الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

الأديب الشهيد: من التنوير إلى التكفير!




عاطف بشاى

الأديب الشهيد سيد قطب، هكذا كان يسميه الإخوان فى كتاباتهم وتقول الدكتورة فاطمة سيد احمد رئيس تحرير جريدتنا الغراء «روزاليوسف» وصاحبة الكتاب المهم «ماذا لو حكم الإخوان» الذى صدرت طبعته الأولى عام 2008: إن الوصف له دلالة واضحة إذ إن الإخوان يعتبرون مصدراً للإيحاء الفكرى فقط، لكنه لم يصل لديهم إلى مرتبة «الملهم» أو «القائد» لدرجة أنه عندما وضع بنفسه أسساً لتكوين جماعة يكون هو ملهمها «البعث الطليعى» لم يستطع أن يستقطب إلا مائة فرد، وكان ذلك من داخل السجون فهو غير قادر على الاحتواء كقائد، لكن لديه القدرة على الإيحاء بأفكار يمكن للبعض اعتناقها والعمل بها أو وضعها فى إطار تنفيذى أوسع كما فعلت بعد ذلك الجماعات المتطرفة باستخدام الإرهاب والعنف.
وبناء على التسمية السابقة «الأديب الشهيد» يمكننا أن نفسر ما تردد كثيراً أن أديبنا الكبير نجيب محفوظ كان على صلة به، وهى صلة يحددها محفوظ بأنها أدبية أكثر منها شخصية أو إنسانية، وقد أوضح للناقد الكبير الراحل رجاء النقاش أن سيد قطب كان أول ناقد أدبى انتبه إلى أعماله وكتب عنها فى الأربعينيات من القرن الماضى وتعرف عليه فى ذلك الوقت حيث كان يجىء بانتظام للجلوس مع مجموعة الأدباء والنقاد أصدقاء نجيب محفوظ فى كازينو «أوبرا» وتميز سيد قطب فى تلك المرحلة بتحرره وذكائه وموهبته الأدبية، خاصة أنه كان من تلاميذ العقاد المخلصين ويواظب على حضور ندوته الأسبوعية ومتأثرا به فى كتاباته، والعقاد هو الذى توسط له لدى النقراشى باشا لإرساله فى بعثة دراسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1947 وقد أوفدته وزارة المعارف إلى أمريكا للإطلاع على مناهج التعليم ونظمه، وظل هناك عامين ثم عاد إلى مصر عام 1950 وعين فى مكتبه دار المعارف بوظيفة مراقب مساعد للبحوث الفنية، ثم قدم استقالته عام 1952، ثم حكم عليه بالسجن 15 عاماً، عام 1954 حين جرت محاولة اغتيال جمال عبدالناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية «26 أكتوبر 1954» وتم القبض عليه ووجهت إلية تهمة كتابة المنشورات السرية للإخوان منذ الثورة ومنها نشرة بعنوان: «الإخوان فى المعركة» جاء فيه «يشيع فى بعض الأوساط المطلعة على بواطن الأمور ان رئيس الحكومة المصرية عقد اتفاقاً سرياً مع إسرائيل على الأسس الآتية:
أولاً: أن تقف إسرائيل موقف الحياد من النزاع المصرى – البريطانى.
ثانياً: أن تقف الحكومة المصرية على الحياد من أى نزاع بين إسرائيل والدول العربية الأخرى، فاذا ما صحت هذه الأخبار فإنها تكون كارثة.
ثم أفرج عن سيد قطب بعفو صحى عام 1964 حيث توسط له الرئيس العراقى عبد السلام عارف لدى جمال عبدالناصر فعفا عنه بعد ان قضى فى السجن عشرة أعوام وعقب خروجه من السجن ذهب نجيب محفوظ لزيارته بصحبة آل السحار، حيث فوجئ بالتحول الكبير فى شخصيته، وأفكاره فقد كان نجيب يعده لسنوات طويلة من رواد الاستنارة والفكر الجرىء المتحرر فإذا به حينما تطرق الحديث إلى الدين والمرأة والحياة الاجتماعية، رأى أمامه إنسانا آخر حاد الفكر متطرف الرأى يرى إن المجتمع قد عاد إلى الجاهلية الأولى وأنه مجتمع كافر لا بد من تقويمه بتطبيق شرع الله انطلاقاً من فكرة الحاكمية».
لم يدخل معه نجيب محفوظ فى جدل أو نقاش حول تلك الافكار، فماذا يفيد الجدل  مع رجل وصل إلى تلك  المرحلة من الاعتقاد المتعصب.
وقيل ان هذا التحول قد اصابه أثناء وجوده بالبعثة، وتحديداً فى عام 1949 عندما اغتيل حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين بتدبير البوليس السياسى، حيث أطلق عليه الرصاص وهو خارج من جمعية الشبان المسلمين بشارع رمسيس، وعقد سيد قطب وقتها العزم على أن يحمل المشعل من بعد الإمام ليواصل رسالته المروعة. والحقيقة أن ما لاحظ نجيب محفوظ من تطرف سيد قطب يتسق تماماً مع أمرين:
أولاً: آراؤه المكتوبة فى مقالاته ورسائله من أمريكا التى يعلن فيها أنه يحتقر ويكره الغربيين جميعا وبلا استثناء ويكره ويحتقر المصريين والعرب الذين يثقون بالأمريكيين أو الفرنسيين أو أى غربى.
يقول الاستاذ حلمى النمنم فى كتابه عنه: «منذ أن صعد الباخرة من الإسكندرية إلى أمريكا قرر فيما يبدو ألا يرى فى رحلته إلا ما يعزز حالة الكراهية والاحتقار لديه، لقد كان هناك ما يمكن أن يجعله يعيد النظر فى تلك الكراهية، لكنه لم يشأ ذلك».
ثانياً: قراره الابتعاد عن النقد والأدب، ففى رسالة إلى صديقه وتلميذه الناقد أنور المعداوى يقول له: هنا الغربة.. الغربة الحقيقية غربة النفس والفكر.. هنا فى تلك الورشة الضخمة التى يدعونها العالم الجديد، لم ألمح هنا وجهاً إنسانيا يعبر عن معنى الإنسان أو نظرة إنسانية تطل منها معانى الإنسانية، لكننى وجدت القطيع فى كل مكان.. القطيع الهائج الهائم، لا يعرف له وجهة غير اللذة والمال، لذة الجسد الغليظة التى ترتوى حتى تهمد وتهدر ريثما تستيقظ فى سعار ورغبة المال التى تنفق الحياة كلها، خيرها وشرها، ليلها ونهارها فى سبيل الدولار.
وحينما قبض على سيد قطب عندما اكتشف تنظيم الإخوان فى الستينيات وحوكم محاكمة عسكرية وصدر الحكم عليه بالإعدام فى 21 أغسطس 1966 وصدق رئيس الجمهورية على الحكم الذى تم تنفيذه بسرعة فجر يوم الاثنين 29 أغسطس 1966 بتهمة المؤامرة لقلب نظام الحكم، عرض عليه أن يكتب التماساً إلى الرئيس جمال عبدالناصر يطلب العفو قال قولته المأثورة: إن كنت سجنت بحق فأنا ارتضى حكم الحق، وان كنت سجنت بالباطل. فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل، الطريف أن الأستاذ حلمى النمنم فى معرض بحثه فى السيرة الذاتية لسيد قطب اكتشف ان تلك العبارة السحرية الآسرة حول «حكم الحق.. وحكم الباطل» لم يقلها سيد قطب وليس لها أساس من الصحة، لكنها مدسوسة عليه، ومنسوبة إليه، اخترعها بعض مريديه وروّجوا لها ووضعوها كشعار جاذب، إنهم إذًا يكذبون منذ زمن بعيد.
 يقول نجيب محفوظ حول هذا الحكم:
لم أتوقع أبداً تنفيذ الحكم، وظننت ان مكانة سيد قطب سوف تشفع له وإن لم يصدر عفو عنه فعلى الأقل سيخفف الحكم الصادر ضده إلى السجن المؤبد على الأكثر، ثم يخرج من السجن بعد بضع سنوات، وخاب ظنى ونفذ حكم الإعدام بسرعة غير معهودة أصابتنى بصدمة شديدة وهزة عنيفة، فرغم الخلاف الفكرى بينى وبينه فإننى كنت أعتبره حتى اليوم الأخير من عمره صديقاً وناقداً أديباً كبيراً كان له الفضل فى الكتابة عنى ولفت الأنظار إلى فى وقت تجاهلنى فيه النقاد الاخرون، ولتأثرى بشخصية سيد قطب وضعتها ضمن الشخصيات المحورية التى تدور حولها رواية «المرايا» مع إجراء بعض التعديلات البسيطة، لكن الناقد المدقق يستطيع أن يدرك أن تلك الشخصية فيها ملامح كثيرة من سيد قطب.
إنها النهاية المأساوية لشاعر وأديب وروائى وناقد، فضل ان يدخل التاريخ باعتباره الرائد الأول والمؤسس الأكبر لافكار الارهاب والتكفير فى مصر.