الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

جد مستنير.. وحفيد إخوانى




عاطف بشاى

فى كتابة «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» يفصل الشيخ رفاعة الطهطاوى (1801 - 1872) بين تغطية وجه المرأة.. وبين السلوك السليم.. ان عفة المرأة مسألة داخلية، وأن تميزها مردود إلى تكوينها النفسي.. والفكرى لا إلى الملابس التى تخفيها أو تنتقب بها فالعبرة بما داخل العقل وليس بما فى خارج الوجه.. ويعتبر كتابه «المرشد الأمين لتعليم البنات والبنين» درساً آخر على مواصلته الإيمان بأفكاره فى تحرير المرأة والعمل على مساوتها مع الرجل وذلك من منطق الاحترام لها والتقدير لأدوارها الخاصة والعامة فى الأسرة والمجتمع.
ويرى الدكتور جابر عصفور فى كتابه المهم  «دفاعاً عن المرأة» والذى يتحدث فى فصل منه عن الشيخ رفاعة انه فى نظرته إلى المرأة لم يكن مصلحاً يدعو إلى أفكاره الجديدة باللسان فحسب وانما كان يمارس دعوته بما يكون دليلاً عليه فى سلوكه الخاص.. والدليل تلك الوثيقة التى كتبها بخط يده لابنة خاله كريمة «الشيخ محمد الفرغلي» حين تزوجها حيث يتعهد لها بما لا يمكن تخيله من شيخ فى عصره بل فى عصرنا هذا..  وتنص الوثيقة على تعهد «رفاعة» لزوجه بألا يتزوج عليها ولا يقضى عليه ما احله الله من الجوارى فى علاقات عصره.. وان يظل وفياً لها محافظاً عليها لا يتمتع بغيرها..
ولا ينظر إلى سواها مبقياً على احترامه لها مقراً بحقها فى الطلاق منه إذا أخل بالشروط التى وضعها على نفسه من زواجه بها.. ويرجع تاريخ الوثيقة إلى الرابع عشر من شوال سنة 1255 للهجرة.. أى قبل سفر رفاعة إلى باريس سنة 1826 .. ونص الوثيقة الخطية ما يلي:
«التزم كاتب الأحرف رفاعة بدوى رافع لبنت خاله المصون الحاجة «كريمة بنت العلامة الشيخ محمد الفرغلى الأنصاري» انه يبقى معها وحدها على الزوجية دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية أياً كان.. وعلق عصمتها على أخذ غيرها من نساء.. فإذا تزوج بزوجة أصبحت بنت خاله طالقاً بالثلاث.. وكذلك إذا تمتع بجارية ملك يمين.. انها مادامت معه على المحبة المعهودة مقيمة.. وعلى الأمانة والحفظ لبيتها ولأولادها ولخدمها وجواريها.. ساكنة معه فى محل سكناه.. لا يتزوج غيرها.. ولا يخرجها من عصمته.. حتى يقضى الله لاحدهما بقضاء.. هذا ما استقرت عليه العهود وشهد الله سبحانه وتعالى بذلك وملائكته ورسله.. وان فعل المذكور خلافه كان الله هو الوكيل العادل لزوجة المذكور يقتص لها منه فى الدنيا والآخرة.. هذا ما انتهى إليه الاتفاق.
وكذلك ان تعبته فهى الجانية على نفسها(رفاعة بدوى رافع 14 شوال سنة 1255).
وما أن انتهى د. جابرمن قراءة نص الوثيقة فى الكلمة التى افتتح بها مؤتمر «رفاعة الطهطاوي» حتى سأل الحضور ترى كم رجلاً فى هذه القاعة على استعداد لتوقيع وثيقة مشابهة.
وكم شيخاً من هؤلاء المشايخ الذين لا يكفون عن تكفير غيرهم قادر على أن يكتب لزوجة وثيقة مثل هذا التعهد.
إن هذه الوثيقة تظل شاهداً على عقلية زوج مستنير لم يغلق عقله على تحيزاته الذكورية.. ولم ينظر  إلى المرأة بوصفها مخلوقاً أدنى.. أو تابعاً مذعناً لا عمل له سوى الطاعة أو الاستجابة إلى نزوات الذكر الأعلى باعتبار أنها مخلوق ناقص وما ينقصها هو الرأس.. ثم بعد الزواج يصبح زوجها هو ذلك الرأس.. بينما الحضارات القديمة قبل سيطرة النظام الذكورى العنصرى كانت أكثر عدالة وحرية وكرامة من المجتمعات الحديثة.. فلو قرأنا الحضارة المصرية القديمة لعرفنا كيف كانت  أرقى إنسانياً من عصرنا الحديث.. فقد كانت المرأة ملكة.. ورئيسة للقضاء.. وكبير الأطباء.. بل الالهة المعبودة..
وها هو «رفاعة الطهطاوي» ينظر إليها بوصفها شريكة فى رحلة العمر.. ومثله فى تحمل المسئولية.. والنصف الآخر الذى تكتمل به الحياة واستمرارها فى ظل الحب الذى يعنى التعاون فى مواجهة المصاعب والتكافؤ فى تحمل المسئولية.
ثم يدور الزمن دورته وتقوم ثورة (25 يناير).. ويصل الإخوان إلى الحكم ويسيطر المكفرون وفقهاء المنع والتحريم والمصادرة.. وأباطرة الفتوى والذين يخصون المرأة وعلاقتها بالرجل وبالحياة المصرية بسيل منهمر من الفتاوى القاتلة ابتداء من الدعوة إلى عودتها إلى المنزل ومنعها من العمل حيث انهم يرونها كائناً غريزياً من أهل النار خلق لإثارة الشهوة الجنسية للرجال ولتوقعهم فى معصية الخالق.. «هن شياطين خلقت لنا»..إذا خرجت الشارع فهى عار ورجس ودنس وخطيئة تسير على قدمين، وبالتالى فلابد من إخفاء ملامحها وجسدها.. والأفضل أن تظل حبيسة المنزل لا تخرج منه إلا إلى القبر.. كما انه تم نفيها من فردوس الولاية فلا يجوز أن تتولى أى مناصب قيادية لأنها تحيض .. هو ما يضعها فى مرتبة دنيا لا تستحق سوى النبذ والاحتقار.. واتى الدستور الإخوانى ليجهز على مكتسبات المرأة ويكرس للأفكار المتخلفة.. السابقة.. ناهيك عن السماح بزواج القاصرات وإباحة الختان وعدم تحريمه ورفض المساواة مع الرجل فى جميع شئون الحياة.
ثم تبرز المفارقة الصارخة والمدهشة من خلال رئيس الديوان السابق السفير «محمد رفاعة الطهطاوي»  حفيد رائد التنوير المصرى الذى بارك وايد ودافع بحرارة وحماس منقطع النظير عن الدستور الجديد.. وصرح وقتها أن أغلبية الشارع المصرى تؤيد هذا الدستور وقد اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن من يمكن وصفهم بالأقلية فى (مصر) يسعون إلى عرقلة وافشال رغبة الأغلبية التى تتمثل فى المواطنين الفقراء الذين يؤيدون الرئيس والدستور.. ولا يمكن السماح لأقلية صارخة مهما كان قدر الغضب لديها بإعاقة مسيرة الديمقراطية.
ثم تأتى ثورة (30 يونيو) فيوضع حفيد رائد التنوير فى العصر الحديث «رفاعة الطهطاوي» فى قفص الاتهام بعد أن ارتضى لنفسه أن يصبح أداة فى يد جماعة الإخوان المسلمين رافعاً رايات ردة حضارية مقيتة من تخلف وجهل وظلام تكفيرى واحتقار للمرأة.. آل على نفسه جده العظيم أن يسعى بفكره المستنير أن يقاومه وان يزيحه.. حيث أمرت نيابة «مصر الجديدة» بحبسه على ذمة التحقيقات فى أحداث العنف التى اندلعت بمحيط قصر الاتحادية يوم (5 ديسمبر) الماضى تلك الأحداث التى شهدت اعتداء أعضاء جماعة الإخوان المسلمين على المتظاهرين السلميين المنددين بالإعلان الدستورى الذى أصدره المعزول «مرسي» والذى تضمن عدواناً على القضاء وعزل النائب العام من منصبه.. وتكريس القهر على المرأة والإجهاز على حقوقها ثم أخيراً تبرز المفاجآت التى حصلت عليها الصحف والخاصة بتفاصيل تقرير الأمن القومى بقضية التخابر وتهريب وثائق أمن قومى إلى قطر من بينها كشف أوراق بعنوان «جهاد الإخوات المسلمات» الذى اشتمل على تعريف الجهاز باختصاصاته بتنفيذ التوجهات العالمية للجماعة فيما يخص المرأة ودعم اتخاذ القرار فى مكتب الإرشاد العالمى ومسئوليات الجهاز بالعمل على وضع خطة لعمل الإخوات على مستوى التنظيم العالمى ومتابعة تنفيذها والتأكد من تحولها إلى إجراءات تحقق أهداف الجماعة.
وطبعاً ليس من أهداف جهاز الإخوات المسلمات تحرير المرأة والعمل على انتزاع حقوقها المهدرة.
فأين الحفيد من الجد؟!.. وأين مصر القرن الثامن عشر من مصر التى سعوا سعياً حثيثاً إلى تراجعها الحضاري.