواقع الأثرية والمتحف بوجه خاص ضئيلة جدًا وخلو فاترينات العرض من الكثير من القطع الأثرية ويقول منتقدًا طريقة عرض التحف فى أنحاء المتحف المصرى « يخترق شعاع الشمس قطع خشبية هشة عمرها 2500 عام تم تخزينها فى حافظات زجاجية عمرها تسعين عامًا دون أى إجراءات للتحكم فى درجات الحرارة او نسب الرطوبة.
ويقف الكاتب فى موقف المدافع عن النيل عندما يصف بلهجة منتقدة بحسم الأثار الضارة للسدود التى بنيت على مجرى النهر مثل السد العالى الذى شيد فى ستينيات القرن الماضى وبوجه خاص مالحق بالعديد من الآثار القديمة.
ويتتبع عمليات السطو على الأثار المصرية موضحًا أنها بدات منذ عهد الملك رمسيس الثالث (1186-1155 قبل الميلاد) عندما بدأ العمال الذين يتقاضون أجورا زهيدة  فى نبش المقابر وسرقة الآثار، ويشير الكاتب إلى إن  نهب كنوز مصر الأثرية كان يتم فى عصور تاريخية مختلفة على مرأى ومسمع من المسئولين وحراسها لملء خزائن الحكام من كنوز الماضى أو بهدف استخدام مواد البناء القديمة لمشاريع بناء جديدة.  
وينعطف الكتاب نحو دور مشاهير وعلماء مصريات عشقوا مصر ونيلها على مر التاريخ مثل نابليون بونابرت، والرسام الأسكتلندى ديفيد روبرتس ورجل السياحة توماس كوك وإيميليا إدواردز السائحة من العصر الفيكتورى المدلهة بعشق الحضارة المصرية والمنقب عن الأثار لورد كارنارفون ممول عملية اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون عام 1922 فى كشف اللثام عن الحضارة المصرية وكنوزها، لكنه باعتباره عالم مصريات ينتقد دور بعضهم السلبى فى تهريب وخروج كنوز مصر فى أرجاء المعمورة بل وفى الإضرار بصورة خطيرة بالأثار فى مكانها، مسجلا حوادث تاريخية عديدة مثل منقب الأثار الإنكليزى الهاوى ريتشارد فايز (1784-1853)، الذي ثقب أبو الهول في سعيه للبحث عن الممرات الخفية أسفله وأجرى حفريات مستخدمًا أصابع الديناميت في أهرامات الجيزة.
رمسيس الثالث وأول إضراب
وتبلغ الدقة بعالم المصريات، الذى ألف العديد من الكتب والدراسات عن الحضارة المصرية القديمة، مبلغًا أنه يورد قصة تعبر عن وعى المصرى القديم بحقوقه المدنية وهى عن أول إضراب فى التاريخ عندما قرر عمال مقبرة فى قرية دير المدينة بالقرب من طيبة القيام بإضراب عن العمل فى عهد الفرعون رمسيس الثالث لتعسف المشرفين الإدرايين ضدهم وتدنى مستويات أجورهم.
ويلقى توبى ويلكنسون الضوء على أبعاد العلاقة « الإنسان والنهر» فى كتابه عن نيل مصر وهنا يورد حكايات من الماضى السحيق والقريب أبطالها كانت لهم الحضارة الفرعونية أشبه بالساحر الذى خلب ألبابهم وعقولهم فى أحيان أخرى 
مثل الإمبراطور الروماني هادريان والبريطانية التى أطلق عليها أم سيتي.  ففي  عام 130 بعد الميلاد  وبعد مقتل صديق  هادريان الشاب أنطونيوس غرقًا فى مياه النيل في ظروف غامضة في المهرجان السنوي للاحتفال بالنيل النيل،قرر الإمبراطور هادريان تشييد مدينة كاملة على ضفاف النهر باسم «أنطينوبوليس».
تكريمًا له ووضع الأساس لديانة تقدس صديقه باعتباره امتداداً لأسطورة إيزيس وأزوريس. أما البريطانية دوروثي إيدي (1904-1981) التى عاشت لسنوات عديدة في كوخ متواضع بجوار معبد سيتي الأول بعرابة أبيدوس بمحافظة سوهاج والتى وصل عشقها لقصة الملك سيتى الأول والد رمسيس الثانى، الذى حكم مصر فى الفترة من 1290 إلى 1279 قبل الميلاد، أنها توحدت معه واعتقدت انها كانت عشيقة له فى حياة سابقة.
 قد يبدو كتاب عالم المصريات البريطانى توبى ويلكنسون «النيل: رحلة عبر ماضى وحاضر مصر» فى لحظات عديدة مفعمًا بنبرة تشاؤم تجاه قدسية النيل لدى المصريين ومكانته لكنه يقرر فى ختامه حقيقة أزلية أن نهر النيل سيبقى لمصر شريان حياة رغم الصراعات عليه من دول حوض النيل وسد النهضة الذى تبنيه أثيوبيا.. وسيستمر النهر يجرى ليشهد أحداثًا هامة تتردد صداها فى أنحاء وادى النيل والشرق الأوسط والعالم بأسره.