الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الآمن التائب




المنهج الإلهي - في إصلاح البشرية وهدايتها إلي طريق الحق - يعتمد علي وجود القدوة التي تحول تعاليم ومبادئ الشريعة إلي سلوك عملي، فكان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - هو القدوة التي تترجم المنهج الإسلامي إلي حقيقة وواقع، قال تعالي: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» (الأحزاب:21)، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن خلقه - صلي الله عليه وسلم - قالت: «كان خلقه القرآن»! (2)، وقال صلي الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، لهذا كانت لنا هذه الوقفة مع الأنبياء والصحابة والرعيل الأول من النساء المسلمات لنتعلم منهم وعنهم.

 

إنه صفوان بن أمية -رضى الله عنه، أحد فصحاء العرب وواحد من أشراف قريش فى الجاهلية، قُتل أبوه أمية بن خلف يوم بدر كافرًا، وقُتل عمه أبى بن خلف يوم أُحد كافرًا بعد أن صرعه النبى (صلى الله عليه وسلم)، وكان صفوان واحدًا من المشهورين فى إطعام الناس فى قريش حتى قيل: إنه لم يجتمع لقوم أن يكون منهم مطعمون خمسة إلا لعمرو بن عبدالله بن صفوان بن أمية بن خلف.
وكان صفوان من أشد الناس عداوة وكرهًا للنبى (صلى الله عليه وسلم)  وأصحابه قبل أن يدخل فى الإسلام، أسلمت زوجته ناجية بنت الوليد بن المغيرة يوم فتح مكة، وظل هو على كفره وعداوته للإسلام حتى منَّ الله عليه بالإسلام، فأسلم وحسن إسلامه.


وقد جلس صفوان يوماً فى حجر الكعبة بعد غزوة بدر، وأخذ يتحدث مع عمير بن وهب عما حدث لقريش فى بدر، ورأى صفوان أن صديقه عميرًا يريد الذهاب لقتل الرسول (صلى الله عليه وسلم)  ولكنه لا يملك، فساعده فى تحقيق ذلك وذهب عمير إلى المدينة مصممًا على قتل محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولكن شاء الله أن يسلم عمير، وخاب ظن صفوان.


وجاء فتح مكة، فهرب صفوان فى شعب من شعاب مكة، فعلم بذلك عمير بن وهب الذى ظل محافظًا على صداقته لصفوان، فذهب إلى النبى (صلى الله عليه وسلم)  وقال: يا رسول الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه، خرج هاربًا ليقذف نفسه فى البحر؛ خوفًا منك فأمنه (أى أعطيه الأمان) فداك أبى وأمى، فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): (قد أمِّنته)، فخرج عمير من عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  مسرعًا إلى الشعب الذى اختبأ فيه صفوان.


فلما رآه صفوان قال له: يا عمير ما كفاك ما صنعت بى، قضيت عنك دينك، وراعيت عيالك على أن تقتل محمدًا فما فعلت، ثم تريد قتلى الآن، فقال عمير: يا أبا وهب، جعلت فداك، جئتك من عند أبر الناس، وأوصل الناس، قد أمّنك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال صفوان: لا أرجع معك حتى تأتينى بعلامة أعرفها، فرجع عمير إلى النبى (صلى الله عليه وسلم)، وقال له ما يريده صفوان، فأعطاه الرسول (صلى الله عليه وسلم) عمامته، فأخذها عمير وخرج إلى صفوان، وقال له: هذه عمامة رسول الله يا صفوان، فعرفها صفوان، وعلم أن النبى (صلى الله عليه وسلم)  قد أمّنه، ثم قال له عمير: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  يدعوك أن تدخل فى الإسلام، فإن لم ترض؛ تركك شهرين أنت فيهما آمن على نفسك لا يتعرض لك أحد.


وخرج صفوان مع عمير حتى وصلا إلى المسجد، وإذا برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصحابته يصلون العصر، فوقف صفوان بفرسه بجانبهم، وقال لعمير: كم يصلون فى اليوم والليلة؟، فقال عمير: خمس صلوات، فقال صفوان: يصلى بهم محمد؟ قال عمير: نعم.
وبعد أن انتهت الصلاة وقف صفوان أمام الرسول (صلى الله عليه وسلم)  وناداه فى جماعة من الناس، وقال: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءنى ببردك، وزعم أنك دعوتنى إلى القدوم عليك فإن رضيت أمرًا، وإلا سيرتنى شهرين، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (أنزل أبا وهب)، فقال صفوان: لا والله حتى تبين لى، قال:
(انزل، بل لك تسير أربعة أشهر)، فنزل صفوان، وأخذ يروح ويعود بين المسلمين وهو مشرك. [ابن عساكر].


ويوم حنين، طلب منه الرسول (أن يعيره سلاحًا، فقال له صفوان: طوعًا أم كرهًا يا محمد؟ فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم): (بل طوعًا، عارية مضمونة أردها إليك)، فأعاره صفوان مائة درع وسيف، وأخذها المسلمون وخرجوا إلى الحرب وهو معهم. [أحمد]، فانتصروا وجمعوا من الغنائم الكثير، وأخذ صفوان يطيل النظر فى بعض الغنائم كأنها أعجبته، وكان النبى ( يلاحظ ما فى عينيه، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم): (يعجبك هذا؟) قال: نعم. قال: (هو لك)، فقال: ما طابت نفس أحد بمثل هذا، إلا نفس نبي! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. [ابن عساكر].


قال صفوان: لقد أعطانى رسول الله (ما أعطانى وإنه لأبغض الناس إليّ، فما زال يعطينى حتى إنه لأحب الناس إليَّ. [مسلم].


وظل صفوان مقيمًا فى مكة يعبد الله، ويقيم تعاليم الإسلام، وذات يوم، قابله رجل من المسلمين وقال له: يا صفوان، من لم يهاجر هلك، ولا إسلام لمن لا هجرة له، فحزن صفوان أشد الحزن، وخرج إلى المدينة مهاجرًا، فنزل عند العباس بن عبدالمطلب، فأخذه العباس إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فسأله رسول الله: ما جاء بك يا أبا وهب؟، فقال صفوان: سمعت أنه لا دين لمن لم يهاجر، فتبسم النبى (صلى الله عليه وسلم) له وقال: ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة، فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) [متفق عليه]، فاطمأن صفوان لذلك القول، ورجع إلى مكة وهو مستريح الصدر.


وشارك صفوان فى الفتوحات الإسلامية فى عهد أمير المؤمنين عمر وعهد عثمان بن عفان -رضى الله عنهما- وظل صفوان يجاهد فى سبيل الله حتى اشتاقت روحه إلى لقاء ربها، فمات بمكة سنة (42 هـ) فى أول خلافة معاوية بن أبى سفيان -رضى الله عنه-، وقد روى كثيرًا من أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وروى عنه الصحابة والتابعون -رضى الله عنهم.