الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

خليل مرسى.. عبقرى وشرير أمران لا يجتمعان




كان الرجل الكبير بين الطلاب الجدد القادم معظمهم من الثانوية العامة هو الاستاذ خليل مرسى كما كان يحرص على أن نناديه رغم كونه طالبا زميلا مثلنا بالمعهد العالى للفنون المسرحية فى أوائل الثمانينيات.
كان بملامحه الرجولية الواضحة ولونه الاسمر وروحه الجنوبية التى أعطتها موهبته وعشقه للفن اختلافا خاصا عن الشخصية الصعيدية التقليدية.. كان قد قرر أن يقطع صلته قبل الأربعين بكل ما يعطل عشقه للفن، ترك العمل بمنظمة «الفاو» بعد سنوات فى روما وحدد نشاط  شركته الخاصة التى كانت تعمل فى أنشطة محدودة للاستيراد والتصدير، واستجمع إرادة تغيير المسار وبقى طالبا نظاميا يدرس  فن المسرح.
وكان نجمه قد بدأ يلمع وهو لا يزال طالبا، ولكنه عندما تخرجنا جميعا بدأ يغضبه أن نناديه بلقب الاستاذ خليل، وكان وهو يدخل النجومية والخمسين من عمره يحرص على مودة خاصة مع زملاء الدراسة كأنه يعيد بها انتاج نفسه، إنه العملاق خليل مرسى صاحب البصمة الخاصة فى فن الأداء التمثيلى.. كل دور قدمه فى المسرح أو السينما أو التليفزيون كان علامة مختلفة.
ولا شك أن خليل مرسى الفنان والصديق هو التجسيد الحى لمقولة الشاعر المسرحى الروسى الاشهر بوشكين عبقرى وشرير أمران لا يجتمعان، فخليل الطيب الجميل الذى كان يتذوق يومه من بداية النهار وحتى ساعات الصباح الأولى بكل عمق، كان المحب للناس وللحياة، وقد سار خليل مرسى فى الاتجاه المعاكس لمعظم جيلنا الذى التحق به والتحقنا بوجوده معنا بجيل أكثر التصاقا بالقيم المصرية الجميلة، جيله هو لأنه كان كلما تقدم فى العمر تقدم فى المحبة والبساطة، خليل كان يلهو مع نور الشريف ومجموعة مركز شباب الجزيرة القادم معظمهم من السيدة زينب، كان محبا للشعر والقراءة وشغوفا بالمغامرة وحريصا على خوض التجارب الإنسانية حتى نهايتها، دفعه حبه للشعر للحصول على درجة الدكتوراه فى فلسفة المسرح عن أعمال صلاح عبدالصبور الشعرية، وانضم متأخرا لهيئة التدريس بجامعة 6 أكتوبر وكان يحرص على محاضرات الجامعة حرص الاستاذ على شرفه المهنى ولم يعتذر عنها أبدا بسبب التمثيل أو السفر.
فقد كانت الجامعة أولوية يرتب بعدها كل أعماله الاخرى، هذا الانضباط والشعور بالمسئولية هو ما جعله عضوا منتخبا لأكثر من دورة بمجلس إدارة نقابة المهن التمثيلية، وكان دوره بارزا فى التصدى لمحاولات البعض من الفنانين للحديث باسم الفن ضد 25 يناير فى بداياتها بل واشترك فى كتابة وإلقاء البيان الذى أعلنته النقابة آنذاك عن استقالة مجلسها وإعلان انحيازها لثورة الشعب المصرى، وقت  أن كان هذا الامر خطرا ومغامرة غير محسوبة، وكذلك حرص على المشاركة فى معظم فعاليات ما قبل 30 يونيو دعما للدولة الحديثة والمجتمع المدنى.
وخليل مرسى فنان صاحب حضور خاص يبدو لى وكأنه يأتى من سياق الفنانين الكبار فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين فى مصر، هؤلاء الذين لم ينفرد أحدهم ببطولة مطلقة ولكنهم ظلوا جميعهم نجوما لامعة.. يحبهم الناس فى مصر والوطن العربى.. أدواره المتنوعة خاصة تلك الشريرة يمكن تأملها من غريم نور الشريف الحاقد عليه فى «لن أعيش فى جلباب أبى» إلى الشيخ المراغى، أما حضوره الخاص فى المسرح قد كان بارزا على سبيل المثال لا الحصر دور المملوك فى «أهلا يا بكوات» للمخرج عصام السيد ودور حارس مملكة الموت فى إكليل الغار للمخرج شادى سرور والذى حصل عليه عن الجائزة الأولى للمهرجان القومى للمسرح فى دورته الأولى، إنه الحضور القوى للممثل المتمكن صاحب الطاقة الإبداعية الداخلية التى تسيطر على وجدان وحواس المتلقى، ولعل أبر دليل على ذلك دوره الذى لم يتجاوز بعض المشاهد فى فيلم أقوى الرجال لنور الشريف الذى ظن الناس وهو الرجل الطيب بأنه هو الوحش المجرم الخطير، وعندها حضر الوحش الحقيقى خليل مرسى لمشاهدة المزيف.. كان مشهد السخرية المخيفة ثم المواجهة بينهما بملامحه الحادة وعينيه شديدة التعبير تؤكد أن قيمة الممثل الذى لا ينساه أحد يمكن أن تحدث ولو بمشهد واحد فى فيلم له قيمته.
رحل الرجل الكبير الفنان والإنسان وافتقد الفن المصرى موهبة واضحة وممثلا صاحب بصمة أصيلة، وافتقد أهل الفن فى مصر صوتا أصيلا كنا نسمعه ونثمن مواقفه لإصلاح ما لا يستقيم فى مسارات الزملاء والاصدقاء على الصعيد الشخصى والمهنى معا، وهو الدور الذى ظل يقوم به حتى عندما ابتعد عن عضوية مجلس نقابة المهن التمثيلية أسكنه الله فسح جناته ورحمه رحمة واسعة أما الملاحظة المهمة بمناسبة خليل مرسى فهى بلا شك لا يمكن أن تعبر دون أن تذكرنا بغياب  مؤسسات رصد المواهب المهمة فى مصر، بداية من مكاتب شئون الممثلين إلى مؤسسات صناعة النجم وغياب فكرة استثمار المواهب الكبرى، وهى ثروة بشرية ثمينة رحل عنا مؤخرا منها المخرج المسرحى القدير جلال توفيق والفنان الكبير سعيد صالح والنجم المهم خليل مرسى وثلاثتهم كان يمكن استثمار إبداعهم بشكل أكثر أهمية بالنسبة لهم وللمجتمع المصرى.