الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

التيار الإسلامى فى سوريا نموذج متكرر من «إيران»




استعرض الباحث توماس بيريه الاستاذ المحاضر فى الإسلام المعاصر بجامعة ادنبرة التحولات التي مر بها التيار الإسلامي فى سوريا وترجم الدراسة عومية سلطانى وتناول الباحث  الراحل التجربة التى مر بها التيار الإسلامى في سوريا حيث أكد أنه كان شكلا مختلفا عن النموذج المصرى.
ويرى الباحث أن حملة القمع الدامية التى تعرض لها هذا التيار خلال انتفاضة عامى 1979 و1982 والتي كادت تقترب من تكرار نموذج الثورة الإيرانية.. وأن هذه الانتفاضة أحدثت ثقلا مقابلا عبر حركة اجتماعية تحويه أدت إلى ازدياد واضح لمظاهر التدين فى الحياة اليومية السورية.
فمع حلول التسعينيات كانت المساجد قد امتلأت بالمصلين وأصبح الحجاب ولأول مرة فى تاريخ سوريا منشرا لدي النساء.
كما انتشرت مدارس تعليم القرآن الكريم وازداد عدد العائلات التى تفضل تنظيم حفلات القرآن «الإسلامية» (حيث يتم فيها الفصل بين الجنسين) بل إن النظام البعثى استجاب للحركة الاجتماعية فى سياق هذه العملية منذ اللحظة التى تخلى فيها تدريجيا عن مواقفه العلمانية العدوانية مبديا تسامحا أكبر تجاه الأنشطة الدينية غير السياسية ويبدى التيار الإسلامى السوري، كما هو الحال فى مصر، مظهرا محافظا فيعارض بشدة أى تجديد فكري. وقد تبدو سوريا بالفعل حالة استثنائية نسبيا نظرا للالتزام الطويل الأمد للإخوان المسلمين السوريين بمواقف تميل إلى شكل ما من الليبيرالية السياسية، لكن وبالرغم من ذلك، تعرض التنظيم للاجتثاث تماما خلال انتفاضة الثمانينيات وهو الآن مجرد شبكة تتكون من بضع عشرات من الناشطين الكهول الذين يعيشون فى المنفى بين أوروبا الغربية والشرق الأوسط.

«وصف الإسلاميين»
بالرغم من أننا سنعرض فى هذه الدراسة لعدد من وجوه التجديد الدينى فى سوريا، إلا أن الهدف لن يكون الوقوف عند الإشارات – الضئيلة- لما يمكن اعتباره منعطفاً ما بعد اسلامياً مفترضاً فى سوريا خلال أوائل القرن الواحد والعشرين. بالعكس من ذلك فإن الهدف الرئيسى الذى تقوم عليه هذه الدراسة هو التأكيد على فكرة أن التركيز على تطورات الساحة الدينية المحلية من خلال عدسة مماثلة يمكنه أن يطرح مشكلتين تحليليتين رئيسيتين هما: أولا الإغراء المرتبط بالتبسيط الكبير الذى يطال المظهر الأيديولوجى العام للإسلاميين «الأوائل» ( فى قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان أو الموقف من الأقليات غير المسلمة) غرضه عرض تباينه مع التطورات التى يتبناها ما بعد الإسلاميون؛ ثانيا: وجود اتجاه نحو تصور وصف لـ «الإسلاميين» - أى هؤلاء الذين ينشدون إقامة الدولة الإسلامية – كما لو كانوا يشكلون كلا متجانسا؛ ذلك أن تحولا نمطيا لا يمكنه الحدوث إلا داخل تيار يتميز بالتماسك (بحيث يتم استبعاد الفواعل الهامشية). وهذا التحدى لا يقتصر فقط على مفاهيم ما بعد الإسلام السياسى التى صكها «بايات»، ولكنها نتيجة محتملة لكل المحاولات التى استهدفت تعريف تحولات نمطية فى التغيرات التى تطال الإسلام السياسى حاليا.
ويؤكد الباحث انه ليس بصدد رفض المفاهيم المختلفة لظاهرة ما بعد الإسلام السياسى التى ساعدت على فهم العديد من الاتجاهات المهمةويقول: لا أنوى أن انفى أيضا فكرة أن هناك تحولاً نمطياً طاول الإسلام السياسى فى تركيا فى مطلع الألفية المنصرمة، أو أن تحولا مماثلا قد تم إجهاضه فى إيران ( بشكل مؤقت ربما؟) بسبب المعارضة العنيدة التى أبداها التيار المحافظ هناك. ما أريد توضيحه هنا - على الأقل فيما يتعلق بدراسة الحالة التى أطرحها - هو أن الإصرار على فكرة حدوث تحول نمطى - أو غيابه - فى الإسلام السياسى يمكنه أن يؤدى إلى ابتسار للواقع بغرض جعله يتوافق مع سرديات متخيلة مسبقا.
تتناول الدراسة أولا المشاكل التحليلية المذكورة بحيث توضح أن قبول الإخوان المسلمين السوريين بمثل هذه الأفكار «الما بعد إسلامية،» على نحو النظام البرلمانى والتعددية السياسية والمواطنة الكاملة لغير المسلمين ليست نتاجاً لتحول حديث، ولكنها تمثل ميزة طويلة الأمد تعود إلى السنوات الأولى من عمر الحركة.

«الطريق إلى الجنة»
النقد الثانى الذى يطرحه الباحث بشأن الاقترابات التى تناولت «التحول النمطي» يتعلق بالتأكيد على المخاطر التى يمكن أن تترتب على مسألة افتراض تجانس مفرط لظاهرة الإسلام السياسي.
وكما سيتضح فى المحور الثانى من هذه الدراسة، فإن هذين الصنفين من الفاعلين هم «إسلاميون» بالمعنى الذى يحيل إلى اعتبار أنهم يدعمون هدف إقامة نظام إسلامي، بينما يؤدى اختلاف وظائفهما بالضرورة إلى تباين فى سلوكهما السياسى وينتهى إلى الاختلاف فى مواقفهما التى تتعارض فى غالب الأحيان من حول القضايا المتعلقة بمسألة الإصلاح السياسي.
وانطلاقاً من الافتراض الذى قدمه فى المحور الثانى من الدراسة والذى يعتبر أن العلماء يشكلون القوّة المحافِظة داخل التيار الإسلامى فى سوريا، فإن المحور الثالث سيظهر كيف أن النظام السُّلطوى البعثى بطبيعته العلمانية، وإن بمعايير مناطقية، هو محدد رئيس فى مسألة التجديد الديني. فالنظام، فى الواقع، يفضل التعامل مع علماء محافظين بينما يعوق نمو اتجاهات اصلاحية قد تتأتّى من لدن شخصيات سياسية. على هذا النحو سوف أختم بالقول إن الإصلاح السياسى هو شرط مسبق للإصلاح الدينى وليس العكس.
أصدر الإخوان المسلمون المستقرون فى لندن فى السادس عشر ديسمبر 2004، أى فى الوقت الذى كان فيه النظام السورى يواجه ضغوطا غربية متزايدة بسبب سياسته فى لبنان، «المشروع السياسى لسوريا المستقبل» الذى مثل استمرارا لمبادرات متعددة اتخذتها الحركة الإسلامية بغرض إعادة بعث المعارضة السورية بعد الاستحقاق الرئاسى الذى جرى فى عام 2000، مثلت هذه الوثيقة المطولة المكونة من 117 صفحة أول برنامج سياسى مفصل ينشره التنظيم منذ قيام الثورة فى سوريا وبشكل أكثر تحديدا منذ صدور «بيان الثورة الإسلامية فى سوريا ومنهاجها» عام 1980.
 استقبل البرنامج السياسى بارتياح من قبل المعارضة السورية العلمانية بفضل التزامه الواضح بمسألة إنشاء «دولة ديمقراطية حديثة.» وقد استوحى البرنامج خصائص هذه الدولة من النماذج التى توفرها «الدول الديمقراطية العريقة» على نحو «دولة القانون» و«حماية حقوق الإنسان» و«الفصل بين السلطات» و»مسئولية السلطة التنفيذية أمام البرلمان» و«تحديد وتجديد مدة الرئاسة» و«الانتخابات الحرة والتعددية» واعترف البرنامج الجديد للإخوان المسلمين أيضا بالمساواة بين كل السوريين بغض النظر عن دياناتهم على أساس من «المواطنة».
احتفظ البرنامج السياسي، فى الوقت نفسه، بنبرة «إسلامية» واضحة عندما دعا إلى «أسلمة متدرجة للقانون،» كما أقر أيضا أن الأحزاب غير الإسلامية يجب أن تكون متاحة شريطة أن لا تعارض «ما تقيمه الشريعة بالنص،» وهو المبدأ الذى من شأنه أن يشكل قيودا شديدة على التعددية السياسية. توضح وجهة النظر هذه كيف ظل الإخوان المسلمون أقرب إلى «الإسلاميين الأوائل» بالمقارنة مع جماعات ما بعد الإسلام السياسى على نحو «حركة العدالة والتنمية» وهو حزب صغير أسسه عام 2006 معارضون سوريون مقيمون فى لندن. وتعتبر هذه الحركة التى تأسست على نموذج حزب العدالة والتنمية التركي، الإسلام كمصدر للهوية والقيم الأخلاقية أكثر منه مجموعة من القوانين السياسية والقانونية.

«احترام المساواة بين المواطنين»
فى كل الأحوال وأيا كانت حدود الليبرالية السياسية لدى الإخوان المسلمين فهى لم تكن نتاج تحول أيديولوجى حالى إنما تشكل استمرارية لخطاب سياسى قديم يمتد لعقود من الزمن. فمعظم العناصر الليبيرالية التى احتواها «المشروع السياسي» لعام 2004 كانت حاضرة بالفعل فى «البيان» الذى نشر عام 1980، أى فى الوقت ذاته الذى انخرط فيه الإخوان فى مواجهات مسلحة ضد النظام، وفى وقت لجأوا فيه فى بعض الأحيان إلى استخدام دعاية مناهضة للطائفة العلوية لقد أقر الإخوان فى البيان أنهم سيحترمون «المساواة بين المواطنين» و«الفصل بين السلطات» و«حرية الأحزاب السياسية» بنفس قدر احترامهم «لحرية الفكر والتعبير» ضمن الحدود التى يحددها الدستور و «روح الأمة». فى وقت لاحق من نهاية العشرية ذكر قيادى فى التنظيم أن هذا الأخير سيقبل بانتخابات حرة تصل برئيس علوى شيوعى الى الرئاسة - ويبدو من المسلم به أن حدوث ذلك يشكل احتمالا ضئيلا جدا.
مثل هذه المواقف المعتدلة يمكنها أن تبدو للملاحظ، على نحو المشروع السياسى لعام 2004، كتطمينات للمعارضة السورية التى انتهى الإخوان إلى التحالف معها ضمن التحالف الوطنى لاستقلال سوريا عام 1982 وإعلان دمشق للتغيير الديمقراطى عام 2005 بيد أن البرنامج الذى صدر عام 1980 جاء فى الواقع ضمن إطار تراث سياسى عريق تمكن، وفى أحلك المراحل، من الصمود أمام التأثير المتزايد للأفكار المتشددة التى سادت داخل الحركة فى مرحلة سيد قطب خلال النصف الثانى من سنوات السبعينيات.
كان الإخوان المسلمون يحيلون إلى هذا تماما حين جادلوا بأن «مشروعهم السياسي» كان «عودة إلى الأصول» لقد شهدت سوريا عدة مراحل من الحكم الليبرالى ما بين نهاية الاحتلال الفرنسى عام 1946 والانقلاب البعثى عام 1963، وقد شارك أعضاء تنظيم الإخوان المسلمين، الذى كان قد تأسس رسميا بعد أسابيع قليلة من نهاية الاحتلال الأجنبي، فى جميع البرلمانات المنتخبة لتلك المرحلة، وعديد من أعضائه عينوا كوزراء عام 1949 و1962. وخلال المراحل الأخرى ظل الإسلاميون ضمن المعارضة السلمية، بحيث ظل الحزب الأيديولوجى الوحيد الذى لم يتورط فى محاولات الاستيلاء على السلطة عبر الانقلابات العسكرية، ولم يحدث أن تحدوا شرعية النظام الليبرالى بشكل راديكالي. فى عام 1949 شدد «مشروعهم السياسي» على الحاجة إلى التقيد بحدود الدستور لغرض الحفاظ على «النظام الجمهوري» و«التوازن بين السلطات» و«الحقوق المدنية.» وقد أقرت الوثيقة ذاتها أن من حق الشعب أن يختار ممثليه عبر «الانتخابات الحرة،» وإنه يجب أن يحظى بالاعتراف بوصفه «السلطة العليا.»
فى عام 1950 وخلال النقاش البرلمانى حول الدستور الجديد، كان مقترح الإخوان المسلمين بأن يتضمن الدستور مادة تحيل إلى أن «دين الدولة هو الإسلام» قد لاقى معارضة شرسة من الأحزاب العلمانية والكنائس المسيحية، بالرغم من أن مسودة الدستور التى قدمها الإسلاميون تعهدت أيضا بأنه لن يكون هناك «تمييز بين المواطنين فى الدولة على أساس من الدين.» وقد أجبر نواب الإخوان المسلمين على التراجع وقبلوا فى نهاية المطاف بالتصويت على دستور احتوى فقط على مادة تحيل إلى أن «دين رئيس الدولة هو الإسلام» وأن «الفقه الإسلامى هو المصدر الرئيسى للتشريع.» وقد برر رئيس الحركة، مصطفى السباعى (1915-1964) قراره بمساندة النص بوصفه «دستوراً نموذجياً للدول الإسلامية».
المرونة الأيديولوجية التى ظهرت لدى الإخوان المسلمين السوريين فى مرحلة ما قبل 1963، برزت أيضا فى اعتناقهم الصريح لواحدة من أكثر الأيديولوجيات رواجا فى ذلك الوقت وهى الاشتراكية. فقد سمت الحركة جناحها السياسى باسم «الجبهة الاشتراكية الإسلامية» منذ أوائل العام 1949، كما أصدر مصطفى السباعى كتابه الشهير «اشتراكية الإسلام» عشر سنوات بعد ذلك.
لماذا يشترك الإخوان المسلمون الأوائل فى هذا العدد الكبير من الخصائص مع إسلاميى «ما بعد الإسلام السياسي» الحاليين؟ يمكن المجادلة بالقول إنهم ظلوا على الدوام قوة سياسية متواضعة خلال تلك المرحلة: ففى عام 1961 حققت الحركة وحلفاؤها أفضل نتائجها الانتخابية بحصولها على 8.7 بالمائة من مقاعد البرلمان فقط بيد أن مسألة كون الإخوان أقلية ليس عاملاً كافياً لتفسير هذا الاعتدال. عامل آخر يمكن أن يكون عنصر تفسير أكثر إقناعا هو أنه بينما كان البرلمان فى مصرعلى سبيل المثال، فى منتصف القرن العشرين مجرد مؤسسة منزوعة الشرعية حين اعتبر كأداة للاستعمار البريطانى فإن الأمر فى سوريا كان على العكس من ذلك: لقد نظر إلى البرلمان بوصفه معقلا للمقاومة الوطنية ضد الفرنسيين.
علاوة على ذلك وهذا هو الأهم هو أن الإخوان كانوا يخشَون قيام النظم العسكرية بعد التجارب المريرة تحت نظام كل من حكم حسنى الزعيم وأديب الشيشكلى (1949-1954). فكما هو الجال فى كل الدول الأخرى فى منطقة الشرق الأوسط، كانت العلمانية قد ترسّخت فى صفوف الجيش وأثبتت سنوات الخمسينيات أن تأثير الإسلاميين بين ضباط الجيش كان ضعيفاً بالمقارنة مع القوى الأيديولوجية الجديدة الأخرى على نحو قوميى سوريا الكبرى والبعثيين والشيوعيين والناصريين لاحقا.

«معروف الدواليبى نموذجا»
وبالرغم من أن الإخوان المسلمين ينتقدون، فى الوقت الحاضر، طبقة الأعيان التى هيمنت على الساحة السياسية حتى سنوات الخمسينيات، إلا أنهم كانوا، من الناحية البنيوية، مرتبطين بالنظام البرجوازى الذى كان قد اختفى نهاية الأمر بعد العام 1963. لقد كانت الحركة تُجند أعضاءها، فى الواقع، ضمن أبناء المتعلمين الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى المدينية القديمة، فى حين كان تواجدهم فى الأرياف منعدما تماما على ما يبدو؛ وهو ما يضعهم بوضوح فى الطرف «المحافظ» من الصراع الاجتماعى الذى كانت نتيجته قد حددت مصير سوريا فى العقود التالية، وهو الصراع الذى جابه فيه الفلاحون السلطة المدينية.
هذا التقارب بين الإسلاميين والأحزاب البرجوازية تظهره بوضوح شخصية معروف الدّواليبى (1909- 2003) والذى كان فى الوقت نفسه عضواً قيادياً فى حزب الشعب (الجناح السياسى لوجهاء حلب)، ومثقفاً إسلامياً مقرباً من الإخوان المسلمين خلال الخمسينيات كان قادة الحركة الإسلامية من السلفيين شركاء مفضلين للدولة، بحيث كانوا يمثلون سوريا فى المؤتمرات الدولية، وكُلفوا بإنشاء كلية الشريعة فى جامعة دمشق عام 1954.

«الواجبات فى مقابل الحقوق: علماء دين ونشطاء سياسيون»
ظل العلماء يشكلون بما لا يدع مجالا للشك أكثر الفاعلين تأثيرا فى عملية الأسلمة الاجتماعية فى سوريا خلال القرن العشرين فمنذ سنوات العشرينيات واجه هؤلاء انتشار القيم العلمانية عبر إنشاء المدارس الإسلامية والجمعيات الخيرية، وتحديث وتنقيح تكوين العلماء الشباب بغرض تعزيز الإشراف الدينى على المجتمع، كما أسسوا شبكات غير رسمية مرتبطة بالمساجد بهدف تثقيف الشباب العلمانيين لا سيما الطلاب وخريجى المدارس العلمانية الحديثة. بالمقارنة مع الدور الذى لعبه العلماء، بدا أن دور الإخوان فى الدعوة كان غير كاف: فقد كان الإخوان فى البداية حركة نخبوية نسبيا وأكثر اهتماما بالقضايا السياسية الكبرى والمناظرات الفكرية، ثم أجبروا على الدخول فى نفق السرية بعد 1963، قبل أن يتعرضوا لقمعٍ دامٍ فى بداية الثمانينيات. لذلك كانت «الصحوة» الإسلامية التى شهدتها سنوات الستينيات ظاهرة قادها العلماء بشكل واضح.
تركيز العلماء على الأسلمة من تحت إلى أعلى شجع منطقياً على استعمال السياسة كأداة لدعم المطالب الدينية والأخلاقية. خلال الحقبة الليبرالية، أى فى الوقت الذى كان فيه الإخوان يشاركون فى كل النقاشات الكبرى الخاصة بالحياة السياسية، من السياسة الخارجية إلى الإصلاح الزراعي، كانت رابطة العلماء - وهى الجناح السياسى للمؤسسة الدينية خلال العهد الليبرالى- تكرس كل طاقتها وراء مطالب حظر «البدع» والدعارة ومسابقات الجمال ودور السينما ومعارض الصور والملاهي.
إلا أن هذا لا يمكن أن يعنى بأى حال الخلوص إلى أن العلماء كانوا أقل «إسلامية» من الإخوان. فى الواقع، لقد دعوا أيضا وعلنا إلى إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة، ولأنه لم تكن لديهم رهانات فى اللعبة البرلمانية فقد أظهروا مرونة أقل مما أبداه الإخوان خلال النقاش حول الدستور الذى جرى فى الخمسينيات حين انتقدوا تراجع السباعى عن المادة التى تحيل إلى أن «دين الدولة هو الإسلام» وقد كرر العلماء لاحقا مطلبهم بأن يتم إدراج هذه المادة فى الدستور فى عريضة أصدروها عام 1973، وقد أعلنوا ذلك أيضا فى تصريحات فردية مؤخراً. فقد أوضح «محمود حاكم» (ولد 1952)، على سبيل المثال، وهو المفتى الثانى فى حلب خلال حوار رسمى فى مكتبه مع الباحث: « نحن نريد دولةً إسلامية؛ نحن لا نعمل لأجل ذلك فى الساحة السياسية بشكل مباشر، لكننا نعتقد أن ذلك سيكون نتاجا طبيعيا لجهودنا فى مجال الدعوة.»
بالرغم من أن الإخوان المسلمين كما العلماء كانوا قد عانوا من النظام البعثى السُّلطوى ومن النشطاء العلمانيين على حد سواء، إلا أن استراتيجياتهما استمرت فى التباين بعد عام 1963. ففى فبراير 1973 على سبيل المثال، وقع كبار علماء البلاد البارزين عريضة أصدرها الإخوان المسلمون يرفضون فيها مسودة علمانية للدستور ويطالبون فيها بأن يعلن الإسلام دينا للدولة، لكنهم كانوا قد قبلوا، بحكم الأمر الواقع، بالتسوية التى فرضها حافظ الأسد والذى كان قد أمر بإعادة إدراج المادة التى تحيل إلى أن دين رئيس الجمهورية هو الإسلام. بالمقابل، اتجه جناح الإخوان المسلمين فى حماة إلى تنظيم أعمال احتجاجية؛ فالطبيعة الاستبدادية للدستور التى كانت تنشئ نظاما شبيها بنظام الحزب الواحد، كانت تعطى للحركة الإسلامية أيضا فرصة استثمار استياء المعارضة العلمانية لغرض خلخلة النظام.

«تعسف دينى»
وقد اختار مشايخ العلماء فى المقابل تعزيز مطالب دينية واضحة، فطالبوا السلطات بقمع حقوق الناشطين فى مجال حقوق المرأة، والدفاع عن المدارس الإسلامية، والضغط لأجل إعادة إحياء رابطة العلماء التى كانت قد حظرت عام 1963. وكان هذا التنظيم قد أنشئ بشكل رمزى ولفترة قصيرة فى أبريل 2006 بدعم من الدولة، المبادرة التى اعتبرها سعيد رمضان البوطي (ولد 1929) وهو أحد أهم شيوخ العلماء فى سوريا، سبيلا لمواجهة التيارات غير الدينية لا سيما تلك المسكونة بهوس الحداثة طبعا تمتع الإخوان المسلمون فى المنفى بحرية أكبر فى التعبير عن آرائهم مقارنة بالعلماء الذين يعيشون فى سوريا، لكن قمع الدولة لم يردع أعضاء التيار الإسلامى المستقل عن المطالبة بالديمقراطية بالرغم من أن هؤلاء العلمانيين لم يتمتعوا بالحماية النسبية التى يحظى بها العلماء بفعل مكانتهم الدينية، لينتهى بهم الأمر فى كثير من الأحوال إلى السجون. من الجدير بالملاحظة أيضا أن الرابطة المستقلة لعلماء سوريا التى تأسست فى الأردن عام 2006 على يد علماء فى المنفى قريبين من الإخوان المسلمين، كانت على ما يبدو قد تجنبت تماما الخوض فى القضايا السياسية الداخلية فى ذلك الوقت.
العلاقة بين المناصب المؤسسية للعلماء وتبعيتهم الاقتصادية للدولة ليست عاملا ارتباطيا بأى حال؛ فشيوخ العلماء السوريين ليسوا مندمجين فى إدارة الدولة وكثير منهم يعتمدون على موارد متأتية من القطاع الخاص لاشك أن تردد العلماء بشأن تشجيع التغيير السياسى تجد جذورها فى مفهوم مختلف للنظام السياسى المرغوب فيه. فحين يتعلق الأمر بقيم النظام، فإن العلماء يتفقون مع الإخوان المسلمين والإسلاميين المستقلين بحيث يكون النظام السياسى الأفضل هو حين تكون الحكومة منتخبة. كتب الشيخ البوطي، بالرغم من تأييده الطويل الأمد للنظام، بأن «الديمقراطية التى تعنى حلية الشعب فى اختيار حكامه، وحرية الأفراد فى التعبير عن أفكارهم... هى مطلب إسلامى شرعي.» بالرغم من ذلك وفى الوقت نفسه، ابتعد البوطى مسافة عن الإسلاميين حين أعلن أنه يمكن لعملية التحول الديمقراطى وفى السياق الحالى أن تستخدم من طرف «قوى الغرب الاستبدادي» لغرض» إفساد قيمنا وتحويل العلاقات الأخوية التى ميزت مجتمعاتنا إلى حروب وانشقاقات.» خلاصة القول أن الفرق بين البوطى والإسلاميين المؤيدين للديمقراطية لا يجد موقعه فى رؤى دينية متعارضة، ولكن من خلال تباين تقييمات كل منهما بشأن مدى ملاءمة المطالب الديمقراطية فى الزمان والمكان. بالطبع، «تقييم» البوطى وزملائه لهذه الملائمة خلال العشرية الأخيرة لها علاقة كبيرة بالخيار الذى اتخذوه بمبادلة ولائهم للنظام مقابل مكاسب قطاعية لها صلة بالمجال الديني. بكلمات أخرى، فإن ضل تفسير لمواقف كل من العلماء والنشطاء السياسيين هى فى الممارسة اليومية لكل منهما. فالعلماء الذين يمكن تعريفهم اجتماعيا من خلال خبرتهم فى إدارة المجال الدينى يُعتبرون نخبة قطاعية على نحو نخبة رجال الأعمال على سبيل المثال، ولكن على خلاف من النشطاء السياسيين الذين يطالبون بأن يكونوا نخبة سياسية بديلة أى حكاما محتملين للدولة. هذه الخصائص تؤدى إلى اتباع سبل مختلفة فى التعامل مع النظام السلطوي: فالعلماء يدفعون عادة بخيار تشجيع أسلمة المجتمع والدولة دون تحدى بنية النظام السياسى طالما أن العلمانية وليس التسلطية هى العائق الرئيس أمام بلوغ أهدافهم. لذلك، فإنه مالم تصبح الدولة معادية للدين بشكل علني، كما حدث خلال حكم البعثيين الجدد المنتمين الى اليسار الراديكالى فى نهاية الستينيات من القرن الماضي، فسيفضل العلماء، بشكل عام، خيار التفاوض وليس المواجهة.
يواجه النشطاء السياسيون من جهتهم مشكلة مختلفة تماما، فى الواقع فمهما كان المدى الذى ستبلغه التدابير المحافظة التى يتخذها النظام للاستجابة لمطالب العلماء، سيظل الإقصاء من اللعبة السياسية مصيرا للإسلاميين المسيسين، مما يجعلهم يتبنون خيار أولوية التغيير البنيوى للنظام؛ أى الاتجاه نحو معارضة النظام بالمعنى الدقيق للكلمة.
منذ استقلال سوريا عرفت البلاد أزمتين اثنتين فقط تميزتا بحالة من عدم الاستقرار بما يكفى لزعزعة النظام بحيث أدت إلى مثل هذا النوع من التحول فى مواقف العلماء. الأولى كانت خلال أحداث حماه التى قادها الإسلاميون أوائل الثمانينيات والتى اتخذت فى بعض المناطق شكل شبه حرب أهلية. شملت الأحداث المناطق الشمالية من حماة وحلب على الخصوص، فقط مساحات قليلة بقيت على الحياد، بحيث أجبر عشرات العلماء الذين رفضوا تقديم الولاء للنظام على المنفى، وكثير منهم التحقوا «بالجبهة الإسلامية» التى أنشأها الإخوان المسلمون السوريون فى السعودية والتى دعت رسميا إلى الثورة على البعث وإقامة «دولة إسلامية ليبرالية» كما جاء فى المشروع السياسى للإخوان.
المثال الثانى على مثل هذه المراحل من الأزمات كانت الانتفاضة الشعبية التى قامت فى مارس 2011 فى محافظة درعا الجنوبية ثم انتشرت فى أجزاء واسعة من البلاد. وكما حدث قبل ثلاثين سنة، انقسمت مواقف العلماء: فالذين دانوا بالولاء للنظام على نحو الشيخ البوطى عملوا على تحقيق فوائد قطاعية من الأزمة من خلال تقديم الدعم لنظام الأسد فى مقابل التمكُّن من إنشاء قناة فضائية إسلامية، ومعهد جديد للدراسات الإسلامية، وإغلاق ملهى دمشق، والتراجع عن التدابير العلمانية التى اتخذت حديثا على نحو تحويل المعلمات المنتقبات نحو وظائف إدارية آخرون أمثال شيخ قراء القرآن «كريم راجح» (ولد 1926)، الذى عرف بوصفه وجها مستقلا منذ سنوات الستينيات، فقد رفض الدخول فى لعبة المطالب القطاعية وأشاد بالمتظاهرين الذين «كانوا يخاطرون بحياتهم لأجل استرداد الحقوق التى سرقت مهم قبل أربعين سنة.» فى المدن الأخرى التى حاصرها الجيش مثل درعا وبنياس على الساحل، كان العلماء المحليون يرددون المطالب الثورية للمتظاهرين بشكل علنى.
فى الواقع، فإن الحركة الإسلامية كانت مؤثرة بشدة منذ البداية، ليس فى سوريا فقط كما أشرنا سابقاً، ولكن فى مصر أيضا على سبيل المثال مثلما يظهره مثال الجمعية الشرعية، وهى تنظيم أسسه شيخ ازهرى عام 1911، وقد ظلت الجمعية الإسلامية الأكبر فى البلاد إلى جانب الشيخ محمد متولى الشعراوى الذى اشتهر بدروسه الدعوية على شاشة التليفزيون.
هذه الحركة الإسلامية الهادئة إذن ليست ظاهرة جديدة إنما حجبتها البحوث الأولى حول الصحوة الإسلامية التى ركزت على فهم الجوانب الأكثر بروزا فى هذه الظاهرة أى الحركات السياسية، لذلك فإن تزايد اهتمام الباحثين الغربيين بالجوانب غير السياسية للإسلام الحديث ربما ليست نتاج تراجعات عرفها الإسلام السياسى بقدر ما هى نتاج نمو وتمايز داخلى فى حقل التخصصات الأكاديمية.
يتعلق النقد الثانى الذى يقدمه الباحث بمفهوم «الحركة الإسلامية» الذى يميل إلى إعطائها انسجاما مفرطا من خلال فكرة تسييسها البالغ للدين؛ أى عبر افتراض وجود تداخل كبير بين المجالات «الدينية» و»السياسية.» واحدة من أهم هذه الاقترابات، والتى تستلهم أعمال «انتونيو غرامشي،» يبدو أنها تنظر إلى الدعوة خارج السياسة كجزء من مشروع إسلامى أكبر يهدف إلى تحقيق هيمنة أيديولوجية على المجتمع كمرحلة أولى من هدف الاستيلاء على الدولة لا جدال أن النشطاء الإسلاميين كما العلماء يهدفون إلى أسلمة المجتمع كما الدولة أيضا، وكلا الفئتين يرون الهدف الأول ضروريا لتحقيق الهدف الثاني، لكن الإصرار على التركيز على هذه الميزة المشتركة يمكنه أن يحجب اختلافات كبيرة بين مفاهيم المجموعتين عن النشاط الإسلامي.
يميل قُراء «غرامشي» إلى أن ينسبوا طبيعة أداتية على الصراع على المجتمع طالما ظلت الدولة، كما لاحظ «بايات،» «الهدف الحقيقى من التغيير.» هذا الاقتراب الذى يركز على الدولة ينطبق بلا شك فى حالة النشطاء الإسلاميين، لكنه يفقد قدرته على الإقناع حين يتعلق الأمر بالعلماء. السبب فى ذلك ليس أن هؤلاء العلماء هم أقل «إسلامية» من النشطاء الإسلاميين كما أوضحنا سابقا، بل لأنه وبالنسبة لهم فإن تنمية التقوى الفردية والأخلاق ليس مجرد وسيلة للوصول إلى هدف سياسى أسمى مفترض، بل إنما يشكل غاية فى حد ذاته؛ هدفاً ليس أقل أهمية من مسألة تطبيق الدولة للشريعة.
إن السبب فى ذلك هو أن إدارة المجال الدينى وليس النشاط السياسى هو ما يعرف الهوية الاجتماعية للعلماء: هوية تتضمن ما يسعون إلى تحقيقه من خلال وظيفتهم، والمجال الذى يمارسون فيه عملهم ويحظون فيه بالاعتراف. بكلمات أخرى، لا يعطى العلماء أولوية للاقتراب الذى يركز على المجتمع فى النشاط الاسلامى بعيدا عن اكراهات السياسة فحسب، بل لأنهم أولا وقبل كل شيء هم اقرب للعب دور اكثر بروزا فى مسار أسلمة المجال الاجتماعى مقارنة بالمجال السياسي.
يحجب التحليل الغرامشى « للحركة الإسلامية» أيضا تباينا مهما فى السبل التى يتصور بها كل من العلماء والنشطاء السياسيون قيام الدولة الإسلامية. يفترض التقليد الماركسى الذى ينتمى إليه «غرامشي» وجود علاقة ضرورية بين طبيعة القيادة السياسية وبين مضمون السياسة التى تتبعها: فالحكومة التى يهيمن عليها العمال هى وحدها القادرة على تطبيق برنامج اشتراكى حقيقى على المدى الطويل. مع بعض التعديل يصبح هذا النموذج قادرا على أن يصف بدقة الاقتراب الذى يتناول الجناح السياسى للحركة الإسلامية بالدراسة. فى الواقع، وكما كل النشطاء السياسيين فى العالم، فإن الإخوان المسلمين ونظراءهم مقتنعون أن الطريقة المثلى للوصول إلى النظام الاجتماعى والسياسى المنشود هو أن يحلوا محل الحكام الحاليين. بينما يتميز العلماء وكما ذكرنا آنفا بأن لديهم مفهوما للتغيير السياسى يعتمد على «ممارسة الضغط»بوصفهم نخبة قطاعية لا سياسية: إنهم لا يهتمون بهوية الحاكم بقدر ما يهمهم مضمون سياسته. وأيا كان انتماؤه فإن أى زعيم سياسى يمكن ممارسة الضغط عليه ليطبق سياسات أكثر «إسلامية،» ومثلما يوضحه مثال مصر فى عهد كل من السادات ومبارك، ليس هناك حاجة لاستبداله بهدف تحقيق هذه الغاية.
بينتُ فى الصفحات السابقة من هذه الدراسة أن الحقوق والواجبات التى يراها «بايات» كاهتمامات لدى كل من الإسلام السياسى وما بعد الإسلام السياسى هى اهتمامات مركزية وثابتة لدى الفاعلين الإسلاميين السوريين طوال العقود الأخيرة. وويؤكد الباحث انه لا يستبعد تماما مفهوم ما بعد الإسلام السياسي، لكنه يهدف إلى تحديد الشروط التى قد تؤدى إلى مثل هذا التحوُّل. ويرى ان هذا المفهوم ليس نتاج نموٍّ تلقائى لتيار أعقب الإسلام السياسى بعد أن أصيب بخيبة أمل إثر فشل اليوتوبيا الإسلامية. فى الواقع فإن العامل الرئيس للركود السياسى هو أن العلماء كانوا هم الفاعلون الدينيون الأكثر مناعة تجاه الاعتقاد الذى يرى أن الدولة الإسلامية يمكنها أن تقدم الحل لكل مشاكل المسلمين- وهو السبب الذى جعل وظيفتهم الاجتماعية (إدارة المجال الديني) تدفعهم دوما إلى تفضيل اقتراب يركز على المجتمع.
ويبدو مع ذلك أن الشرط الضرورى لظهور تيار إصلاحى قوى يقبع فى ضعف العلماء إما كنتاج للعلمنة أو لنمو فاعلين إسلاميين مسيسين بفضل إتاحة مناخ ليبرالى كما هو الحال فى تركيا. وكما سأظهره فى المحور التالي، فإن استمرار النظام التسلطى فى سوريا أحدث نتيجة معاكسة: لقد ازدادت قوة العلماء المحافظين أكثر من أى وقت مضى فى الوقت الذى تراجعت فيه الأصوات الإصلاحية.
بين مطرقة الدولة وسندان العلماء: إصلاحيو سوريا
نفضل النظم التسلطية التعامل مع العلماء المحافظين الذين يختارون عامة، وللأسباب التى ذكرناها سابقا، تشجيع الأسلمة دون أن يتحدوا المبادئ المركزية للنظام السياسي. ولا تشكل القيادة السورية استثناء هنا طالما أن النظام لا يختار شركاءه الدينيين بناء على درجة قربهم من الأيديولوجية «التقدمية» البعثية، ولكن وفقا لدرجة ولائهم، بل يفضل أن يكون الأمر بناء على درجة مصداقيتهم. هذا هو الأساس المنطقى للتقارب الذى أقامه حافظ الأسد مع الشيخ البوطى فى بداية الثمانينيات؛ وهو الكاتب الشهير الذى أدان علنا فى مدار كتاباته، القومية كما الاشتراكية وقد كانتا تشكلان المكونين الرئيسيين للأيديولوجية البعثية.
 لا يوفر النظام التسلطى فى سوريا السياق الأمثل للاتجاهات الدينية المحافظة فحسب، بل هو محدد أساسى بالنسبة للأفكار الإصلاحية أيضا. يواجه الإصلاحيون، فى الواقع، عائقا مزدوجا: فإن هم طالبوا بالتغيير السياسى فهم لا محالة سيثيرون غضب النظام؛ وإن هم تبعوا طريق الإصلاح الدينى فإنهم يعرضون أنفسهم لهجوم المؤسسة الدينية. بالنتيجة هم يضطرون فى كثير من الأحيان للتخلى عن أحد هذين الخيارين بهدف تأمين دعم كل من الدولة أو العلماء. بكلمات أخرى، يتعين عليهم الاختيار بين الدخول فى لعبة النظام التسلطى أو الالتزام بالتوجهات المذهبية المحافظة لكبار العلماء.
أما بالنسبة لعضو مجلس النواب محمد حباش(ولد 1962)، فإن اهتمامه الأول يقع فى موضوع المكانة الدينية لغير المسلمين. فهو يرفض النظر إلى الإسلام بوصفه الطريق الوحيد للخلاص، وهو الموقف الذى تكمن خلفه مبادراته العديدة فى مجال الحوار الديني.هكذا أكسبه هجومه على مبدأ مركزى فى المذهب السنى عداء شيخ العلماء، البوطي، الذى وصل الى درجة اتهامه بأنه «مبتدع.» عزلة حباش عن العلماء دفعته للاعتماد على الأجهزة الأمنية التى هندست عملية انتخابه عضوا فى مجلس النواب عام 2003، ليلعب النائب الإسلامي، بالمقابل، دور مسئول غير رسمى للعلاقات العامة فى وسائل الإعلام الدولية. بيد أنه كان لدى حباش طموحات أكبر، فابتداء من عام 2004 سيستثمر الضغوط المزدوجة من طرف الدول الغربية والمعارضة الداخلية ليقدم نفسه كبديل موثوق للإخوان المسلمين فى حقل الإسلام السياسي. وكانت هذه لعبة محفوفة بالمخاطر حيث بدا حباش بمظهر النصير المفوه للديمقراطية فى التيار الإسلامى السورى فى الداخل، التيار الذى سمح له النظام بالعمل لفترة قبل إسكاته تدريجيا منذ العام 2007.
لا حاجة للقول أن شيوخ العلماء لم يكن لهم من أسباب لمساندة داعية درعا حين ارتد النظام ضده بسبب مواقفه السياسية. ففى عام 2000، رفض السقا الدعاء لبشار الأسد بعد خلافته لوالده. ثلاث سنوات بعد ذلك، استغلت جماعته سقوط بغداد لتعبئة سكان درعا ضد الاحتلال الأجنبى للعراق وضد إهمال وفساد الحكومة السورية فى آن واحد. وقد دُعى المواطنون بعد مظاهرات سلمية إلى رفض دفع العمولات للإداريين، وإلى تنظيم أنفسهم لتعويض الأداء المتدنى للسلطات الحكومية.