الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الفوضى الليبية والمستقبل الغامض




ترجمة - وسام النحراوى


كان لتحول الثورة الليبية من النمط السلمى إلى المسلح، أثر كبير على عملية بناء ليبيا ما بعد الثورة، من حيث انتشار السلاح بشكل كثيف فى أيدى الجميع، الأمر الذى من شأنه أن يهدد كيان أى دولة.
فبعد سقوط نظام العقيد معمر القذافى ظهرت جماعات مسلحة تحمل فكرا «جهاديا» ينطلق من خلفيات أيديولوجية متنوعة ما بين السلفى والإخوانى والقاعدى وغيرها. شاركت غالبية هذه الجماعات فى الثورة، كأفراد أو تنظيمات، ولكن بعد الثورة اتخذت مسارات مختلفة.
ففى الوقت الذى انضم بعضها تحت لواء رئاسة الأركان العامة، التى تمثل نواة الجيش الليبى الجديد، وشارك فى الانتخابات البرلمانية، أنكر البعض الآخر العملية الديمقراطية برمتها، وقاطع الانتخابات وظل حاملا للسلاح.
وفى يوليو الماضى امتدت معارك الميليشيات فى ليبيا إلى العاصمة طرابلس بعد أن كانت محصورة بشكل رئيسى فى بنغازى، كما أفادت «بعثة الأمم المتحدة للدعم فى ليبيا» عن تعرض المدنيين فى طرابلس وبنغازى للاعتداءات و«الجرائم الجماعية»، فيما أطلقت دولتان مجاورتان تملكان جيشًا قويًا، هما مصر والجزائر، نداء شفهيا دعتا فيه إلى تدخل القوى الغربية أو حتى تدخلهما كدولتى جوار متضررتين.
هذا الزخم حول الوضع المتدهور فى ليبيا كان محور بحث وتحليل«أندرو إينجل» باحث سياسى فى معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط، والذى أكد فى دراسة له أن الانهيار الأمنى فى ليبيا أدى إلى حدوث موجة نزوح جماعى من ليبيا، فقد فر نحو 50 ألف مصرى فيما هرب أكثر من 25 ألف ليبى إلى تونس، التى استقبلت أكثر من مليون لاجئ ليبى منذ اندلاع الثورة، إضافة إلى 60000 من مواطنيها، لكن فى المرة الأخيرة وقعت اشتباكات وتدافعات عند معبر «رأس جدير»، مما اضطر السلطات التونسية إلى إغلاق حدودها فى الأول من أغسطس الماضى.
أضف إلى ذلك، سعى عدة دول إلى إخراج رعاياها من ليبيا، من بينها الصين التى أجلت 700 مواطن صينى. وتأمل الفلبين فى إجلاء 13 ألف مواطن فلبينى، الذين يشكلون نحو 60٪ من عمال المستشفيات فى ليبيا، مما ينذر بعبء كبير على نظام العناية الصحية فى البلاد. بينما أعلنت الجزائر أنها سترحل اللاجئين الليبيين لديها عبر تونس.
وترافق ذلك مع قيام بعض الدول الرئيسية، من بينها الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وهولندا واليابان وبريطانيا، بإغلاق سفاراتها فى العاصمة مما زاد من عزلة طرابلس عن الفاعلين الدوليين. كما أن موظفى الأمم المتحدة غادروا البلاد أيضًا.
يأتى ذلك تزامنا مع تصاعد أعمال العنف فى طرابلس، حيث قامت الميليشيات الإسلامية بالوقوف إلى جانب حلفائها الإقليميين ضد القوات الزنتانية الوطنية وحلفائها وسيطرت على مطار طرابلس والمنطقة المحيطة به، وقتل نتيجة هذه الاشتباكات أكثر من مائة شخص فى حين تم قصف مستودعات وقود ضخمة مرتين وإضرام النيران فيها، مما أثار مخاوف من حدوث أزمة إنسانية وبيئية.. ومع إصرار قوات مصراتة على استمرار القتال فى طرابلس، عم اليأس جميع أنحاء البلدة، فقد فرغت المتاجر من بضائعها، وشحت إمدادات الوقود، ناهيك عن انقطاع المياه والكهرباء عن السكان لساعات طويلة. ومن غير المرجح أيضًا أن يعود التلاميذ إلى مدارسهم فى سبتمبر.
أما فى بنغازى، المدينة التى مزقتها الصراعات - بين القوى الوطنية والإسلامية - بدرجات متفاوتة من التطرف. فقوات اللواء خليفة حفتر الذى يقود «عملية الكرامة»، التى تدعى أنها تضم جيش الدولة الشرعى الوحيد وتحظى بدعم من الاتحاديين والعشائر الشرقية الكبيرة، تتكبد الخسائر على أيدى «أنصار الشريعة» - التنظيم المصنف على لائحة الولايات المتحدة للإرهاب - وحلفائه الإسلاميين.
ونقلت الدراسة عن وزير الخارجية الليبى محمد عبد العزيز ادعاءه أنه يملك أدلة على أن المقاتلين الليبيين والأجانب يأتون إلى بنغازى من ساحات المعارك الأخرى كسوريا والعراق من أجل مساندة «أنصار الشريعة» و«مجلس شورى ثوار بنغازى».
وفى 29 يوليو الماضى، وردت تقارير عن اجتياح ألف مقاتل من تنظيم «أنصار الشريعة» وحلفائه لمقر «الكتيبة 36» التابعة للقوات الخاصة الليبية المعروفة بـ«الصاعقة»، حيث استولى المقاتلون الإسلاميون على معدات وذخائر عسكرية وأرغموا القوات الخاصة على الانسحاب التكتيكى إلى ضواحى المدينة. واحتفالا بهذا الانتصار أعلن زعيم «أنصار الشريعة» محمد الزهاوى أن بنغازى أصبحت إمارة إسلامية، وبالطبع كان هذا إعلانا سابقا لأوانه ولكنه مع ذلك مثير للقلق.
ومع استمرار القتال فى طرابلس وإحكام المتشددين الإسلاميين سيطرتهم على بنغازى، يزداد الحديث حول التدخل الأجنبى لإنقاذ الموقف وتفادى تحول ليبيا إلى صومال جديدة.
وبالتالى طالب وزير الخارجية الليبى محمد عبد العزيز، تفاديًا لتفكك الدولة، توسيع بعثة الأمم المتحدة للدعم فى ليبيا، فضلا عن طلبه زيادة المعونة المقدمة من واشنطن من أجل مواجهة التطرف وبناء مؤسسات الدولة.
من جانبها لفتت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية مارى هارف إلى أن التحديات فى ليبيا سياسية فى جوهرها وتتطلب حلا عبر الحوار. وفى 4 أغسطس، أصدرت فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة تصريحا مشتركا دعت فيه إلى وقف إطلاق النار على الفور واللجوء إلى الحوار السياسى السلمى. وخلال الخطاب الذى ألقاه مع رئيس الحكومة الليبية عبدالله الثنى، أضاف وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى أنه «لا يمكن حل التحديات فى ليبيا إلا من قبل الليبيين أنفسهم».
وأكدت الدراسة أن الحوار السياسى بوسعه أن يوقف ظاهريا القتال فى شمال غرب ليبيا حيث سبق للفصائل المختلفة أن أيدت العملية السياسية بالكلام فقط. كما أن الجهود الدولية المنسقة للتوسط لوقف إطلاق النار من خلال «بعثة الأمم المتحدة للدعم فى ليبيا» و «مجلس النواب» قد تسهم فى تعزيز فعالية وشرعية هذا الأخير. ولتحقيق هذه الغاية، جاءت خطوة مشجعة من قبل الأمم المتحدة أكدت فيها أنها لن تعترف بأى طرف يقاطع «مجلس النواب».
وبالتالى تركزت الاهتمامات نحو «مجلس النواب» الليبى المنتخب حديثا، وهو المعلم المتبقى من آثار الدولة الذى قد يثبت قدرته على تخفيف حدة العنف حتى ولو جزئيا. ففى الثانى من أغسطس، أى قبل يومين من انعقاد جلسته الرسمية، شارك 158عضوًا من أصل 188 من أعضاء المجلس فى اجتماع طارئ عقد فى طبرق - ثامن أكبر مدينة فى ليبيا واقعة إلى أقصى الشرق، فى إشارة إلى مدى انتشار عدم الاستقرار فى المراكز السكانية الكبرى فى البلاد.
وفى حين كان الهدف من الاجتماع الطارئ هو «توحيد الأمة»، سرعان ما ظهرت الانقسامات. فقد استهزأ رئيس «المؤتمر الوطنى العام» المنتهية ولايته نورى أبو سهمين بالجلسة واعتبرها غير شرعية، مصرا على إقامة مراسم تسليم المسئولية فى طرابلس. وعمد الممثلون الثلاثون الغائبون عن الاجتماع - ومعظمهم إسلاميون متحالفون مع جماعة «الإخوان المسلمين» فى مصراتة - إلى مقاطعة الجلسة أو التخلف عن الحضور.
لكن يبدو أن «مجلس النواب» سيجمع بين 60 قوميًا و28 اتحاديًا و30 إسلاميًا مع الأعضاء الباقين الذين هم من المستقلين. ومن الواضح أن التوجه الإسلامى لم يحقق فى هذه الجولة النجاح الذى حصل عليه فى انتخابات «المؤتمر الوطنى العام» عام 2013.
من الممكن أن تشير مقاطعة الإسلاميين للجلسة إلى صعوبة تشكيل حكومة وحدة وطنية، ولكن نظرًا لتضاؤل عدد المعارضين الإسلاميين فى «مجلس النواب» عما كان عليه فى «المؤتمر الوطنى العام»، قد لا تكون هذه النتيجة مستحيلة. فمثل هذه الحكومة ستمنح شرعية أكبر لـ«لجنة صياغة الدستور»، الهيئة الليبية الأخرى التى تشكلت بانتخابات مباشرة، التى من المنتظر أن تضع أول دستور للبلاد منذ أكثر من أربعة عقود.
غير أن الحوار السياسى لن ينجح وحده فى حل النزاع القائم فى بنغازى ودرنة - التى وقعت منذ وقت طويل فى أيدى الجماعات المتطرفة الغامضة - ومناطق فى شمال شرق ليبيا حيث التحديات أمنية بالدرجة الأولى.
فالتنظيمات أمثال «أنصار الشريعة» لا تكتفى برفض الديمقراطية والحوار رفضا قاطعا، بل تشن أيضا حملة حرب غير نظامية ضد العملية الانتقالية التى أعقبت الثورة.
فيما ذكرت صحيفة «فورين بوليسى» الأمريكية أن الولايات المتحدة يجب أن تستفيد من اتصالاتها باللواء حفتر من أجل التوصل إلى اتفاق مرض بين «حفتر» مع «مجلس النواب» والحكومة الجديدة التى ستنبثق عنه، يعقبها تقديم واشنطن مساعدة أمنية أكبر تتماشى مع ما يسعى إليه الوزير عبد العزيز لمحاربة تنظيم «أنصار الشريعة» وحلفائه.
ولن تفعل واشنطن ذلك من أجل عيون أمن المنطقة، ولكن تنص استراتيجية الأمن القومى للولايات المتحدة بأن أمريكا مهددة اليوم بالدول المفككة أكثر من الدول الغازية، ولولا «مجلس النواب» الليبى المنتخب حديثا لكانت ليبيا أبرز مرشح لتصنف كدولة منهارة. وعند اعتبار ليبيا دولة على شفير الانهيار، سيدرك المسئولون وقتها حاجتهم الملحة إلى الحلول السياسية والأمنية على حد سواء.
وفى ظل هذه التحديات التى تواجه الحكومة الليبية، يتحتم عليها الخروج من ذلك المأزق والعمل على إعادة بناء ليبيا جديدة تجمع كل الأطراف، عبر السيناريوهات التالية:
1- نزع السلاح من الجماعات المتشددة وتقوية المؤسسة الأمنية من أجل فرض القانون على الجميع، ودمج الجماعات المتشددة فى العملية السياسية، أى الاعتماد على منطق المشاركة وليس الإقصاء.
2-استخدام النفط الليبى كسلاح لمقاومة التشدد من خلال إعادة توزيع عوائد النفط مرة أخرى بما يكفل تحقيق المساواة والعدالة بين أفراد المجتمع، وبما يرضى جميع الجهات الجغرافية والقبلية.
3- بناء جيش قوى، وهذا هو الأهم بالنسبة لمستقبل الدولة الليبية الوليدة. فبعدما ترك القذافى ليبيا بدون جيش يحميها، حتى تطورت الأمور على ما هى عليه الآن من صراعات ونزاعات على السلطة والثروة.
4- التعليم، المطلب الأكثر أهمية للشباب الذين خرجوا فى السابع عشر من فبراير، وربما كان هدفا أكثر إلحاحا من إسقاط النظام ذاته.
5-الاتفاق بين القوى السياسية على شكل الدولة مما يسهم فى تهدئة الشارع الليبى، فهناك خلاف فى رؤية الدولة الليبية ما بين التيارات الأيديولوجية وخاصة الإسلامية المتشددة منها.
6-التنسيق مع دول الجوار لتضييق الخناق على تلك الجماعات عن طريق عقد اتفاقيات على رفع التبادل الاقتصادى والتنسيق الأمنى، من أجل تأمين الحدود ومقاومة التسلح.
7- التنسيق مع الدول الكبرى خاصة مع دول حلف الناتو من أجل مساعدة ليبيا على تشكيل المؤسسات الأمنية، ومساعدتها فى عملية التحول الديمقراطى، فضلا عن مواجهة أى خطر لوصول متشددين إلى الحكم، وذلك فى مقابل المزايا التى ستحصل عليها تلك الدول من ليبيا مثل اقتسام كعكة النفط..  وفى ظل تنامى خطر الجماعات المسلحة فى ليبيا وارتباطها بالقاعدة، فإن مستقبل الدولة الليبية بات غامضا، وبالتالى فمستقبل ليبيا أمام ثلاثة سيناريوهات:
- السيناريو الأول: ويتمثل فى تحقيق التحول الديمقراطى المنشود والعمل على إعادة بناء الدولة الليبية، وهذا السيناريو صعب إلا أنه ليس مستحيلا، وذلك من خلال عمل الحكومة الحالية على دعم نظام التعددية الحزبية وإجراء انتخابات حرة ونزيهة تشارك فيها كل القوى السياسية على قدم المساواة، وهو ما يقود إلى حكومة ديمقراطية واستقرار داخلى.
- السيناريو الثانى: إقامة نظام فيدرالى على غرار التجربة اليمنية، وقد ظهرت هذه الفكرة بالفعل فى إقليم برقة. وما يزيد من خطورة هذا التوجه هو أن هناك جماعات مسلحة تدعمه. وتزداد خطورة هذا التصور نتيجة لتطبيقه فى عدد من الدول العربية مثل الإمارات العربية المتحدة والعراق وأخيرا اليمن، حيث إن دعاة الفيدرالية فى ليبيا يحتذون النموذج الإماراتى والذى كان من وجهة نظرهم سببا فى تقدم الدولة وتحقيق ازدهارها.
- السيناريو الثالث: تقسيم ليبيا إلى مناطق شرقية وغربية نتيجة تواصل القتال دون وجود ضربة حاسمة لصالح أى من الأطراف، وهو ما يهدد بتكرار نموذج العراق أو الصومال أو أفغانستان.