الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

الأقباط وإدارة التعددية الدينية




يعد التنوع أحد أهم ملامح القوى الناعمة التى يمتلكها المجتمع المصرى منذ آلاف السنين، حيث لم تؤد خبرة التعايش بين المصريين المختلفين فى المعتقد الدينى إلى مشكلات كبرى تظل عالقة بالذهنية الجمعية المتوارثة للشعب المصرى وإن لم يمنع ذلك وجود خلافات تظهر ثم تخبو وكان للتوترات الدينية التى تكاثرت فى العقود الأربعة الأخيرة أثرها فى تهديد وحدة النسيج الاجتماعى المصرى وسمحت بظهور خطابات انقسامية وتحركات طائفية وحالات من المواجهة المباشرة على الصعيد الاجتماعى بين مسلمين ومسيحيين على خلفية سوء إدارة التنوع الدينى.
انطلقت من ذلك دراسة للباحثين د.سامح فوزى وسمير مرقص.
حيث تأتى أهمية مناقشة إدارة التنوع الدينى نظراً لأنها من القضايا الاساسية التى تمثل محورا لتعميق التجربة الديمقراطية فى حالة الإدارة الرشيدة للملف أو سببا للتوتر وتقويض التجربة الديمقراطية إذا لم نلتمس الإدارة الرشيدة فى المعالجة ولا مفر من طرح هذه القضية على هذا النحو، ولاسيما أن مصر تمر بمرحلة جديدة منذ ثورة 25 يناير 2011 أدت إلى اسقاط نظام الرئيس مبارك «1981-2011» الذى ارتبط عهده بالعديد من التوترات الدينية الجسيمة وقد فتحت الثورة المجال أمام مختلف القوى والتيارات كى تتخلص من إرث الماضى وتعيد بناء مجتمع جديد ينطوى على علاقات أكثر انفتاحا وأقل توجسا تقوم على المساواة والعدالة بين المسلمين والمسيحيين ويعد الحصول على «الاستقلال الثانى» فى الثورة الديمقراطية مدخلا جديدا لاعادة اندماج المسيحيين وفى التيار الرئيسى للمجتمع المصرى المطالب بالحرية والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية فى السابق واجه المسلمون والمسيحيون الاستعمار الاجنبى وحصلوا على الاستقلال الاول وبعد عدة عقود عادوا الى صفوف المواجهة وحصلوا على الاستقلال الثانى من الاستبداد الداخلى وهناك اتجاهان أساسيان:
الاتجاه الأول: هو اتجاه ثورة 25 يناير الذى تبلور فى ميدان التحرير فى قلب القاهرة من خلال مشاركة المسلمين والمسيحيين معا ثقافة «ميدان التحرير» تعنى الكثير بالنسبة للعلاقات الاسلامية المسيحية، فتم كسر حاجز اللقاء والالتفاف حول أجندة سياسية تتعلق بتغيير المجتمع تتجاوز الذهنية الطائفية وخبرة التعايش الميدانى على مدار أيام من حيث اكتشاف الآخر على حقيقته دون افتعال أو تزييف أو الوقوع فى أسر الصور النمطية الخاطئة والتضامن فى محنة المواجهة مع عنف يرعاه بقايا نظام سابق ومشاعر الخوف من المجهول القادم والرجاء الذى يتلكأ فى البزوغ ولا يستبعد احدا ويؤكد الباحثان أن ثقافة «ميدان التحرير» تعنى أن المسلمين والمسيحيين العرب بإمكانهم أن يعيدوا بناء نظام سياسى يحقق العدالة والمساواة بعيداً عن ارث الطائفية والشك المتبادل والتمييز فى إطار هوية اجتماعية جديدة.
الاتجاه الثانى: هو اتجاه ما قبل ثورة 25 يناير تعايش على الاستقطاب والتمييز وتعطيل التوافق وزرع مشاعر الارتياب بين المختلفين فى النوع أو الدين أو المعتقد السياسى أو الفكرى باختصار هو يعمق من رأس المال الاجتماعى «الجامع» الذى يعزز التضامن حول الصيغ التقليدية فى العلاقات الاجتماعية ويطورها الى مواجهة مع الاخر المختلف وقد ترتب على هذا الاتجاه تداعيات كثيرة سلبية وأهم هذه التداعيات:
1- الاستقطاب الإسلامى العلمانى وهو ليس جديدا، وانما نعرفه فى مساجلات ممتدة، واتهامات متواصلة بين هذا الطرف أو ذاك وانعش هذ الاستقطاب مع سقوط النظام وتحول من استقطاب فكرى الى استقطاب سياسى فى الشارع على هوية المجتمع.. والمسيحيون فى قلب هذا الاستقطاب فمن ناحية تنادى القوى العلمانية بدولة تقوم على المواطنة الكاملة دون أن يكون الدين سببا للتمييز بين المواطين ومن ناحية أخرى تطالب غالبية القوى الاسلامية بدولة حديثة تستند الى حكم القانون والمؤسسات ولكن على نحو يجعل الدين حاضرا فى بنيتها السياسية والقانونية والاجتماعية اذاكان هذا هو الحادث فى مصر حاليا ويشعر المسيحيون بأنهم بين هذا الطرف وذاك الافضل أن يظل المسيحيون جماعة متنوعة وليست مع هذا الفصيل أو ذاك يتحركون فى المجال العام طبقا لقناعاتهم السياسية وليس بوحى من توجساتهم الدينية.
2- عودة التوترات الدينية سواء فى شكل تحرشات طائفية، أو مواجهات تدمر فيها كنائس مثلما حدث فى قرية «صول» ثم حرق كنيسة بمنطقة «إمبابة» ثم نقل كنيسة ثالثة بمحافظة المنيا والتحرش ببناء أخرى فى محافظة أسوان وفى بعض من هذه الاحداث حدثت مواجهات بين مسلمين ومسيحيين تحطمت فيها الممتلكات وازداد الشعور بالخوف واليأس وعاد انتاج الاتهامات المتبادلة ولعل اخطرها ما يعرف بحادث ماسبيرو الذى سقط فيه قتلى وجرحى، وترك تداعيات نفسية حرجة بالنسبة لعموم الاقباط.
3- تصاعد أصوات كانت خافتة فى السابق تطرح رؤى دينية شديدة التقوقع تسلب الفقه المصرى الرحب خصوصيته وتفرده وتطرح أفكارا تعمق مشاعر الخوف وتولد ردة فعل عكسية غاضبة فى وقت يعيد المجتمع فيه بناء ذاته تستخدم هذه الاصوات لغة التكفير واعتبار المسيحيين «جماعة دينية» وليسوا مواطنين متنوعين، وبالتالى فإن انتظام المجتمع على أسس دينية يعطى السيادة لاغلبية دينية على أقلية دينية، وهو ما يمثل خروجا على العقد الوطنى المصرى بين المسلمين والمسيحيين الذى تجسد عبر التاريخ، واعاد المجتمع اكتشافه فى خبرة الثورة المصرية.
4- استمرار ذهنية ادارة الملف الدينى كما كانت فى النظام السابق من حيث تنحية القانون والركون الى الحلول العرفية وعدم التعامل بشفافية مع التوترات الدينية والاكتفاء بالحديث المبهم حول القلة أو الشرذمة التى تفتعل الفتنة، أو فلول النظام السابق أو الأيادى الخارجية، وتمثل جميعها «إحالة» للمجهول دون تحديد واضح للاطراف الضالعة فى الإساءة الى العلاقات الاسلامية المسيحية، على نحو يجعل المجتمع يتبصر الأمر.
ويؤكد الباحثان انه رغم المظاهر السلبية فى التعامل مع الشأن الدينى فإن الأمر لا يخلو من إيجابيات يتعين التوقف أمامها وتتمثل فى القضايا المتعلقة بالمواطنة، وقد اصبحت العلاقات الاسلامية المسيحية تتداول على نطاق واسع وبمساحة أكثر من الصراحة، وتحول العلاقات الاسلامية المسيحية ربما للمرة الأولى منذ أكثر من ثلاثين سنة الى شأن سياسى.
تنظر فى أمره مؤسسات سياسية بعد أن ظل لسنوات طويلة رهنا للحل الامنى وتشكل منتديات ولجاناً كثيرة من «بيت العائلة» التى يرعاها الأزهر الشريف الى لجنة «العدالة الوطنية» بمجلس الوزراء وخلافه، كل ذلك يجعل هناك نقاطا كثيرة للالتقاء على مستويات مختلفة للنقاش حول مشكلات حقيقية بعد أن ظلت لسنوات مجرد مظاهر احتفالية ولكن يقتضى الامر تفعيل هذه الهياكل حتى لا تتحول بمرور الوقت الى مؤسسات «ديكورية» لا فعالية لها، بالإضافة الى الرغبة فى التعامل مع المشكلات القبطية وبخاصة المتفاقمة منها مثل بناء وترميم الكنائس.
غياب الإدارة الرشيدة للتنوع الدينى من خلال الاستعراض التاريخى لمشكلات الاقباط يمكن القول إنه لم يغب الحديث عن التوتر الدينى فى الحالة المصرية خلال القرن العشرين كان ينمو ويخبو حسب الحالة السياسية والثقافية العامة فى المجتمع، فإذا كان هناك مد وطنى تراجع المد الطائفى، واذا تراجع المد الوطنى حل محله المد الطائفى يملأ الفراغ ويعبئ القوى ويشغل الاذهان ويتسبب فى احتقان النفوس.
ومنذ سبعينيات القرن العشرين تمر ادارة الشأن الدينى التعددى فى مصر بحالة من «التوتر» أحيانا و«الفتور» فى أحيان أخرى، والسبب فى ذلك يعود فى جانب كبير منه الى تراكم المشكلات، ونقص الخيال الابداعى فى التعامل مع معطيات الواقع والاصرار «المتعمد» على التعامل مع الملف الدينى بذات الاساليب القديمة، التى جرت تجربتها وتكرارها واثبتت الايام عدم جدواها.
فالمشهد الدينى ضاغط فى مجمله اسلامى مسيحى، وفى تفاصيله نجد أشكالا من التباينات والانقسامات على أسس مذهبية وثقافية واجتماعية عبر عن نفسه فى العديد من الاحداث الطائفية المتكررة والصاخبة والاجتهادات فى تفسير الاحداث الطائفية كثيرة بعضهم يرجع ما يحدث الى تحولات اقتصادية اجتماعية، وآخرون يرون فيها تعبيرا عن أنماط جديدة من التحالفات السياسية وفريق ثالث يرجع الأمر برمته الى تحولات ثقافية إلخ.. بصرف النظر عن الاسباب التى يختلف حولها الباحثون إلا أنه من الثابت أن هناك تحولا فى كم وكيف الاحداث على السواء وتيرة حدوثها فى تزايد والكيفية التى تجرى عليها فى تحور خطير قد اندلعت التوترات الدينية - فى بادئ الأمر - بشأن قضايا كنسية مؤسسية مباشرة «بناء أو ترميم كنيسة» ورغم التنوع والاختلاف فى كم وكيف الاحداث الطائفية، اتسمت ادارة هذه الاحداث - فى العقد الاخير فى عهد نظام مبارك - بملامح أساسية تجعل منها نموذجا على حالة الجفاف الفكرى فى التعامل مع ملف بالغ الاهمية والخطورة فى آن واحد وتمثلت فى اضعاف البعد السياسى والثقافى لصالح الامن وتوظيف الاعلام فى ادارة المشهد الدينى وغياب الجهة المرجعية الجامعة وفشل إدارة التعددية الدينية ليس فقط فى الثلاثين عاما الماضية من حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، ولكن ايضا فى ظل أنظمة حكم متنوعة ما بين شبه الليبرالي، والاشتراكى التسلطى، واليمينى اقتصاديا ودينيا وأخيرا النظام المهجن الذى عرفه مبارك فى خليط ما بين الاستبداد والسعى الى الديمقراطية.