الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

سنة أولى «روزاليوسف»




«قررت أن أصدر جريدة يومية كبرى»،  هكذا ببساطة قررت السيدة «روز اليوسف» أن تصدر الجريدة اليومية ولم تأبه بالعقبات والأزمات التى سبق أن مرت بها مجلة «روزاليوسف» اليومية من تعطيل ومصادرات وغرامات مالية باهظة تعرضت لها وتصدت لها فى بسالة نادرة وشجاعة فائقة منذ تحولت «روز اليوسف» من مجلة فنية إلى مجلة سياسية.
كانت الأوساط السياسية والصحفية فى حيرة من أمر هذه السيدة التى تعرضت مجلتها وحسب اعترافها لهزة كبيرة لم يكن سهلًا التغلب عليها، بل إن البعض وصل فى تشاؤمه إلى تحذيرها بأن المجلة ستموت.

كان السبب المباشر لهذه الهزة هو خروج الاستاذ الكبير «محمد التابعى» من «روز اليوسف» ومعه ألمع الشباب الذين بدأوا مشوارهم فى المجلة وهم «مصطفى وعلى أمين» و«سعيد عبده» الشاعر الزجال وكاتب افتتاحية المجلة والرسام «صاروخان» الذى صنع شهرته ومجده فى الكاريكاتير السياسى على صفحات المجلة.
كان سبب هذا الخروج الجماعى هو تعكر الأجواء بين «روزاليوسف» و«محمد التابعى» وتقول السيدة روزاليوسف»:
«أخذ المحيطون بالأستاذ «التابعى» يدفعونه إلى الخروج والانفراد بعمل مستقل، وكان من جراء ذلك أن تعكر الجو وتوالت الخلافات على التافه والجليل، ولما أشتدت الخلافات أستدعانى الأستاذ «مكرم عبيد» سكرتير الوفد وكان يحب «التابعى» على العكس من «مصطفى النحاس» الذى كان اطمئنانه إلى أكثر - استدعانى ليتوسط فى الأمر، وأقترح لتسوية الخلاف أن أجعل «التابعى» شريكًا لى فى ملكية المجلة، ولكنى اعتذرت وقلت له إن اسم المجلة شىء خاص بى وأحب أن أحتفظ به لابنى! فهو يستطيع أن يحافظ عليه بعدى!».
وتعترف السيدة «روزاليوسف» بأن أسباب الخلافات كلها تافهة بل كان الخلاف ثم الانشقاق طبيعيًا وحتميًا وأن يسير كل واحد منهم وراء  مستقبله ويشق طريقه! وتمسكت بموقفى، وعزمت على المضى وحدى».
■ ■ ■
لم تحرص السيدة روزاليوسف  أن تروى أو توضح فى ذكرياتها أسباب الخلافات التفاهة بينها وبين التابعى، لكن الكاتب الكبير الأستاذ «صبرى أبوالمجد» روى فى كتابه الوثائقى الممتع «محمد التابعى» يروى قائلاً: «أكثر من مرة وحتى قبل أن يدب الخلاف بين «التابعى» و«السيدة روزاليوسف» حاول التابعى أن يكون صاحب جريدة، وكانت أولى المحاولات فى 25 نوفمبر سنة 1928 حيث تقدم إلى مدير المطبوعات طلبًا بالترخيص له بإصدار مجلة أسبوعية أدبية مصورة لا علاقة لها بالدين والسياسة تصدر فى القاهرة وباللغة العربية اسمها «النهارده»!.. و..
ثم ينقل الأستاذ «صبرى أبوالمجد» عن «التابعى» قوله: «كنت قد فكرت فى عام 1932 فى أن أترك »روزاليوسف» ولكن المرحمومين «مصطفى النحاس»  و«مكرم عبيد» اعترضا وكانت حجتهما أن الناس سوف تظن بمجلتى السوء إذا أنا حصلت على ترخيص بصدورها من وزارة «إسماعيل صدقى» والثلاثة الذين كانوا يحرضوننى على ترك مجلة «روزاليوسف» وإصدار مجلة باسمى كانوا: الدكتور أحمد ماهر و«محمود فهمى النقراشى» و«سليمان نجيب»!
وفى صيف عام 1934 وبعد عودته من أوروبا يقول التابعى: إن وجودى فى «روزاليوسف» لم يكن مرغوبًا فيه، ولكن السبب المباشر لانفصالى عن المجلة بعد شركة تسع سنوات كان سببًا تافهًا فى الحقيقة، ولكن كان هناك «الجو» وكانت هناك «الظروف» وكنا جميعًا نفهم ماذا هناك من غير حاجة إلى إيضاح بالكلام الصريح!
بعد عودتى من أوروبا بأربعة أيام جلست أنا والسيدة «روزاليوسف» وصديقى «مصطفى أمين» وكان يشترك معى فى تحرير «روزاليوسف» واقترح «مصطفى» أن يسافر يومها إلى الإسكندرية لكى يجمع الأخبار للعدد المقبل، وعارضت السيدة «روزاليوسف» فى سفره، وكانت مشادة تبودلت فيها عبارات شديدة، ولمحت الدموع تجول فى عينى «مصطفى»، وهو ـــ شديد الحساسية  ــ سريع البكاء ــ فانضممت إليه ونصرته، وهنا نالنى أيضًا بعض الرشاش، ونهضت وقلت لمصطفى: «هيا بنا!
وخرجنا نحن الاثنان ولم نعد بعدها إلى مجلة «روزاليوسف»!
وفى اليومين التاليين كان كل هم صديقى «مصطفى» أن يقنعنى بالعودة إلى «روزاليوسف» وإنه كفيل باتمام «صلح مشرف» بينى وبين صديقتى «روز» ولكن ردى عليه كان دائمًا: لقد خطوت الخطوة وعيب كبير أن نضعف ونعود». وبدأ استعداد الأستاذ «محمد التابعى» لإصدار مجلة آخر ساعة!
ولم يمنع اختلاف وخلاف الكاتب الكبير الأستاذ «محمد التابعى» مع السيدة «روزاليوسف» أن يكتب لها فى عيد ميلاد المجلة سنة 1957 مقالاً بديعًا عنوانه: «الصحافة بين الأمس واليوم» استعاد فيها ذكرياته الصحفية وجاء فى مقاله:
«وكان شيئًا غريبًا أن تحمل مجلة، ومجلة سياسية وبالذات اسم سيدة وسيدة معروفة، فكانت الصعوبة التى تواجهنا نحن كيف نحمل القراء على أن ينسوا أن هذا اسم سيدة، وأن يأخذوا كلام المجلة على محمل الجد، وكانت هذه أكبر صعوبة واجهتنا فى أول الأمر».
واختتم التابعى مقاله بالقول: «تحية لمجلة «روزاليوسف» منى، وأقولها مخلصًا من قلبى، إنه لو كان هناك شخص آخر امرأة أو رجلاً فى مكان الزميلة الصديقة «روزاليوسف» لكان أكبر الظن أنه يئس»، وأوقف المجلة عن الظهور عند عامها الأول، لو كان أقل إرادة منها، بسبب المصاعب التى لاقتها، لكن عزيمتها تغلبت على كل شىء».
 وذات صباح ذهبت السيدة «روزاليوسف» إلى إدارة المطبوعات لاستخراج رخصة الجريدة اليومية «روزاليوسف اليومية»!
اعترض الكثيرون من أصدقاء السيدة «روزاليوسف» على اختيار هذا الاسم، لكنها استطاعت أن تبدد وتنهى اعتراضهم بقولها: إن «روزاليوسف ــ الاسم ـ قد أصبح اسمًا معروفًا، وأن وضعه على الجريدة اليومية سوف يغنيها عن حملة الإعلانات الضخمة التى ينبغى أن تقوم بها لو اختارت للجريدة اسمًا جديدًا!!
وبدأت «روزاليوسف» رحلة البحث عن اختيار رئيس تحرير للجريدة وتقول:
«اتجه ذهنى فى أول الأمر إلى الأستاذ «فكرى أباظة»، وفعلاً اتصلت به وعرضت عليه العمل، ونظر إلىّ «فكرى» مندهشا لا يكاد يصدق أننى أقدم على هذا العمل، ولما أزلت دهشته قال إن الجريدة ستكون وفدية طبعًا، وأنه كعضو فى الحزب الوطنى لا يستطيع أن يكون رئيس تحرير جريدة يومية تنطق بلسان الوفد!!
وقلت: إن الجريدة وإن كانت ميولها وفدية إلا أنها مستقلة إلى حد كبير والوفد ــ كالحزب الوطنى ــ يتزعم مقاومة إنجلترا التى نتفق جميعا على معاداتها ولكنه تمسك بموقفه واعتذر مرة أخرى».
فى ذلك الوقت كان «فكرى أباظة» ألمع نجوم الصحافة المصرية منذ بدء الكتابة فى «الأهرام» فى يناير سنة 1919، كما شارك فى ثورة 1919 أثناء وجوده فى مدينة أسيوط، وراح يخطب فى كنائسها مهاجمًا الاحتلال الإنجليزى وألف نشيدًا وطنيًا ردده المسلمون والأقباط، وأرادت السلطات البريطانية أن تعتقله فقام بالتنكر واستطاع الحصول على أوراق تفيد بأنه تاجر حمير وأفلت من الاعتقال.
فى تلك الأيام كانت المبادئ لا تباع ولا تشترى!!
■ ■ ■
بعد اعتذار الأستاذ «فكرى أباظة» للسيدة «روزاليوسف» عن رئاسة تحرير الجريدة اليومية، قام أصدقاء «روزاليوسف» بترشيح الدكتور «محمود عزمى» لرئاسة تحرير الجريدة اليومية، وكان «د.محمود عزمى» فى ذلك الوقت من أهم وأكبر كتاب صحيفة «الجهاد» صحيفة حزب الوفد الصباحية الأولى، وكذلك كان الكاتب الكبير «محمود عباس العقاد» كتب الوفد الأول فى «الجهاد»، لكنهما كانا مختلفين مع صاحب «الجهاد» الأستاذ الكبير «توفيق دياب».
تقول السيدة «روزاليوسف» فى ذكرياتها البديعة:
«التقيت بالدكتور «عزمى» وشرحت له الفكرة فرحب بها، وتحمست السيدة زوجته (الروسية الأصل) لفكرة خروجه من الجهاد، واتفقنا على أن نلتقى فى مكتب الأستاذ «إبراهيم عبدالهادى» المحامى (ورئيس الوزراء بعد ذلك) لنكتب العقد.
وقد أبدى لى الأستاذ إبراهيم عبدالهادى تخوفه من الدكتور «عزمى» وقال لى إننى لن أرتاح فى العمل معه!! ولكننى طمأنته.
وجاء الدكتور «عزمى» وكتبنا العقد، ولكان يقضى بأن يكون مرتبه الشهرى ستين جنيهًا، فضلاً عن خمسين قرشًا عن كل ألف نسخة توزع بعد العشرة الآلاف نسخة الأولى، على أن يبدأ العقد من أول مارس سنة 1935، وعلى أن يكون الأستاذ «إبراهيم عبدالهادى» الحكم بيننا إذا اختلفنا فى تفسير العقد.
وطلب الدكتور «عزمى» راتب شهرين مقدمًا دفعتهما له فورًا، وبدأ يتردد على الإدارة ويشاركنى فى الاستعداد لإصدار الجريدة».
لقد كان انضمام د.محمود عزمى ثم «عباس محمود العقاد» إلى «روزاليوسف» بداية أول أزمة عنيفة بين حزب الوفد وجريدة «روزاليوسف» وكانت أزمة لها آثار بعيدة فيما بعد، وبحسب اعتراف السيدة «روزاليوسف» نفسها: «فقد كان «عزمى» و«العقاد» هما أكبر كاتبين فى الجهاد، وخروجهما إلى جريدة منافسة توشك على الصدور إضعاف له بغير شك، وكان «الجهاد» هو الجريدة المقربة إلى الأستاذ «مكرم عبيد» سكرتير الوفد وصاحب الكلمة العليا فيه!
وكان ثمة فتور بين «مكرم» من ناحية و«أحمد ماهر» و«النقراشى» من ناحية أخرى فظن «مكرم» أن «ماهر» و«النقراشى» يدفعاننى إلى إصدار الجريدة إضعافًا لتوفيق دياب، والجهاد التى يوجهها «مكرم»، ولم يكن هذا الظن على شىء من الصحة.. فقد أصدرت الجريدة اليومية كما أصدرت المجلة الأسبوعية بغير دافع إلا من نفسى».
■ ■ ■
نجحت السيدة «روزاليوسف» فى ضم «الأستاذ عباس محمود العقاد» إلى جريدتها الجديدة، رغم أنه أعلن قبلها أنه لا يعمل فى جريدة تحمل اسم واحدة ست واشترط العقاد أن ينص فى العقد مع «روزاليوسف» أن سياسة الجريدة وفدية، وعندما أبدى «مصطفى النحاس باشا» تشككه فى وفدية الجريدة نجح «العقاد» أثناء مقابلته له فى تبديد هذه الشكوك، مؤكدًا له أنه يخدم بقلمه نفس المبدأ الوفدى فى المكان الذى يريحه!
وكعادة تلك الأيام فإن كل من يريد أن يصدر جريدة أو مجلة وفدية أن يذهب لمصطفى النحاس زعيم الوفد، يستأذنه فى الصدور ويستمع إلى نصائحه وتوجيهاته ويتلقى تأييده الأدبى، وكان فى نية «روزاليوسف» عدم الذهاب بسبب ما جرى فى لقاء سابق بينها وبين «النحاس» باشا عندما اعترض على هجوم المجلة على حكومة «توفيق نسيم باشا» التى تؤجل عودة الدستور.
وأقنع «العقاد» السيدة «روزاليوسف» بنسيان هذه المقابلة وأن تزور النحاس باشا، وتقول السيدة «روزاليوسف» فى ذكرياتها:
ذهبت مع الدكتور «عزمى» بوصفه رئيسًا للتحرير لمقابلته، وما أن دخلنا عليه حتى قلت له: إن شاء الله تكون راضى يا باشا؟!
فأسرع يقول: لا ياستى أنا مش راضى!!
قالها بطريقته البسيطة ــ بين المداعبة والجد ــ التى تنم عن قلب أبيض ونية خالصة، وهى طريقة يمكن أن يتقبلها أى إنسان بلا غضب فضحكت واستطرد قائلاً:
ــ انتوا حتمشوا فيها زى المجلة؟!
فقلت: زى ما أنت عايز يا باشا
فرضى قليلاً: ثم قال: وحتطلعوا الصبح ليه؟!
فشرحت له الموقف، وكيف أننا سنطبع الجريدة فى مطابع «البلاغ» وكما كانت «البلاغ» تصدر مسائية فلابد أن تصدر «روزاليوسف» صباحية، فبان عليه الاقتناع، وإن بدا أنه اقتناع غير كامل!! وتحدثنا بعد ذلك عن السياسة العامة طويلاً ثم صافحته وانصرفت، ولم أكن أعلم أن هذه هى آخر مرة أقابل فيها «مصطفى النحاس»!
ومضت بنا دوامة الاستعداد لإصدار الجريدة، وكنت مصممة على أن تولد من يومها الأول جريدة كبرى لا ينقصها شىء!!
وبكل الهمة والحماس والإصرار راحت السيدة «روزاليوسف» تستعد لمغامرتها الجديدة التى حددت لها يوم 25 مارس سنة 1935 موعدًا لصدورها!
تقول السيدة «روزاليوسف»: جمعت لها أسرة تحرير ضخمة ضمت أبرز المحررين فى ذلك الوقت، كان الدكتور «محمد أبوطايلة» رئيسًا لقسم الأخبار والدكتور «رياض شمس» رئيسًا لقسم الأحاديث، والدكتور «محمد على صالح» يحرر صفحة التجارة والصناعة، وكان سكرتير التحرير «توفيق صليب» وكان سكرتير تحرير «الجهاد».
وكان بين المحررين المخبرين «كامل الشناوى» وكان له دور كبير سيأتى حديثه فيما بعد، ولطفى عثمان و«عبدالصبور قابيل» و«راغب عبدالملك» و«محمد حسنين مخلوف» و«حبيب جاماتى» و«على بليغ»، وصفحة السينما يحررها «أحمد كامل مرسى» وصفحة الشباب يحررها «يوسف حلمى»، وصفحات التسلية والصور والمجتمع يشرف عليها «زكى طليمات»، الصفحة الشرقية يحررها «جميل الرافعى» وصفحة الأطفال تحررها «أبلة زوزو» ــ السيدة زكية عبدالحميد وصفحة الأوراق المالية الأستاذ «نجيب ولاية».
وكان مصور الجريدة الأستاذ «محمد يوسف» ورسامها للكاريكاتير «رفقى» وجعلت لها مندوبًا فى لندن الأستاذ «محمد نجيب» ولست أذكر عشرات آخرين فى أقسام الترجمة والتحرير والتصحيح وفى الإسكندرية والأقاليم.
ولم تكن الصحافة اليومية قد عرفت قبل ذلك جريدة تحمل هذا السخاء فى الأبواب، وأبواب جديدة تمامًا على الصحافة اليومية كأبواب الأطفال والتسلية ولم تكن الصحف اليومية قد حملت قبل ذلك رسمًا كاريكاتيريًا قط، حتى «الأزهر» كان له باب، وعرفت الصحافة فيها أيضًا التعقبيات الصغيرة الخاطفة التى شاعت الآن، كان يكتبها «كامل الشناوى» و«يوسف حلمى».
وانقطعت مع الأستاذ «زكى طليمات» والمرحوم «رفقى» لرسم خطوط تبويب الجريدة بصفحاتها الستة عشرة، وكان تبويبها فريدًا لم يتكرر بعدها.
وللحكاية بقية