الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

دائرة النقد العبثية




د. حسام عطا

أحيانا ما يمارس النقاد والمثقفون حماية غير مقصودة لفنون الهزل والقبح، عندما يظلون يتخوفون ويتلمسون حذر اقتراب الدولة من حرية الابداع، وذلك فى غير موضع الحذر والخوف، بل يخشى عدد من أهل الفكر والفن من يد الدولة القوية عندما تتدخل فى إنتاج الإبداع، خوفا من توجيهه لصالح الدعايا السياسية لها، ولكن وفى ظل غياب لعقل اقتصادى مثل عقل طلعت حرب، وغياب كيانات مالية كبرى مثقفة واعية ذات طبيعة مؤسسية، ما الحل إذن!
استنهاض رأس المال الوطنى.. لا بأس.. ولكن إلى أن يتم ذلك الاستنهاض لا يوجد مبرر لمنع الدولة ومؤسسات المجتمع المدنى والأفراد الفاعلين من التصدى لتلك الظاهرة المؤسفة من فنون عشوائية سوقية هى العنوان الرئيس للفنون الجماهيرية فى مصر الآن، أم أن حديث الأزمة المتصل والحوار القديم الممل عن الفن الجماهيرى، والرفيع وكأنهما أمران متناقضان، وأحاديث السادة النقاد عن حرية الإبداع ودور الدولة فيه وما إلى ذلك، هو دائرة عبثية من حوار لا ينقطع.
وحقيقة الامران الأمور المستقرة والمعلومة فى عالمنا المعاصر أن الدول الديمقراطية تدخلت وأدلت بدلوها فى مجال الفن ووجهته للمصالح المشتركة للمواطنين، بل وبلا ادنى شك تدخلت ووجهت بل وأدارت عمليات واسعة النطاق كان هدفها الدعايا السياسية والثقافية والاجتماعية لأفكار بعينها، كما أن الديمقراطيات المستقرة تقوم بتعبئة قوى الوطن لصالح مشروعات وصناعات وأحلام بعينها، بل وتحافظ على التفاعل الثقافى الحيوى فى المجتمعات من الانحراف نحو أفكار مؤذية للدولة والمجتمع، وهى تحرص على مخاطبة الأفراد والجماعات معاً لتحقيق هذا الهدف، أما الدول الشمولية فهى التى احتكرت بمفردها  هذا الشأن، وليس صحيحاً أن تدخل الدولة الذى يطالب به المواطنون عبر نوافذ الرأى بالصحف ووسائل الإعلام لوقف موجات الفن الهابط الذى يظهر بوضوح فى سينما وأغنيات الأعياد خاصة عيد الأضحى من كل عام هو أمر مضاد لحرية الإبداع، لكننا نعود لنطرح تلك الأسئلة المملة ونكتب ذات الكلمات نفسها حول الإسفاف ودور الفن وتأثيره على النشء، وخطورة أن الواقع يقوم بمحاكاة نماذج البطولة خاصة لدى المراهقين المستهدفين من ذلك الإنتاج السينمائى التجارى الذى يكرس لنماذج البطولة والاحتذاء ممثلاً فى أباطرة السجون والبلطجية والراقصات، لقد مللنا كنقاد من كتابة مثل هذا الكلام، وكأنه دائرة عبثية لا تنتهى، أما المدهش والجديد الآن فهو موجة الترهيب المستمر من فكرة تدخل الدولة لصالح ضبط الإيقاع العام لإنتاج الفن فى مصر، بينما فى كل الديمقراطيات الكبرى وبلاد الحرية لا يمكن لأحد أن يستخدم الأطفال فى أفلام تقدم مشاهد جنسية لأن سينما الأطفال فى العالم رائجة بقيمها الفنية الرائعة مثل أعمال والت ديزنىالتى طورت فنون التحريك بشكل غير مسبوق، وأفلام كفيلم هارى بوتر على سبيل المثال، ثم نتجاهل حقاً ان الجمهور المستهدف هو الشريحة العليا من الطفولة فى مصر، لنبحث عن القواعد العامة للرقابة على المصنفات الفنية ونتحدث عن الحريات فى غير موضعها، بل وترتفع الأصوات الآن لتردد لفكرة أن تدخل الدولة بالانتاج السينمائى خطر، لأن السنيما من وجهة نظر بعض النقاد سوف تصلح من شأنها بنفسها، وهذا لن يحدث لأنها تعمل لصالح رأس المال غير المنتمى إلا للمكسب السريع، وهو لم تغره الملايين التى حققها فيلم جيد مثل الفيل الأزرق فى عيد الفطر الماضى، لأن تلك الموجة القائمة على البلطجى والمطرب الشعبى والراقصة واحيانا ما يكون معهم السفيه المضحك صنعت نجوماً لابد لها من سوق للعمل، وهؤلاء لا يعرفون من الفن إلا ادوار البلطجية والصياع والراقصات واللهو غير المباح، ولا مفر من استمرار هذه الظاهرة لأنها سوق للعمل المتاح لهؤلاء، ولأن رأس المال قد جرب تلك التركيبة العشوائية وحصدت الملايين وأنتجت نجوماً يمكن السيطرة عليهم لأنهم لا يسألون عن معنى الفن ولا قيمته ولا دوره، ولا يستطيعون تقديم فناً مختلفاً سوى هذا الهزل المتصل، ولذلك فتلك الظاهرة يجب أن تحاصر حقاً بصفتها قبحاً شديد الضرر يخرج بالتأكيد خارج دائرة حرية الإبداع، جرب مثلاً فى البلدان الديمقراطية الغربية أن تضع تمثالاً قبيحاً أمام منزلك، أو أن تجعل طرازه المعمارى مخالفاً بطريقة صارخة للاطار المعمارى للحى الذى تسكنه، وسوف ترى حجم المساءلة القانونية والمجتمعية التى ستتعرض لها، ولذلك يستحق هؤلاء أن يسألهم المجتمع والقانون عن إهدار الذوق العام وصناعة القبح لجنى الأرباح  إنها جرائم لا يعاقب عليها القانون المصرى، ثم تسأل أين كبار المخرجين والكتاب والفنانين، إنهم يقتاتون السأم فى البيوت، لاشك أن الدولة كما تملك صحفاً قومية لا يمكن الاستغناء عنها بجانب الصحف الخاصة والمستقلة، فيجب أن تستعيد دورها القوى فى الإنتاج الثقافى والفنى والاعلامى، وهو دور لا ينتمى للدول الشمولية، ولا يعبر عن احتكار الدولة للفكر والفن، ولكنه سيعيد التوازن المطلوب وسيصنع اتجاهاً عاماً سيجعل رأس المال غير المنتمى يفكر كثيراً فيما يفعل، ولا يصبح هو المحتكر الوحيد لإنتاج الفنون الجماهيرية، لنرى هذه الحالة الصارخة من اختفاء المسرح الاحترافى الجاد وظهور تلك الشرائط السينمائية العشوائية، إن تدخل الدولة فى ضبط عمليات انتاج الفنون وصناعة الذوق والرأى العام صفة من صفات الدول الحديثة، وليس الدول الشمولية، فالديمقراطيات الغربية الكبرى لم ترفع يدها تماماً عن الفكر والفن، ولكنها تقوم بالإنتاج والدعم والمراقبة والمحاسبة، وغير ذلك هو افتراء وتخويف، أما حرية الرأى والتفكير والإبداع فبلا شك هى مصونة وهى من مطالبنا التى نصر عليها ونريدها فى مصر المستقبل، أما ما نراه فى مصر الآن فهو إنتاج فنى يستبعد فى معظمه فكرة التنمية وإعادة ترتيب ملامح المجتمع المصرى وسلم قيمه لصالح مؤسسات اقتصادية عشوائية التكوين خفيفة الحركة تملك أموالاً كبيرة تدير بها حرباً لا واعية ضد المصالح الاجتماعية والاقتصادية والصورة الحضارية لمصر، بل وتدير دعايا كبيرة غير مقصودة لصالح تشويه صورة مصر الحضارية واختزال الشارع المصرى فى بلطجى وراقصة وقبح متصل، إنه مأزق كبير أن تترك الدولة الشأن الفنى والثقافى إما لبيروقراطية متهالكة تقوم على الصراعات الصغيرة وتستهلك الميزانيات المحدودة بلا عائد أو تأثير على الجمهور المستهدف  أو نتركه لاقتصاد السوق غير المنتمى، وفى عصر أصبحت الصور المسموعة المرئية أكبر وسيلة للدعاية والتأثير لابد للدولة أن تكون حاضرة ولا تخشى التهديد من تدخلها فى إنتاج الفن والثقافة من أن يصفها أحدهم بأنها دولة شمولية، لأن الدول الديمقراطية لم تترك فنونها حرة مطلقة فى يد من يملك ولا يعرف، بينما يظل من يعرف لا يملك إلا الصمت.. هذا لأن الصناعات الإبداعية حيوية شأنها  شأن المطارات والمجالس النيابية ومرافق التعليم العام.