الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

ما معنى «الحرام» عند المصريين؟!




ما أكثر ما كان لفظ «الحرام» يتردد على لسان والدتى أكثر بلا شك مما كان يرد على لسان أبى أو أحد من إخوتى.. لم يكن السبب أن أمى كانت أكثرنا تديناً.. بل كانت أرقنا قلباً.. لم تكن أمى تذكر «الحرام» كوصف لشرب الخمر.. إذ لا أظن أنها رأت الخمر فى بيتنا قط.. ولا لوصف التمثال الصغير الذى كنت أضعه على مكتبى.. إذ لم يخطر بذهنها قط أننى سأقوم بعبادته.. ولا بالطبع لوصف عزف الموسيقى أو الغناء الذى كانت تحبه، ولو كان يتضمن كلمات الحب والعشق، طالما كان اللحن جميلاً».
هذه الفقرة هى استهلال مقال للدكتور «جلال أمين» المفكر المصرى الكبير وأستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة والفائز بجائزة «سلطان العويس» فى مجال الدراسات الإنسانية والمستقبلية عام «2009».. والمقال منشور بكتابه الجديد.. «محنة الدنيا والدين» بمصر ضمن «26» مقالاً آخرين.
يصل الدكتور «جلال أمين» فى إجابته عن السؤال إلى أن القسوة هى التى تمثل معنى «الحرام» عند المصريين.. ويدلل على ذلك بأن السبب الحقيقى لدأب الأجانب على التعبير عن حبهم للشعب المصرى والإقامة فى مصر كراهية القسوة والاشمئزاز ممن يمارسها.
ونلاحظ ذلك فى تعليقات المصريين على ما يرونه من مناظر وما يمرون به من أحداث.. وهم كما يشمئزون من القسوة يستغربونها كلما رأوها.. إذ لا تبدو لهم مشاعر القسوة مشاعر طبيعية بالمرة بل إنه يذهب إلى حد الربط بين كراهية المصريين للقسوة وبين ما اشتهروا به من خفة الظل وتقدير النكتة الجميلة.. فالشخص القاسى ليس فقط غليظ القلب بل هو أيضاً ثقيل الظل ولا عجب إذ أن يستخدم المصريون بكثرة لفظ «الحرام» أى الشىء الممنوع دينياً ويغضب الله فى وصف القسوة.
والحقيقة أن تلك الجزئية الخاصة بالنكتة تستحق المناقشة من زاوية أخرى، فالشعب المصرى خاصة فيما يتصل بالنكتة السياسية أو النكتة الجنسية.. يستخدم النكات الحادة بل والجارحة التى يمكن أن نطلق عليها صفة «القسوة» ليصبح مميزاً أيضاً بالنكتة القاسية ــ إذا جاز التعبير ــ وهى نكات جمع الكثير منها «عادل حمودة» فى كتابه عن سخرية المصريين من حكامهم، «وهى قسوة تتجاوز مجرد كونها نكتاً طريفة جميلة تدعو إلى المرح والبهجة وتعكس خفة ظل قائلها ولطفه.. بل إنها كثيراً ما تدمى وتوجع وتمثل ثورة جامحة على الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية».
وتاريخ النكتة المصرية يشهد على عمق كراهية المصريين للاستعمار بجميع أشكاله على مر التاريخ من خلال النكتة القاسية.. منها مثلاً اختراع رجل يدعى «كاكا» وسيلة جارحة للقذف والسخرية من «نابليون» بوضع تمثال كبير من الجبس على هيئة عضو ذكرى ضخم يربطه حول وسطه.. ويقف فوق «كارو» ويهزه فى استهزاء وازدراء «لنابليون» بعبارات تشى بضعفه الجنسى.
ذلك بالإضافة إلى دأب المصريين على السخرية من السلطة وشخصيات الرؤساء ومنهم «عبد الناصر» و«السادات» و«حسنى مبارك».. ومن هزيمة «67».. تلك السخرية الجارحة للعسكر.. والتى ناشد بسببها جمال عبد الناصر «المواطنين بلفظها وعدم تداولها لخطورتها وآثارها السيئة».
ويعود «د.جلال أمين» لطرح السؤال من خلال معاودة التأكيد على وسطية الشعب المصرى واعتداله الذى يعتبر أنسب وصف للشخصية المصرية.. وأفضل منه أن نقول ــ من وجهة نظرهن أن كراهية القسوة هى بلا شك من أجمل الصفات طراً.. ومن حق المصريين أن يفاخروا بها، ويقول «أنى أميل إلى اعتبار توافر هذه الصفة أو عدم توافرها معياراً أفضل بكثير من أى معيار آخر قد يخطر بالذهن لتحضر أى شعب أو عدم تحضره.. وعندما يأتى الوقت الذى نكتشف فيه تفاهة التقدم التكنولوجى بالمقارنة بهذه الخصلة الرائعة لا بد أننا سنعيد تصنيف الأمم فى مضمار التحضر والترقى والتقدم.
ثم يؤكد أنه إذا كان هذا التفكير صائباً فكيف إذن نفسر القسوة الزائدة التى رأيناها فى تصرفات أعداد كبيرة من المصريين سواء فى أحداث «ماسبيرو» أو شارع «محمد محمود» بعد شهور قليلة من قيام الثورة أو أمام قصر الحكومة الاتحادية فى «مصر الجديدة».. ثم مدينة الإنتاج الإعلامى بل وفى بعض التصريحات التى صدرت من بعض زعماء الإخوان المسلمين والسلفيين فى وصف خصومهم من العلمانيين.. أو الليبراليين؟! «والمقال واضح أنه كتب قبل أحداث العنف المرعبة فى كرداسة وفى حرق مديرية أمن المنصورة».
هل هو تطور مخيف طرأ على الشخصية المصرية فى السنين الأخيرة أو فى أعقاب ثورة يناير ما يشى بأشياء مخيفة أخرى فى المستقبل؟!
يميل «جلال أمين» إلى الاعتقاد بأن تفسير مظاهر القسوة غير المألوفة فى سلوك المصريين بعضهم إزاء بعض سواء كانوا من دين مختلف أو من نفس الدين.. شرائح اجتماعية زاد عددها وانما تأثرها خلال الأربعين عاماً الماضية.. وعلى الأخص خلال فترة حكم «حسنى مبارك» بمتاعبها الاقتصادية واستفحال الازدواجية والفوارق بين الطبقات مع انتشار تعليم ردىء وإعلام أكثر رداءة إنضم للتعليم الردىء فى إفساد العقول وزيادة نار الازدواجية اشتعالاً.. هذا التفسير بالطبع إذا أضفنا إليه تفشى الفقر.. ودعاوى التفكير واستفحال الخرافة والدجل الدينى والغيبيات.. وافتقاد المشروع القومى الذى يلتف حوله المصريون.. وفقدان الأمل فى تحقيق العدالة الاجتماعية.. تكتمل الصورة.
لكنى لا أفهم سبباً لأن تكون كلمة القسوة هى الاستخدام الأمثل لتلك القضية التى يطرحها «د.جلال أمين».. ولماذا منعاً للالتباس الذى يجعلنا نصل إلى التعميم الواسع نتيجة عدم دقة المصطلح من وجهة نظرى لا يستخدم كلمة «العنف» أو الإرهاب الدينى.
ذلك لأن ما حدث فى «30 يونيو» الماضى من خروج أكثر من نصف المجتمع فى الشوارع والميادين لتفجير ثورة عظيمة عن طريق مظاهرات سلمية ضد الإخوان الذين فى النهاية يمثلون الأقلية الإرهابية.. بينما تمثل الجماهير المحتشدة الأغلبية التى تنبذ «العنف» و«الإرهاب».. أو «القسوة» كما يسميها د.«جلال أمين».