الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

شهوة إصلاح العالم




كتب : حسام عطا

إن نشأة مصر الحديثة على يد محمد على هو أمر يمكن تحديده بشكل أدق ليصبح نشأة الدولة الحديثة، حيث كان كل مشروع كبير للتحديث فى مصر هو مشروع تطلقه الدولة لا المجتمع المدنى، وهو الشرط الحاكم لكل مشروع تحديثى قومى لأن المجتمع المدنى فى مصر يحل مشكلاته بمشروعات غير حداثية مثل وسائل الانتقال العشوائية، واقتصاد سرى كبير بعيد تماماً عن أعين الدولة والبنوك ومؤسسات علاجية وتعليمية واقتصادية ذات طابع دينى، تصنع الولاء الضيق لجماعة ما دون المجتمع ككل، ناهيك عن تكتلات العمل القبلى مثل العائلات الكبرى ومتاجرها، أو أبناء المدن الإقليمية فى العاصمة وتشاركيتهم غير التعاقدية التى توفر لهم فرص العمل والزواج والسكن والشعور بالأمن.
ونظراً لغياب قيم الطبقة المتوسطة عن التأثير المجتمعى العام بل غياب أخلاقها عنها هى نفسها، إذ يظهر المتوسطون بكثرة فى الوظائف والمهن الحرة وفى امتلاك البيوت والسيارات وعلب التصييف فى الساحل الشمالى وما إلى ذلك من مظاهر الطبقة المتوسطة، مع غياب لأداء الحفاظ على قيم الحداثة مثل غياب شبه تام للإيمان بالحرية الشخصية، فكرة التطوع لخدمة المجتمع المحيط فى أبسط صورها مثل الحرص على نظافة الشارع وجمال واجهات المحلات والبيوت، مما يجعل الطبقة المتوسطة حاضرة اقتصاديا غائبة عن سلم قيمها المنتظم الذى كان مستقرًا منذ العشرينيات حتى منتصف السبعينيات فى القرن العشرين فى مصر.
ولا شك أن ما بقى منها كان هو المقدمة والطليعة التى ألهمت ثورة 25 يناير المجيدة مطالبها الأساسية، ونجحت فى التواصل مع مطالب المصريين ككل، مما أدى لاصطفاف المصريين صفاً واحداً فى ميدان التحرير بكل ألوانهم الطبقية والدينية والمهنية والسياسية، ولكنها تعود لتختفى وتصمت وتنتظر من الدولة كل شيء، فمبادرات المجتمع المدنى البسيطة لدعم صندوق «تحيا مصر» على سبيل المثال تسعى معظمها لطلب رعاية الحكومة، أما الخطاب الإعلامى والمجتمعى فأكثره يتم توجيهه للدولة، ولعل أهم مطلب من مطالب التغيير فى مصر ما بعد 25 يناير و30 يونيو لا يزال صعباً إذ إن سعينا نحو دولة ديمقراطية حديثة لن يتم إلا بجناحين الأول الدولة بالطبع والثانى وهو الأكثر أهمية وغياباً المجتمع المدنى الذى عليه أن يفرق بين المشروعات القومية الكبرى ودخول مصر مرحلة الدولة الحديثة بالمعنى المعاصر، وهو أمر يستلزم اكتساب مهارات وسلوكيات تعزز ثقافة المواطنة التى تؤمن بالحريات الشخصية، حتى لا تتناقض مع نفسها وهى تطالب الدولة بالحريات السياسية بينما يمارس بعض أفراد المجتمع مراقبة حمقاء صارمة على بعضهم البعض تنكر الحريات الفردية.
ولذلك فالدولة المصرية الحديثة كما تحتاج لاصلاح إدارى فى دوائرها الرسمية فهى تحتاج أيضا لإصلاح فى أداء الطبقة المتوسطة المصرية لاستعادة دورها ليصبح المواطن هنا هو القادر على طرح المشروعات المتعددة التى تحتاج لمشروع مجتمعى عام يؤمن بقيم الحداثة ويساهم فى إنتاج العلم والمعرفة والغذاء وفائض المال والوقت الذى يسمح بجودة ممتعة للحياة اليومية وتفكير جاد فى التغيير للأفضل، لأن المواطن الفرد فى مجتمع حديث عليه أن يجد المشروعات والأحلام المتعددة، بل عليه أن يساهم فى بناء المؤسسات الاجتماعية الخاصة القادرة على صناعة المشروعات الحديثة جنبا إلى جنب مع الدولة، ولعل ومنذ السبعينيات يأتى تراجع مؤسسات الصناعة الخاصة عن الصناعات المفيدة وتركز انتاجها للعمليات الاستهلاكية، ورفع يد الدولة عن إنتاج العلم والاعتماد على استيراد التكنولوجيا، ورفع يدها أيضاً عن دعم الأنشطة الثقافية والفنية والاجتماعية الجميلة، مما تركها لاقتصاد السوق الذى دعم إنتاج الفنون السوقية فى معظم الأحوال، مما كشف غياب المجتمع المدنى عن فكرة الحفاظ على مشروع مصر الحداثى والسعى نحو مكاسب صغيرة خاصة ساهمت فى هزيمة التعليم، والصناعة الوطنية، والثقافة الجادة، أما الفرصة الذهبية المتاحة الآن فهى ضرورة استنهاض المجتمع المدنى لطاقاته الهائلة التى ظهرت جلية من 25 يناير الى 30 يونيو فى مشروعات متنوعة لدخول مصر لمرحلة من التحديث المعاصر، لا نتمناه للدولة فقط بل لفكرة المواطنة صانعة المجتمع المدنى الحديث أيضاً، حتى نتخلص من هذا الانفصام التاريخى بين مشروع الدولة ومشروع المجتمع المدنى منذ نشأة مصر الحديثة وحتى الآن، وهو الأمر الذى سيتعرض لاختبار حقيقى فى الانتخابات البرلمانية القادمة.
مما يجعلنى أتذكر الانتاج الثقافى الرسمى المعزول عن الجماهير أملا فى عمل ثقافى إعلامى يخاطب الجماهير بلغة مختلفة تتناسب مع الدوائر الاجتماعية المتنوعة، ويساهم فى دفع الأفراد نحو سلوك مختلف حتى لا نعيد مشكلة المشروع التحديثى المصرى منذ محمد على وحتى الآن، فهو يبدأ حلما كبيرا للدولة، وإذ ينفصل المجتمع المدنى عنه يتحول لحلم إجبارى يستتبعه التجنيد المدنى الإلزامى وهو الأمر الذى أفشل معظم مشروعات التحديث الكبرى، والمعضلة والتحدى الأكبر للدولة فى مصر الآن هى كيفية استثمار الثقة الكبرى الجديدة بينها وبين الجماهير وتعزيزها بتأكيد العمل المؤسسى المشترك بين الدوائر الحكومية وبعضها البعض أولا ثم مع المجتمع المدني، ثم استنهاض الهمة المجتمعية الحاضرة الآن بلا دعم فكرى نحو مشروعات مجتمعية حرة حديثة ومساهمة اختيارية حرة للمشاركة فى المشروعات القومية الكبرى، على أن نؤمن حقا بأن القاطرة الحقيقية التى ستقود ذلك الحلم الحداثى للدولة الحديثة ليست هى المؤسسات الحكومية القادرة فقط بل المجتمع المؤمن حقا بالتحديث معنى وعلماً وروحًا وافكارًا وقيمًا وتصورات للحياة، ولذلك فليس هناك أخطر مما يحدث الآن من تكرار نبرة أن المثقف غير قادر على تغيير العالم، أو أن صناعة التغيير ليست دوره أو أن الأفكار الكبرى خيال كبير للمثقف، والحق أن العالم المعاصر أثبت فشل الأيديولوجيات الكبرى بمعنى فشل الأفكار الكبرى الجامعة التى تعتقل التفرد والتعدد، أما دور المثقف فى تغيير الحياة وتحسين وجهها فهو واجب وضرورة سواء بالعمل المجتمعى أو بالعمل داخل أجهزة الدولة الرسمية، أو بالبقاء فى مسئولية التأمل اليومى لمراقبة ما قد يحدث من أخطاء من السلطة والمجتمع المدنى معًا، إن المثقف الذى يفقد شهوة إصلاح العالم، والسياسى الذى لا يتمتع بها، محكوم عليهما بالأنانية والضياع، أما نجاح أهل الثقافة والسياسة فى مصر مرهون بمدى قدرتهما على نقل مشاعر وأفكار إصلاح الحياة لأهل مصر جميعا، وبقدر تمتع المواطن المصرى برغبة حقيقية فى إصلاح ما هو متاح له خارج عالمة الصغير بقدر ما سينجح سعينا نحو المجتمع الحديث المدنى، اذ يجب ان يمس الشعور العام الوطنى للمصريين بعضاً من رغبة الشعراء فى الاستمتاع بشهوة تغيير العالم، وهو الشرط الحاكم لحيوية الإنسان ولنجاح مشروع الدولة المصرية الديمقراطية الحديثة التى يحلم بها المصريون.