الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

خدعة اسمها التقريب بين المذاهب




د. عبدالله النجار

لعلماء الشيعة كياسة فى التعبير ونعومة فى الكلام يمكن أن تستدرج من يستمع لهم بأن الباطل واضح البطلان صحيح، وأن الصحيح مؤكد الصحة باطل، كما أن لديهم من القدرة على الاقناع بالباطل ما يعسر على غيرهم فى ظل تلك اللباقة اللفظية والنعومة فى الكلام، وقد خرجت فكرة التقريب بين المذاهب فى إطار تلك الحلاوة الكلامية، فكان من السهل ولوجها إلى عقل علمائنا الأماجد الذين يتعاملون مع حقائق العلم والفقه بموضوعية ظاهرة لا عوج فيها ولا التفاف وليس بأسلوب الاستدراج الذى ينفرط من عقيدة «التقية» التى يقول فيها السيد رأياً وهو يقصد ما يخالفه، أو يبدى الموافقة وهو يضمر المخالفة، فلا تدرى حقيقة ما يريده، ولا تعرف فى أى مكان يقف، وإذا ما أجهزت عليه بالأدلة القاطعة بإنه يقف فى كان المخالفين لصحيح الدين، صدّق على ما تقول، وبادر إلى المكان الذى تقف فيه، وهو غير مقتنع به، ولا بمن يقضى فيه حتى يمر الوقت وتبقى الحال على ما هى عليه إلى أن يعثر على شخص آخر يمكن أن يقنعه بما يريد أن يدسه له بعيداً عن فكرة التقريب.
والخلاف المذهبى لا شية فيه، بل هو سنة كونية فطر الله خلقه عليها حتى يظهر  الحق من خلال تلاقح الأفكار المختلفة بما يتيح لكل صاحب رأى أن يراجع نفسه، وأن يقومِّ فهمه على ضوء ما يبديه الخصم من حجج، ولهذا كان الاختلاف المذهبى بين كبار الصحابة والتابعين دائمة المذاهب والفقهاء سبباً لازدهار علمى نضجت فيه الآراء ومهدت للعقول الواعية مناخاً علمياً صالحاً لإظهار ملكاتها، وممارسة مواهبها العلمية بما ينهض بالعلم ويرتقى بالأمم، ولو كان الخلاف المذهبى بين السنة والشيعة قد وقف عند حدود الاختلاف المذهبى الحميد الذى يخدم الإسلام ولا يخدم السياسة، وينهض بالفقه ولا ينهض بالمطامع، لكان مطلوباً على نحو مؤكد، ولعل السبب فى اقتناع بعض كبار علماء الأزهر الشريف بفكرة التقريب كان نابعاً من هذا المدخل، وهو أن يكون الخلاف بين السنة والشيعة خلافاً مذهبياً يخدم الإسلام والعلم، ولا ينحرف إلى المطامع أو السياسة، وكان النص على ذلك واضحاً فى حيثيات التقريب بين المذهب وفقاً لما نص عليه الذين روجوا لها من علماء الأزهر الأماجد ابتداء من الإمام الشيخ محمد المراغى والشيخ مصطفى عبد الرازق والإمام الشيخ عبد المجيد سليم، ثم من تابعهم من الفقهاء المعاصرين كالشيخ على الخفيف، والشيخ عبد العزيز عيسى، والشيخ محمد المدنى، والشيخ محمد الغزالى والشيخ سيد سابق وغيرهم، ومما قالوه فى هذا الصدد إن الإيمان بالوحدة الإسلامية لا يمكن أن يستقيم إلا فى ظل عقل فسيح الفكر رحب النظر، يستطيع فهم فقه الخلاف من خلال الحرية المذهبية الصحيحة المستقيمة على نهج الإسلام والتى كان عليها الأئمة الأعلام.
ومن خلال هذا المدخل الذى يصب فى صالح الإسلام وفقهه وعلومه تحمس الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق رحمه الله للفكرة، وشارك فى تأسيسها مع كبار علماء الشيعة الذين اقتنعوا بما تحمس له، قبل ولايته مشيخة الأزهر الشريف أو فى حينها كالسيد محمد تقى الدين القمى والسيد محمد الحسينى آل كاشف الغطاء والسيد شرف الدين الموسوى والسيد محمد جواد مغنية وغيرهم، وفى إطار ذلك الحماس النابع من الاقتناع بفكرة التقريب كمدخل يحقق صالح الإسلام وصالح العلم  ووحدة الأمة الإسلامية، أنشئت دار التقريب بالقاهرة 1947م، لتكون مقراً للنشاط الداعم لتلك المبادئ الإسلامية، ومنذ بدايات مولد فكرة التقريب فى أوائل القرن الماضي، لم يتحقق من تلك المقاصد شىء، بل اقتصر أمرها على اجتماعات تنعقد وتطرح فيها النكات العلمية والنوادر الفقهية، ثم تنفض دون عائد عملى يخدم فكرة الوحدة الإسلامية، أو زيارات يتقاسم اجتماعها طهران أو القاهرة يتعانق فيها العلماء ويستعرض فيها الجانب الشيعى نعومة ألفاظه  ولباقة كلامه، ثم تنفض تلك الاجتماعات بتوصيات ظاهرة أو اقتراحات باهرة، لكنها لا تتجاوز حدود الكلام الذى صيغت فيه أو الأوراق التى سطرت عليها.
ولعل من أهم أسباب التى تقطع بفشل فكرة التقريب بين المذاهب وعجزها عن تحقيق المقصود من ورائها أموراً:
أولها: أن مسمى التقريب بين المذاهب ينطوى على معان يصعب على الباحث الموضوعى فى مجال العلوم الشرعية أو الفقهية أن يتقبلها أو ان يقتنع بها فى إطار الخلاف المذهبى القويم، والذى ينبع من أصل شرعى واحد، فالتسمية تشير إلى أن ثمة بعداً شاسعاً بين رأيين يصعب التأليف بينهما أو إرجاعهما إلى أصل شرعى واحد، بل إن البون الشاطع بين المذهبين اقتضى فسخ الأصول الشرعية التى تستنبط منها تلك الفروع الفقهية التى يراد التقريب بينها، ودفع بعض غلاة الشيعة لأن يقولوا باختلاف المصاحف، أوأن يستبعدوا الأحاديث المروية عن طريق آل البيت، أو تلك التى رويت عن أم المؤمنين عائشة بنت أبو بكر وعمر   وعثمان وغيرهم من كبار الأئمة ونقلة الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم - ومن ثم فإن الخلاف لم يقتصر على الفروع، بل تطاول إلى أصول الدين فشطرها وأهدر الكثير منها، وقد جاء المسمى موائماً لذلك الواقع المر، فاكتفى بمجرد التقريب، وكأنه يقرب بين عدوين لدودين أو شخصين متنافرين، وليس هذا من طبيعة الخلاف المذهبى القويم، والذى يمكن التأليف أو حتى التقريب فيه.
 ثانيهما: أن من أصول المذهب الشيعى التقية والإمامة، وفكرة التقية لها فهم موضوعى ينافى فهمها عند المؤمنين بها، والفرق بين الفهمين شاسع وفسيح، وباختصار شديد فإنه يمكن أن يفهم على أنه كالخلاف بين الإيمان والانفاق، وأما فكرة الإمامة فإنها تضفى على المرجعيات الدينية وأئمة المذهب قدسية بالغة تبيح لهم القول فى الدين بما يريدون أن يقولوه حتى ولو بلغ حد الاستفزاز المنافى لما هو مستقر فى قلوب الناس من أصول الاعتقاد الصحيح، فقد اختصموا الائمة بعلم لا يدانيهم فيه نبى مرسل ولا ملك مقرب، وكان الإمام الكلينى يرى أن علم الإمام يفوق علم النبى، فما جاء الخمينى انتهى إلى أن الإمام يعلم ما لا يعلمه النبي، وقد يعلم ما لا يعلمه الله، وانه لا يموت إلا باختياره، ومثل هذه الآراء المتطرفة وغيرها من القول السفيه على أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، وعلى أبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم يقطع بأن التقارب عسير، وإذا ما تداخلت التقية مع الإمامة يقولون إن المعتدلين لا يقولون بذلك وأن تلك الأقوال العسيرة من تعبيرات المتطرفين الذين انتهى أمرهم، وفى النهاية لا تجد لتلك الكلمات معنى ولا للوعود بمنعها صدى أو أثراً.
ثالثها: إن الخلاف المذهبى لم يقف عند الحدود الفقهية النافعة لخدمة الإسلامة ووحدة المسلمين بل تعدى ذلك إلى اقتحام فكرة التقريب لتكون أشبه بالقوة الناعمة التى استغلت مازالت تستغل لخدمة المد السياسى ونشر النفوذ الإيرانى فاحتلت الجزر الإماراتية فى وضح النهار، وأصبح المد الشيعى يعبث فى العواصم العربية بالشام، والشرق والجنوب وحاول أن يثبت وجوده بالقاهرة فتأبى عليه وعى المصريين ولكنه مازال يحاول وسيظل يحاول إلى الرمق الأخير.
لقد أثبتت فكرة التقريب نجاحها فى مجال المد السياسى والتوسع الإيراني، لكنها لم تفلح فيما أنشئت له من خدمة الإسلام والعلم وتحقيق وحدة المسلمين، ولهذا ثبت أنها خدعة كما نطق عنوان المقال، ويتعين أخذ  هذا فى الاعتبار.