الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

هو والخمسين




كتب : د. حسام عطا

كان قد بدأ يدخل للخمسين من عمره، فى مجتمع لا يزال ينظر لجيله فى الخمسين على أنهم أولاد وبنات صغار، وللخمسين عندما تأتى تأثير خاص من الحزن ربما لإدراك أن العقد القادم من العمر هو المعبر للتقاعد الرسمي، ولأنه أنفق من سنوات العمر الكثير من أجل أفكار عامة، ولأنه كان يلمع من حين لآخر بدوائر الفن والثقافة المصرية حيث كان كل نجاح مهنى أو فنى خلال الثلاثين سنة الماضية يفسره الآخرون على أنه دعم من أجهزة الأمن، وهو فى حقيقة الأمر كان محاصرًا منها.
وكانت تحسبه من الممنوعين من وهج النجومية أو فرص العمل بالمناصب العليا لتمتعه بمسافة خاصة نفسية ومادية بين أحلام ذاته والمكاسب الخاصة، كان يرضيه الحصول على الاعتراف والإعجاب دون الحصول على المقابل المادى الحقيقى كان مستمتعًا بما يوفره له عمله الرسمى من دخل يجعله فى وضع لا بأس به جاءت ثورة 25 يناير قبل دخوله الخمسين بسنوات ثلاث، منحته جنونًا جعله يخرج من كل آلامه ويتداوى من كل مشاعر الفقد والنكران، ولذلك نسى كل ما تعرض له من خيانات صغيرة من بشر ظن أنهم يستحقون المحبة فمنحوه قسوة وضيعة ذات طابع عدمي، كانت كرامته وقوته ورجولته وقدرته الفعلية على الانتقام الشخصى السهل وثقته فى نفسه سببًا لقدرته على أن يعلو فوق مشاعر الانتقام الصغير، وخرج بكبرياء الرجل الذى مكنه من نسيان أسماء مدن وشوارع وبيوت وأشخاص لا يستحقون إلا الاحتقار.
لكنه وبعد ثورة 25 يناير ثم استعادتها فى 30 يونيو وخلال فعل المقاومة اليومية العام فى مصر، كان متوهجًا قويًا يشعر بأن كل اختياراته لم تضع فى الهواء وأن ما انحاز إليه وسعى نحوه لم يكن أمرًا خياليًا أو مثاليًا.
تذكر مرة من مرات دوامات الاكتئاب المتعددة التى سقط فيها دون أن يشعر وانتصر عليها جميعها أنه ومع الخمسين لا يملك ترف الحزن والشجن وتذكر ما قالته صديقته الباحثة فى علم النفس إنه يعانى من إخلاص حاد للأفكار الكبرى والقضايا المهنية والعامة دفعه للإفراط فى تعلم تقنيات المناهج النقدية الحديثة فى مجتمع يكاد ألا يعترف بمهنة النقد التخصصي، وأنه عليه أن يوازن بين الاختيارات المهنية العامة، وبين ضروريات حياته الشخصية.. ونصحته بأن يهتم بتفاصيل حسية ملموسة وأهداف صغيرة محددة مثل أن ينام فى بيت مريح .. أن يفكر فى طعام صحى.. أن يخطط للحصول على سيارة جميلة أن يفكر للسفر للعمل بواحدة من الجامعات خارج مصر للحصول على أموال ذات معنى، وغيرها من الاقتراحات.
لكن شيئًا فى روحه كان يدفعه للشعور بأنه لا شىء أهم من ارتباطه بالأفكار والاهتمامات العامة وأن حبه ليومه وتمتعه به على طريقته الخاصة هو مكسبه الحقيقى.. انحيازه للجمال فى إنتاج الفن.. مودته مع الناس.. الإخلاص لما يعتقد.. أن يبقى عاشقًا متصوفًا مع طلابه فى الدرس .. لكن عددًا من القادرين على البقاء قافزين على مقاعد الإدارة العليا وشاشات التليفزيون وصفحات المجلات والصحف وثرثرة الندوات وضجة المهرجانات، أصابوه برغبة فى البحث عن المكاسب الخاصة لأنه اكتشف من زاوية أخرى أن عدم التناسق الهيكلى بين دوره المهنى واسمه المعروف وإنجازه الفنى والثقافى وبين ما يملك من نقود وبيت وغيره هو أكبر إضرار بالأفكار التى انتمى إليها .. لقد كان يحلم مع جيله بتغيير العالم بالإبداع والكتابة، ولكن ما أروع أن يغير الإنسان عالمه الصغير أيضًا كى ينجح فى تغيير العالم للأجمل.
تذكر كل ذلك وهو يلون جدران بيته الجديد بيديه، وأدرك أن جيله يشبهه فى كل التخصصات المتنوعة.. تذكر معركة بناء مصر القادمة ولذلك ظل يتأمل ما فعله الرئيس المنتخب عبد الفتاح السيسى بأن جعل مشروع قناة السويس الجديدة لسنة واحدة على أن نرى الحلم حقيقة، إنه نوع من المشروعات الكبيرة سريعة العائد.
وتذكر أن مصر على المستوى السياسى عليها أن تدرك أن ملايين المصريين يجب أن يعملوا ليحصلوا على مكاسب قريبة خاصة ملموسة، تمكنهم من التوازن مع مطالبهم المشروعة التى أصبحت الآن قابلة للتحقق، وتأخر تلك المكاسب البسيطة والقريبة هى الثغرة التى سوف ينفذ منها الكارهون لمشروع إعادة اصطفاف المصريين فى انسجام وتوافق لاستعادة مصر العظيمة الحضارية لن يصنع المصريون الأحلام الكبرى القومية دون إعادة إنتاج التوازن بين مكاسبهم القريبة وبين أحلام المستقبل، لأن الوطنية المتفجرة فى غضب الثورة هى لحظات فارقة يقف الغضب خلفها أما العمل المنتظم فلا بديل لحدوثه إلا بالكرامة الإنسانية والحد المحترم للتعامل مع تفاصيل الحياة اليومية.
ولهذا أتذكره وهو ليس نادمًا على ارتباطه بالأفكار الكبرى، وهو يحقق مكاسبه الصغيرة متأخرًا لكنه كان ولا يزال فخورًا بأنه عبر للخمسين كريمًا دون مرور بفساد أو بنفاق، كان حقيقيًا وكان وقال وفعل ما اعتقده صحيحًا وكان يملك المقدرة على الاستغناء عندما يصبح ذلك الاستغناء هو المعبر للكرامة وللانسجام النفسى، وإن تأخرت مكاسبه الصغيرة المحسوسة، وتذكر الملايين من المصريين أمثاله المتأخرة مكاسبهم الصغيرة المحسوسة.
هؤلاء الذين يحلمون بالمستقبل واثقًا أن الفكرة والخط واللون والكلمة وأحلام تغيير العالم ضرورة ودور أهل الفن والثقافة التأكيد على نشرها كأحلام ملونة لعقول الأجيال القادمة، وللبسطاء فى مصر .. حتى لا تنسى الدولة المصرية والمجتمع المدنى تأجيل مكاسبهم الصغيرة لأنه وهو يتأمل درس الخمسين الذى تعلمه من ألم التجربة يود أن يذكر الجميع به: أنه لا أحلام كبيرة بدون مكاسب صغيرة قريبة متاحة تمكن الإنسان من الاستمرار فى الاعتقاد بقدرة الفكرة على تغيير العالم وصناعة المستقبل البعيد.