الخميس 19 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

نحن لا نقرأ التاريخ ونلدغ من الجحر عشرين مرة




كتب : د.عبدالله النجار

يبدو من سياق الأحداث التى يموج بها العالم الإسلامى اليوم، أننا أمة لا نقرأ التاريخ ولا نعتبر به، وربما إذا قرأناه لا نفهمه ولا نعيره اهتمامًا وإذا فهمناه لا نستلهم أحداثه ولا نستفيد من معطياته مع أن الله قد أوجب علينا الاعتبار به لأنه آية كونية تمثل مقدمات لنتائج وأسباب لأحكام، والله قد تعبدنا بالأسباب، وقال لنا فى محكم كتابه: «فاعتبروا يا أولى الأبصار» وقال: «يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم»، ولو أننا قد استفدنا من تاريخنا أو تاريخ غيرنا لاستطعنا أن نقى أنفسنا من تلك المؤامرات التى تحاك لنا وتستهدف بلادنا ووجودنا فإن أحداث الحياة متشابهة ومواقف المنازعات فيها واحدة، فالخصم يريد أن يصرع خصمه والمعتدى عليه يصر على أن يسترد حقه ويدفع الاعتداء عن نفسه وأهله ومن ثم كان من خصائص التجارب التاريخية أنها متشابهة فى ورودها ومتكررة فى صناعتها وإن دخلها شىء من التجديد أو الابتكار فإنه لا يخرج عن مجرد كونه تغييرًا لا يتطرق إلى المضمون وشكلا لا يؤثر على مكونات الجوهر، ولهذا كانت الاستفادة من أحداث التاريخ أشبه بالتطعيم الذى يقوى بنية البدن على المقاومة ويساعده على النجاة من التهلكة ليصل إلى بر الأمان فى المواجهات القائمة أو المؤامرات المحكمة، وهو يساعد المعتبرين بالتاريخ على أن يختاروا النصر حتى لا يدهموا بالهزيمة، والنجاة من الفتن حتى لا يسقطوا فى التهلكة.
ومما يترتب على تجاهل التاريخ وإهمال قراءته أننا أصبحنا نهاجم من نفس المدخل الخبيث الذى هوجم منه آباؤنا وأجدادنا، وأجداد أجدادنا إلى بدايات التاريخ، وعجزنا عن الإفلات من الفتن التى سبق أن نسجت لآبائنا وأجدادنا ووقعوا فيها بعد أن استدرجوا لها استدراج الحدث الطائش إلى مقتله، ولم تختلف صور الفتن التى نعانى منها اليوم فى الشكل والمضمون عن تلك الفتن التى دبرها لنا من قبل أعداؤنا، بل إن الأعداء هم نفس الأعداء لم يختلفوا فى الجنس، ولم يتغيروا فى الدين أو العقيدة، وبالقطع فنحن كسابقينا لم نختلف عنهم فى الاستفادة من قراءة التاريخ ولم نتعظ من أحداثه التى فعلت بنا من بنىإسرائيل وذويهم.
خذ - مثلا - واقعة الجمل التى شهد أحداثها ميدان التحرير منذ ثلاث سنوات وبعد الثورة على الرئيس المخلوع الأول فإنها تتفق شكلاً وموضوعًا مع واقعة مشابهة لها فى الثورة على عثمان بن عفان الخليفة الإسلامى الثالث ذى النورين وصاحب التاريخ الإسلامى المشرف فى الإنفاق على الدعوة والوفاء للرسالة والإخلاص لله ولرسوله وللمؤمنين بل وللأمانة التى بويع من أجلها، هى الخلافة التى تولاها بالبيعة، ورضا الغالبية العظمى من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلا قليلاً ممن بايعوا ثم ادعوا فيما بعد أن بيعتهم كانت عن إكراه أدبى أو إحراج قبلى أو لاعتبارات أخرى وهم قلة لا تؤثر على جوهر البيعة ولا تنال من مشروعيتها.
لقد لفق له الخارجون عليه تهمًا ظالمة وادعاءات باطلة، ولم يكن ما وجه إلى المخلوع الأول على منوالها بل كان واقعًا جرى عليه التقاضى ومع تشابه الموقف عجزت إجراءات المهادنة والمعاملة بالرفق والاستجابة لكافة ما طلبوه بحق أو بغير حق ضد ولاتهم المعينين من قبل الخليفة وبناء على اختيارهم المسبق أقول: لم تفلح وجهة الخليفة فى الاستجابة لكل ما طلبوه عن إثناء المتآمرين أو تغيير ما بيتوا النية الخبيثة عليه بعد تواطؤ وتآمر، وتجنيد للعناصر المناصرة لهم فى بلاد العالم الإسلامى ومصر حتى يقدروا على الفتك بالخليفة الراشد أو يقصوه عن منصبه.
واتفقوا على زمن التلاقى ومكانه بالتواصل الذى لا يختلف كثيرًا عما يقوم به المتآمرون اليوم من التواصل فى الأماكن الإقليمية المختلفة وكان الزمان هو موسم الحج حتى لا يعوقهم عائق وليذهبوا إلى مقر الخليفة تحت مسمى أداء الفريضة ومن ثم كان المكان هو أرض الحرمين حيث تستقر الخلافة ويوجد رأس الدولة الإسلامى.
ووصلوا لما أرادوا بعد أن انتهوا من أداء المناسك، فتوجهوا جميعًا بجميع أجنحة التآمر التى قدمت من مختلف أقاليم الدولة الإسلامية فى الشمال والشرق والغرب إلى بيت أمير المؤمنين عثمان وأعلنوا عن نيتهم فى الفتك به بعد أن ظهرت تلك النوايا العدوانية من فشل المفاوضات معهم من قبل كبار الصحابة ومنهم الإمام على بن أبى طالب - رضى الله عنه - وغيره من الصحابة الذين كانوا حريصين على وقاية الأمة الإسلامية من مغبة تلك الفتنة القاتلة بعد أن بدأت تكشر عن أنيابها.
وحين وجد أمير المؤمنين عثمان أن الفتنة بدأت ترسل شررها، وترمى بلظاها، وأن عيون المتآمرين قد أطل منها حقد دفين وتربص قاتل، قرر أن يطل عليهم وأن يهدئ من روعهم ويطيب خواطرهم، ويذكرهم بأنه لن يحنث لهم عهدًا، ولن يخون فيهم أمانة، وإن ما وعدهم به من حسن المعاملة وكرامة الإنسان واحترام العدل وتنفيذ كل ما يشيرون به أو يرغبون فيه سوف يكون محل اهتمام منه، ورعاية كاملة من جميع المسئولين فى ولايته، وجميع الأجهزة فى دولته.
وقد بدا من ملامح الصدق فيما قاله الخليفة الراشد وما بدا على حاله من الاستجداء لأصحاب تلك القلوب الصلدة القاسية، وهم رعاياه وهو واليهم وإمامهم، أن بعض المتربصين به، بل الغالبية منهم قد بدا عليهم التأثر بما قاله وبالموقف فى جملته «فهموا بالانصراف» بل وانصرفوا بالفعل إلى بلادهم فلم يبق إلا رءوس الفتنة وعلى رأسهم زعيم المنافقين اليهودى: عبدالله بن سبأ وغيره من أكابر المتآمرين الذين جندوا هؤلاء المنصرفين ولما أيقنوا أن موقفهم قد أخذ يتغير إلى عكس ما كانوا يريدون تظاهروا بالانصراف معهم حتى لا يتركوا هؤلاء الأبرياء السذج يفلتون من قبضة المؤامرة التى خططوا لها وقتًا طويلاً، وأصبح تحقق هدفها قاب قوسين أو أدنى من القطاف - وليظل شمل المتآمرين الأبرياء والضالعين قائمًا حتى يرتبوا لأمر جديد بعيد المواجهة مع الخليفة إلى ما كانت عليه أو أشد، وقد كان من المنتظر بعد ذلك الخطاب العاطفى للخليفة الراشد أن تعود أجنحة التآمر إلى حيث جاءت من الشام والعراق ومصر التى قدم منها عبدالله من سبأ والذين اقتنعوا بفكره التآمرى، وقد شرعوا بالفعل فى الانصراف والعودة من حيث أتوا، فجن جنون قادة التآمر، وأخذوا يدبرون لفتنة أخرى تواجه ذلك الموقف وتعيد المنصرفين إلى المواجهة وهم أشد حماسًا فى الانتقام وأكثر حقدًا فى الانقضاض على خليفة المسلمين الراشد: عثمان.
اصطنع عبدالله بن سبأ كتابا نسبه إلى عثمان بن عفان، وزور فيه خاتم ديوانه وسطر فيه كلامًا وجهه إلى عامله فى مصر عبدالله بن سعد وحاصله التحريض على هؤلاء المتآمرين والقبض عليهم بمجرد عودتهم إلى مصر، وقطع أعناقهم حتى يكونوا عبرة لغيرهم، وتم طى هذا الخطاب المزور والمصطنع بإتقان وتسليمه لأحد الأطفال ليضعه فى طى ملابسه بزعم أنه مكلف بتسليمه لمن سيوصله إلى نائب الخليفة فى مصر، وقد أوعزوا لهذا الطفل أن يدخل على المنصرفين ويخرج فى حال يبدى فيها الفزع منهم، وكأنه يدبر لهم شرًا حتى يلفت انتباههم فيقوموا بتفتيشه واستخراج هذا الكتاب من بين طيات ملابسه، فصدقت الحيلة وإن لم تكن بحاجة لتصديقها، لأن الحقد طافح، والنية مبيتة على الانتقام مهما كان الثمن.
أخذ المتآمرون الخطاب المزور وعادوا به جميعًا وعن بكرة أبيهم إلى بيت الخليفة مرة ثانية، وهم يسبون ويشتمون ويهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولم يرتضوا بغير رأس الخليفة الراشد بديلاً بعد أن وعدهم بالأمان فى وجوههم ثم إذ به يعمل على الفتك بهم فى الخفاء، فحاصروا منزله مرة ثانية ومنعوا عنه الماء والطعام ولم تفلح محاولات بعض الصحابة فى إفلات شىء مما يتقون به إلى داخل المنزل - بل سبوا عائشة - رضى الله عنها - عندما حاولت ذلك أو تطاولوا على مقامها الرفيع بأقذع الألفاظ وأقبح الشتائم وقبل أن يهلك عثمان جوعًا وعطشا انقضوا عليه وقتلوه فى سابقة لم يعهد التاريخ شناعة ووقاحة وقسوة تضاهى ما كانت عليه، اللهم إلا بعض ما نشاهده فى وقتنا الحالى من شناعات ترتكب باسم الإسلام وأكاذيب تحاك ضد الأديان وهى تستهدف المقاصد السامية التى تدعو إليها الأديان.
إن واقعة الخطاب المزور الذى بدأ اصطناعه بعد خطاب أمير المؤمنين المؤثر ليبطل ذلك التأثير - وليظل التآمر قائمًا ضد الخليفة حتى يتحقق هدف المتآمرين فى الوصول إلى كرسى الحكم وإخلائه ممن يشغله - تكاد تشبه ما أحدثه المتآمرون بواقعة الجمل فى ميدان التحرير - بعد أن كاد المخلوع يفلح فى التأثير على قلوب الناس ويصرفهم من الميدان حتى يظل حكمه مستمرًا.
نعم، الخليفة غير الرئيس الأسبق، وعثمان بن عفان - رضى الله عنه - غير مبارك سامحه الله، ولكن يبقى غاية التآمر واحدة وهى الوصول إلى الحكم سواء أكان الجالس على الكرسى أمينًا أو خائنًا، خليفة أو رئيسًا، إن التآمر لا زمن له وأحداث التاريخ متجددة بصورتها وتكاد تكون بغصها ونصها ولكننا لا نحبذ قراءتها وإذا استطعنا تلك القراءة فإننا لا نعتبر بها ولو استطعنا أن نعتبر بفتنة أصحاب الإسلام السياسى فى عهد عثمان لما وقعنا فى نفس الفخ الذى نصبوه لنا فى عهد الإخوان ولله الأمر من قبل ومن بعد.