الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

خاتم الأنبياء محمد «صلى الله عليه وسلم»




وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أن معظم جيش هوازن وثقيف دخلوا الطائف، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آخر شوال وحاصرهم حصارًا شديدًا عدة أيام، وبعدها رفع الرسول صلى الله عليه وسلم الحصار عنهم فقال له بعض الصحابة: يا رسول الله، ادع على ثقيف، فقال: اللهم اهد ثقيفًا وائت بهم

وكانت وفاة النبى صلى الله عليه وسلم صدمة لكل المسلمين، لم يستطع الكثير منهم تحمل أثرها، رغم إلماحات الرسول صلى الله عليه وسلم السابقة بدنوها، فمنهم من أصابته الدهشة، ومنهم من أُقعد فلم يُطق القيام، ومنهم من اعتُقل لسانه فلم ينطق، ومنهم من أنكر موته بالكلية؛لأن فقد عزيز عليه كرسول الله ليس بالأمر الهين، إلا أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه كان أهلا بالفعل للقيام بأعباء المهمة التى أعده النبى لها، فما إن أُعلم بوفاته حتى جاء سريعا من منزل له بالسنح خارج المدينة، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه وهو متمالك لنفسه وقبله قائلا: «بأبى أنت وأمى طبت حيا ميتا، والذى نفسى بيده لا يذيقنك الله الموتتين أبدا».


ثم خرج فوجد عمر رضى الله عنه يصيح بالحاضرين: «إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفى، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات» فقال لعمر: «أيها الرجل ! أربع ( هون )على نفسك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ألم تسمع الله يقول: « إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «( الزمر:30 ) و قال: « وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ « ( الأنبياء: 34).


ثم أتى المنبر فصعده، وحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ألا من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، قال الله تعالى: «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين» فتلقاها منه الناس، وصاروا يرددونها، وظل بمن حوله من أهل المدينة، حتى خفف عنهم هول الفاجعة، وفاءوا إلى رشدهم بفيئه، وأمسوا يدربون أنفسهم على الحياة دون رسول الله، وعلى الصبر على فراقه، وعلى البحث فى شئونهم العامة والخاصة.


وكان أول أمر نظروا فيه هو (من يخلف رسول الله عليهم، ومن ينهض بالأمر بعده صلى الله عليه وسلم) لأنهم كرهوا كما قال سعيد بن زيد أن يبقوا بعض يوم وليسوا فى جماعة، ولم يسندوا أمر الخلافة إلى أبى بكر الصديق مباشرة؛ لأن رسول الله لم ينص على خلافته صراحة كما ذكر من قبل، والبعض من المسلمين خاصة الأنصار لم يفهموا من الإشارات الضمنية التى وردت عن رسول الله فى فضل أبى بكر أهليته للخلافة دون غيره.


فاجتمع الأنصار فى مكان لهم يسمى «سقيفة بنى ساعدة» وتناقشوا فى إمكانية استخلاف سعد بن عبادة، وكانت حجتهم فى ذلك كما قال سعد بن عبادة: «لكم سابقة فى الدين، وفضيلة فى الإسلام ليست لأحد من العرب: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم لبث فى قومه بضع عشرة سنة، يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به إلا القليل، ما كانوا يقدرون على منعه، ولا على إعزاز دينه، ولا على دفع ضيم، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة، ورزقكم الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه، حتى استقامت العرب لأمر الله.. وتوفاه الله وهو عنكم راضٍ، وبكم قرير العين».


ثم خرج من بينهم أسيد بن حضير فأتى أبا بكر؛ ليعرض عليه وجهة نظر الأنصار هذه، فوجده وقد اجتمع إليه المهاجرون - أو من اجتمع إليه منهم - فلما أخبره بخبر الأنصار قال لمن حوله: «انطلقوا إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم فى هذا الحق نصيبًا، فذهبوا حتى أتوهم».


وبعد اطلاعه على ما عزموا عليه، ومعرفة وجهة نظرهم قال: «أنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم فى الدين، ولا سابقتهم فى الإسلام، رضيكم الله أنصارًا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته...، وإنكم لا تذكرون منكم فضلًا إلا وأنتم له أهل.
ثم بين لهم أن هذه الأمور ليست كفيلة بجعل الخلافة فيهم؛ لأن العرب بما جلبت عليه من عصبية لن ترضى أن تدين لأحد من غير قريش، قوم النبى صلى الله عليه وسلم.


وفى أثناء النقاش قال رجل من الأنصار: «منا أميرٌ ومنكم أمير» فاحتج عمر بأنه لا يصح أن يكون للمسلمين أميران، لأن رسول الله حذر من ذلك، وقال (أى عمر): هيهات لا يجتمع اثنان فى قرن! والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبينا من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم.


فأعاد أبوبكر الحديث، وذكر الأنصار بفضلهم، وبما غاب عن ذهنهم فى شأن الخلافة فقال: لقد علمتم أن رسول الله قال: لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار واديًا سلكت وادى الأنصار، ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم، فقال سعد: صدقت، فنحن الوزراء وأنتم الأمراء، فقال أبو بكر: نعم «... لا تفاتون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور..»


وزاد أبو عبيدة:يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر، فلا تكونوا أول من بدل وغير! فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار ! إنا والله وإن كنا أولى فضيلة فى جهاد المشركين، وسابقة فى هذا الدين ما أردنا به إلا رضى ربنا، وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا، فما ينبغى أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغى به الدنيا، ألا إن محمدًا، صلى الله عليه وسلم، من قريش وقومه أولى به، وايم الله لا يرانى الله أنازعهم هذا الأمر، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.


ثم أعلنوا بيعتهم جميعا لأبى بكر بالخلافة بعد عبارة عمر المؤثرة: « أنشدكم بالله، هل أُمر أبو بكر أن يصلى بالناس؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأيكم تطيب نفسه أن يزيل عن مقامه الذى أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: كلنا لا تطيب أنفسنا، نستغفر الله!.ويشعر عندها أبو بكر بثقل التبعة فيقول «أنت يا عمر أقوى لها منى، فيرد عليه: إن لك قوتى مع قوتك».


حدث كل ذلك يوم وفاة رسول الله، ثم جلس أبو بكر فى اليوم التالى؛ ليأخذ البيعة من سائر الناس، وأتته وفود العرب مجمعة على بيعته إلا المرتدون، فقد سئل سعيد بن زيد: أشهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم، فال: فمتى بويع أبو بكر ؟ قال: يوم مات رسول الله صلى الله عليه فقيل له: هل خالف عليه أحد ؟ قال: لا إلا مرتد أو من قد كاد أن يرتد.


وقد زعم بعض الناس أن على بن أبى طالب امتنع عن بيعته ثم بايعه مكرها؛ لأنه كان يطمع فى الخلافة لنفسه، وهذا افتراء على الرجل، إذ كان من المسارعين إلى بيعته، بعد فراغه من دفن رسول الله، ولم يصبر حتى يعود إلى بيته، ويغير من ملابسه، إذ جاء فى تاريخ الطبري: لما سمع على ببيعة أبى بكر خرج فى قميص ما عليه إزار ولا رداء؛ عجلًا حتى بايعه، ثم استدعى إزاره ورداءه فتجلله.( تاريخ الرسل والملوك: ج 2 / ص 119)


ولما سئل بعد ذلك عن خلافة الصديق قال: « قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فصلى بالناس، وإنى لشاهد غير غائب، وإنى لصحيح غير مريض، ولو شاء أن يقدمنى لقدمنى، فرضينا لدنيانا من رضيه الله ورسوله لديننا « (أسد الغابة:ج 2 / ص 149).
بتلكم الصورة تمت بيعة أول خليفة للمسلمين، لتعلن للناس أجمعين أن الحاكم فى الإسلام لابد أن يكون خير الناس وأرجحهم عقلا، وأقدرهم على تولى التبعات، وفى نفس الوقت هم أصحاب الحق فى اختياره، لا يفرضه عليهم أحد مهما علت مكانته.


ومن العجب أن البعض ممن يرون فى كل مزية من مزايا الإسلام عيبا يعيبون على المهاجرين والأنصار تعدد آرائهم فى أمر الخلافة قبل أن يتفقوا على أبى بكر، مع أن هذا هو قمة ما ينادى به أنصار الديمقراطية والحرية حديثا ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة فى التاريخ الإسلامى ألا وهى مرحلة الخلافة الإسلامية.