السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الوعى الشعبى.. معلم النخبة المصرية




د. حسام عطا

إن عملية إنتاج الأفكار والقيم بمعناها الأخلاقى والمهنى والجمالى قد تكون جوهرها الأساسى خلال السنوات العشر الماضية وفقا لما يمكن تسميته بالوعى الشعبى، ولذلك ارتبكت النخبة المصرية أمام مسارات الأحداث فى 25 يناير وكلما حاولت توجيه حركة الجموع نحو الاتجاهات الصائبة من وجهة نظرها، لكن الجماهير لم تستجب إلا لإرادتها وكان دور النخبة فى معظم الأحيان هو تفسير الوعى الشعبى الصحيح بمصطلحات وأدبيات علم السياسة الشائعة.
ولذلك شعرت النخبة المصرية بالانفصال عن الجماهير خاصة أن معظم تلك النخبة أدركت أن قدرتها على التأثير محكومة ومحددة بمدى مقدرتها على الحوار الجاد مع الوعى الشعبى، وبمقدار قدرتها على تغييره وتجديد الوعى المتطور داخله ليصبح جزءا أصيلا من اعتقاد الناس ومن طريقتهم فى التفكير والفعل معا.
ولاشك أن أزمة ثقة خفية متبادلة فى مصر بين النخب التقليدية والجماهير هى أمر واقع الآن، وهى واحدة من أسباب خلخلة الاستقرار المجتمعى وحدوث الاستجابة الجماهيرية الهادرة فى 25 يناير ثم فى 30 يونيو حيث هدأت الجماهير مع وعد عودة مصر الكبيرة الدولة الحديثة، والمجتمع المدنى الحر.
ولذلك تحاول الدولة بالمشروعات الكبرى مثل قناة السويس الجديدة تخفيف حدة ألم الإحباط الذى يسيطر على النخبة وتشعر به جرحا عميقا أكثر مما يشعر به الآخرون بسبب تأخر إنجاز مشروعات التنمية والتقدم، وكالعادة كان الوعى الشعبى سباقا كما حدث فى جمع تكاليف حفر قناة السويس الجديدة.
لكن لاتزال حجم الآمال والتطلعات والطموحات كبيرة للغاية، وهى طموحات يصنع أفق ترقبها وتوقعها عالم معاصر هو ابن لفكرة العولمة، التى تجعل النخبة والجماهير يرون فى كل لحظة على شاشات العرض الفضائى والرقمى مدنا تبدو أكثر رفاهة وحرية ومقدرة على إنتاج المعرفة والعلم والسعادة.
وإن كانت النخبة يمكن لها استيعاب تلك الصور العالمية، فإن حجم تأثيرها على الناس العاديين يبدو مذهلا، ولذلك أصبح ما يحدث فى المركز يؤثر فى الأطراف ويشكل إضافة لا إرادية لأفق رغبات وتوقعات الجماهير الكبيرة فى مصر.
وهذا هو التفسير الأقوى فى تقديرى لظاهرة الهجرة الحادة من الريف إلى المدينة، لأن حضارة القرن الحادى والعشرين هى حضارة صناعية تنتمى لعالم المدن الحضرية التى يرحل إليها الناس من الأطراف المحرومة، وعندما لا تلبى القاهرة كمركز محلى طموحاتهم يرحلون إلى الشاطئ الآخر فى مراكب الهجرة غير الشرعية بلا توقف ولا تفسير منطقى لرحلة المغامرة المحفوفة بمخاطر الموت، سوى سحر المدن الغربية الكبرى.
فقد ظل فضاء الشاشات يعرض حلم الحرية الشخصية والرخاء الاقتصادى على الجانب الآخر من البحر، ولذلك وللتحكم فى موجات الهجرة من الأطراف للمركز يجب السعى نحو إنشاء مراكز حضرية متنوعة يمكن للأفراد الباحثين عن عمل وحلم وبيت الهجرة إليها، مما يجعل مشروع رسم خريطة جديدة لمصر تستثمر الأطراف المحرومة وتضيف مساحات جديدة للوادى الضيق، ليست مجرد استثمار اقتصادى محض، بل هى ضرورة جوهرية لحل الصراع الشعورى والوجودى الحاد داخل المجتمع المصرى.
ولذلك فإن رسم الخريطة الجديدة لمصر ضرورة لحل أزمة صراع هوية الأفراد سواء بالعودة لنماذج الهجرة للماضى أو السعى للهجرة نحو صور العولمة الساحرة الشريرة.
ولذلك ورغم أهمية وجود الزراعة واستصلاح الأفدنة الكبيرة والاستثمار فى هذا الشأن إلا أن تلك المجتمعات الزراعية المستهدفة يجب أن تكون ذات طابع حضرى لا يخلو من صناعات موازية ومن تخطيط للمدن على نسق المدن الحضرية الكبرى حتى يصبح حلم الهجرة سواء للداخل أو للخارج متاحا للأفراد والجماعات داخل أماكنهم الأصلية أو المجتمعات الداخلية التى تستوعب هجرتهم المنظمة.
هذا على صعيد استيعاب الطاقة الهائلة للأفراد فى مصر وهو أمر يقتضى العمل على إعادة ترتيب سلم القيم والرغبات فى مصر عبر القوة الناعمة المصرية لربط الفرد بالجماعة وللحفاظ على نسيج الانسجام الوطنى المصرى ولاستعادة ثقافة العمل الجاد وأفكار الجماعة الوطنية عبر إنتاج الفكر والفنون والتواصل مع الجماهير الكبيرة عبر ثقافة الصور المسموعة المرئية لتجديد الوعى الشعبى ولاستعادة النخب التقليدية مقدرتها الطبيعية على صياغة مسارات نحو المستقبل عبر استعادة ثقة الجماهير والعمل على تدعيم الوعى الشعبى وإصلاح بنيته من داخله دون وصاية بل عبر عملية تأمل لاحتياجات المجتمعات الفقيرة والعشوائية والمعزولة الإنسانية مما يمنع الصدام وغياب الثقة التاريخى بين النخبة والجماهير فى مصر ويستعيد الدور الطبيعى للطبقة المتوسطة التى نجحت فى إنجاز مشروعات التحديث الكبرى عبر علاقات الثقة مع الجماهير الكبيرة فى نماذج شرق وجنوب آسيا الشهيرة، لتصبح الجامعات المصرية ومراكز الأبحاث وبيوت التفكير الثقافية والإعلامية وغيرها بيوت خبرة تعمل على دعم مشروعات الدولة وتفسير احلام الجماهير المصرية، من أجل إيقاف حركة الهجرة السبية من المركز للأطراف وهى الحركة التى تقوم بالمساهمة فى إخلاء الأطراف للبطالة والعنف وتهديد التركيب السكانى بالتفتيت وتبديد طاقة التنمية البشرية، وذلك سعيا لجعل الأطراف المحرومة مراكز للجذب من المركز التقليدى وليس العكس.
لاشك أن للتفكير العلمى الذى يستهدف استثمار طاقة الجموع الكبرى فى مصر ضرورة وأولوية لمن يفكر فى رسم خريطة السياسات القادمة، التى عليها أن تعيد التوازن الطبيعى بين المركز والأطراف، وأن تتأمل دور الفنون والثقافة فى إعادة تفسير مظاهر العولمة التى تصيغ أحلامها المشروعات الاقتصادية والسياسية المختلفة، إن وضع تصورات متعددة قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى فى شأن الدراسات المستقبلية ضرورة مصيرية لمواجهة مجموعة التصورات والخطط التى صاغها الغرب واتحاد وول ستريت المالى للسيطرة على العالم العربى، وهى الخطط التى أفشلتها مصر فى 30 يونيو، وعليها أن تعد خططا وتصورات مستقبلية للدخول نحو المستقبل، عبر السيطرة على الصور العالمية الملونة للمدن الحضرية وفضح زيف بهرجتها والتقليل من الرغبة لدى الناس العاديين من إعادة إنتاجها، نحو إنتاج مدن وبيوت وحياة أكثر خصوصية ومصرية، سعيا لعودة التأثير الوطنى للنخب التقليدية المصرية، وفى القلب منها النخب الثقافية وسياساتها المستقبلية لدعم الثقافة الوطنية فى عالم متغير.