الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

التضاد من أجل التكامل بين الفنون والسياسة فى مصر




ليس هناك أخطر على الأمم من أن يصبح صناع الواقع فيها أكثر بهجة من صناع الخيال، وعندما يبدو الأمر وكأن رجال دولتها يحملون ضميراً أكثر رهافة من ضمير نخبتها الفنية والثقافية، لأن ظاهرة اختفاء دور النخبة فى عملية صناعة الأحلام الكبرى وتجديد الضمير الوطنى وترتيب مشاعر الناس وأفكارهم وربطهم بالمستقبل لهو خطر حقيقى يعبر عن غياب تصور ثقافى فنى فى هذا الشأن على الرغم من ثراء وعظمة وتنوع أهل الثقافة والإبداع فى مصر.
ويتجسد ذلك فى مشاهد  ثلاثة متداخلة غير ذات صلة مباشرة ببعضها البعض لكنها تصنع صورة عامة سلبية ومحبطة، ألا وهى مشهد غزة ودركما رمضان والثرثرة الإعلامية الكئيبة حول داعش، إلا أن المشهد المفرح الممتلئ، بالخيال السياسى والإرادة والعلم والمعرفة.. وبالرجال الذين يصنعون الفرح والأمل فى الغد.. إنها مصر القادرة.. وهى تقوم بالبدء فى مشروع عملاق بحجم حفر قناة السويس الجديدة.. لا شىء أكثر قدرة على إسعاد المصريين من مشهد الاحترام والمحبة الحقيقة المتبادلة بين الرئيس عبد الفتاح السيسى ورجال الدولة المصرية.. ولا إشارة أكثر ترتيباً للمشاعر المضطربة من إشارة الرئيس السيسى للطفل الموجود بقاعة الاحتفال.. لقد طلب من المصور التليفزيونى تصويره ليراه الناس.. رئيس يحب أن يظهر الأطفال معه فى مشهد واحد.. لقد أخرجنى هذا المشهد من شحنات الاكتئاب الرمضانية المتوازية مع مشاهد القتل والغدر وغياب الضمير الإنسانى فى غزة، والعبث العربى باسم الإسلام فى العراق وسوريا.. وبينما أربكتنى على وجه التحديد بشدة مشاهد الواقع فى غزة أتعستنى مواقف عدد من النخبة وصناع الرأى فى مصر، من كيل الاتهامات لفصيل فلسطينى نعرف أنه الذراع العسكرية المنظمة لجماعة الإخوان المنحلة، ويعرف أهل مصر جميعهم ذلك ولكن التوقيت لا يحتمل القسوة الآن ولا يحتمل لغة الفضح والهبوط فى معالجة الأزمة، ففض الاشتباك بين حماس وعلاقتها بالمخطط الدولى الإرهابى لتفتيت وتقسيم المنطقة والذى يأتى دور داعش كجزء منه وهو المخطط الذى كسرته ثورة 30 يونيو فى عنفوانه وبين فكرتى المقاومة وانحياز مصر التاريخى لفلسطين العربية لهو شأن ضرورى.
وإذا كان الفن والثقافة فى كل زمان ومكان يحتم عليهما دورهما التناقض مع علوم وممارسة السياسة وإدارة الدول، وهو تناقض يسعى للتكامل من أجل مصلحة الأوطان العامة، ولم يكن هناك أوضح منه فى ثوابت الوطنية المصرية من منع وزارة الثقافة المصرية الرسمية وبالطبع أهل الفن والثقافة والنقابات الفنية المهنية من التطبيع مع الكيان الصهيونى.. رغم وجود اتفاقيات محددة وتعامل على أصعدة أخرى، فتلك المعادلة هى تكامل عبر التناقض لأن الثقافة والفن هما حافظة القيم والأهداف الثابتة بعيدة المدى للشعوب والأمم وربما كانت فرقة مسرح الطفل الفلسطينى التى أسستها منظمة فتح برعاية الراحل أبو عمار كانت وهى تجوب العالم لتشرح القضية الفلسطينية وتعلم أطفال فلسطين داخل الأراضى المحتلة وخارجها تاريخ قضيتهم لهى مقاومة لا تقل قيمة عن حمل السلاح، ولذلك يظهر موقف سامح عاشور فى اتحاد المحامين العرب مشرفاً على صعيد موقف مهنى يأتى من المجتمع المدنى، أما توازنات السياسية فهى شأن آخر تقديره ليس لأهل الفكر والخيال والحقوق.
فقد جاء البيان الخافت لعدد من المثقفين على رأسهم بهاء طاهر لدعم صمود الشعب الفلسطينى كصوت خفيض يؤكد غياب اتحاد الكتاب والنقابات المهنية عن الشأن الفلسطينى وبينما يغيب دور النقابات المهنية الفنية وأهل الثقافة والإبداع عن التواصل مع ضمير المجتمع الدولى الذى كانت نخبته أكثر غضباً فى بريطانيا على سبيل المثال مما هى عليه الخرطوم أو الدار البيضاء أو القاهرة أو غيرها من عواصم حملت على عاتقها القضية الفلسطينية لسنوات طوال هنا كان صوت سامح عاشور ودعوته لطرق الأبواب فى الخارج صوتاً شريفاً يعرف حقاً كيف يمكن الفصل بين السياسة والثوابت الوطنية وبين الطارئ المتغير والثابت الذى لا يتحول.
بينما تأتى دراما رمضان السوداء التى تسيىء لعمق المجتمع المصرى وتصنع واقعاً إعلانياً مستفزاً يجعل الدنيا سوداء فى عيون أهل مصر بعد ثورتين عظيمتين 25 يناير و30 يونيو، وهى دراما لم تلب هى ومؤسسة الإنتاج الفنى فى وزارتى الثقافة والإعلام حتى الآن توجيه الرئيس السيسى فى خطاب توليه المسئولية الرئاسية بضرورة وجود عمل فنى ملحمى يؤرخ للفترة من 25 يناير حتى 30 يونيو فى مصر، وإن دل ذلك على شىء فهو أن مصر فى حربها على الإرهاب لم تبدأ بعد حرباً حقيقة على الفساد.
الأكثر إدهاشاً هو استمرار سيطرة بورصة الإعلام التليفزيونى التى أفسدت الدراما المصرية منذ أن ربطت شركة أمريكانا للإعلان بين قيمة الفن وما يجلبه من إعلانات.. حيث أصبح سوق الإعلان التليفزيونى الذى يقف خلفه فى معظم الأحوال رجال أعمال فاسدون هو الذى يحدد سوق العمل فى الدراما التليفزيونية بداية من النص حتى النجم والمخرج، وهى السيطرة التى بدأت منذ الثمانينيات مما جعل الفن ألعوبة فى رأس المال الجاهل الفاسد غير المنتمى فى معظمه المضاد لقيم العمل والداعم لتغيير سلوك عموم المصريين نحو سلوك استهلاكى شره يحدد قيمة الشخص بقدرته على الشراء لا بشرفه ولا بدوره المهنى فى المجتمع ولا بقيمته الأخلاقية، مما ساهم فى دعم تغيير أخلاق المصريين لإنتاج أجيال جديدة عبرت عنها الدراما التليفزيونية فى رمضان وهى أجيال عدمية شرسة قاسية منعدمة الأحلام والأخلاق والقيم، والمؤسف أنها دراما تعبر عن حقيقة هى واقع فاسد علاقاته الإنسانية شديدة القسوة بصورة أكبر من الصور التليفزيونية السوداء لكن قراءة الظاهرة تتجاهل أن الفن فى جوهره هو عملية انتقاء واختيار، والسؤال هنا لماذا الاختيار هذا العام لكل هذا التحلل الأخلاقى والبؤس الإنسانى؟... نعم دراما رمضان تعبير عن واقع مؤلم نعيشه فى مصر ولكنها أيضاً ليست التعبير الموضوعى عن المجتمع المصرى ولا أحلام المصريين أهل المحبة والسماح رغم كل الآلام والجراح... فهل يمكن فصل الدراما عن بورصة الإعلانات.. وهل يمكن إسكات أبواق الإعلام التى تسيىء لتاريخ مصر النضالى فى معالجتها للقضية الفلسطينية والتى تغفل الدور والمؤامرة الواضحة فى شأن سوريا والعراق؟!
وهل يمكن لفت انتباه أصحاب المصالح الصغيرة فى قطاع الإنتاج التليفزيونى والثقافى لأهمية شحذ خيال المصريين وتطهير ضميرهم من كل هذا البؤس الفنى؟!
لأن الواقع المصرى رغم كل شىء أكثر أخلاقاً ورقة به شخوص فقراء محترمون لديهم معجزات فى حل مشكلات الواقع اليومية، وهم أكثر أخلاقاً ورقة من كل هؤلاء المرضى النفسيين والمجانين والمنحرفين الذين حاولوا إلهاء الناس طوال شهر بأكمله.. ومازالت تداعيات صورهم التليفزيونية البائسة تطل علينا وكأن هناك مؤامرة لدفع المصريين نحو نسيان الداخل ونسيان الفساد ونسيان مطالب ثورتهم المجيدة فى 25 يناير وتصحيح مسارها فى ثورة 30 يونيو.
فهل ندرك حقاً أهمية دور الفن والثقافة ودور النخبة فى حفظ التوازن بين الثوابت الوطنية والمتغيرات السياسية.. تحية لسامح عاشور المصرى المثقف المهنى المحترم الذى أخرجنى من فخ اكتئاب عنيف وهو يستعيد للنخبة المصرية دورها العروبى المصيرى فى الحديث عن فلسطين وهو حديث فض الاشتباك الضرورى والهام.. أما طفل حفل افتتاح قناة السويس الجديدة فهو إشارة تذكرنا بفنون وتعليم وتربية الطفل المصرى، ودور صناع الأحلام من أهل الفن والثقافة غائب فى هذا الصدد غير قادر حتى الآن على صناعة واقع فنى إعلامى موازٍ يعيد ترتيب سلم القيم والأخلاق والذائقة العامة للمصريين.
فهل من حلول جذرية ومواجهة جادة فى الشأن الفنى الثقافى الإعلامى الذى أراه لا يقل خطورة عن محاربة الإرهاب والتصدى للفساد لتحقيق مطالب الشعب المصرى العظيم؟