الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

الحكم الشرعى للكتابة على الحوائط




كتب : د. عبدالله النجار

انتشرت فى الآونة الأخيرة ظاهرة الكتابة على الحوائط حتى كادت تصبح ظاهرة يغلب عليها الاستفزاز لاسيما تلك الكتابات التى تتضمن سباباً أو تحمل شتائم معينة بالتصريح أو بالتلميح وتكون موجهة نحو هيئات معينة أو  سلطات محددة أو أشخاص معروفين بصفاتهم  أو أسمائهم، فإن هذا النوع من الكتابة على الحوائط يمثل شكلاً حاداً من الاستفزاز للمجنى عليهم بتلك الكتابات، وللمجتمع  الذى يطالع تلك الكتابات القبيحة، فيشعر أن حياءه قد خدش، وان الأخلاق والفضيلة قد أصبحتا قاب قوسين أو أدنى من التلاشى والضياع، وأن المجتمع قد أصبح على شفا الانجراف إلى تيار من الرفث والفسوق لن يثمر خيراً على الكاتبين والمشتومين بكتاباتهم على الحوائط، ولن يجد أحد فى ذلك السلوك سوى الحزن والخسران.
وقد استفحلت تلك الظاهرة حتى أصبح بعض الجناة الفاعلين لها، لا يسيرون إلا وهم يحملون أقلاماً غليظة ليست لكتابة العلم النافع أو النصح المفيد أو الإرشاد إلى طاعة الله تعالى، أو الدعوة إلى العمل الصالح، وانما لكتابة تلك النداءات التى لا تتحملها أخلاق أدنى الناس ثقافة، وأقلهم علماً، وأدناهم فهماً أو إدراكاً للأمور، فإذا ما اتيحت له فرصة الكتابة على الحائط يخلو الطريق من المارة، أو انعدام من يستطيع أن يراهم ويخبر عن أشخاصهم، بادر إلى تقيؤ ما تفرزه أخلاقه من تلك البذاءات التى يطالعها المارة على الحوائط، حين يدب النشاط فى الطرقات، ويبدأ الناس صباحاً جديداً، فتطاردهم تلك الكتابات التى تشبه فى قذارة معناها ونتن رائحتها ما يفرزه الناس فى الخلاء أو يفرغونه فى أفواه الكنيف.
ولا محل للمقارنة بين تلك الكتابات البذيئة، وبين ما يكتب على الحوائط من اللافتات الجميلة، والمعلقات التى تحمل قيماً رفيعة، أو نصائح سديدة، أو حكماً غالية، فشتان ما بين الأمرين، لأن الفرق بينهما كالفرق ما بين السماء والأرض، وإذا كانت تلك المعلقات التى تنشر على الناس مثل تلك المعانى السامية مشروعة ومباحة، لأنها لا تكتب فى الظلام، ولا ترفع عندما تخلو الطرقات من المارة، وانما ترفع فى ظل فرحة الجميع بها، وحبهم للمشاركة فيها، وهى تمثل نشراً للقيم الرفيعة والمبادئ السامية، ومثل هذا يدخل فى باب النشر المطلوب، بل الواجب، إذا كان يوجه الناس نحو الخير أو يرشدهم إلى طريق الأمان والسلامة، أو يذكرهم بطاعة الله والخشية منه.
أما الذى يثير الحيرة ويحتاج إلى إزالة الالتباس عنه، وتوضيح حكمه، فإنه يتمثل فى النوع البذىء من الكتابات، والذى سبق أن أشرنا إلى موضوعه، وألمحنا إلى طرق من النتن والعفونة.
ومن المهم لبيان حكمه الشرعى ان نبين طبيعته، ثم نوضح بعد بيان تلك الطبيعة أحكامه الفقهية، لا سيما ما يتعلق بالعقاب الشرعى المقرر له سواء أكان ذلك العقاب عاجلاً فى الدنيا أم آجلاً فى الآخرة.
أولاً: الطبيعة الفقهية لكتابة الفحش على الحيطان
وكتابة الفحش والسباب على الحيطان، تمثل عدة جرائم متداخلة ومتشابكة، ومترابطة فيما بينها، بما يجعلها فى مجمل أمرها مشروعاً إجرامياً متكاملاً.
فهى من جهة تمثل نشراً للفحش فى الذين آمنوا، والله عز وجل قد توعد من ينشرون الفحش على هذا النحو بالعذاب  الأليم فى الدنيا والآخرة، فقال سبحانه «إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة»، كما أنها تمثل اعتداء على الأعراض بالسباب والشتائم والبذاءة، والاعتداء على الأعراض بالشتائم فيه نشر للفحش، مضاف إليه الاعتداء على العرض،  والاعتداء على العرض يعادل عاره، وشناره وإثمه الاعتداء على الحياة، وذلك ما يفيده استواء حرمة العرض مع استواء حرمة الحياة فى حديث النبى - صلى الله عليه وسلم - إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا فى بلدكم هذا اللهم قد بلغت اللهم فاشهد»، فجعل حرمة العرض لكل إنسان كحرمة الحياة، وإذا كان الاعتداء على الحياة يمثل قتلاً فعلياً، فإن الاعتداء على العرض قتلاً أدبياً، أو قتلاً حكمياً لا يقل عن حرمة القتل الحقيقى فى التحريم والاثم الأخروى، وان كان العقاب الدنيوى يختلف فى حالة القتل عنه فى حال الاعتداء على العرض، فالقتل قد يكون عقابه القصاص أو الدية، والقذف أو السب، يكون عقابه الجلد ثمانين جلدة لقول الله تعالي: «والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً واولئك هم الفاسقون»، فقد حكم الله عليهم بالفسق، وقضى بعدم قبول شهادتهم أبداً لأنهم بالقذف أصبحوا غير عدول لا يصح أن يثق أحد فيهم، إضافة إلى الجلد ثمانين جلدة، كما انه يمثل ازدراء للناس، وهم عباد الله الذين أصبحت لهم الكرامة بقوله تعالى: ولقد كرمنا بنى آدم، فمن كرمه الله فى دنياه وآخرته واثبت له تلك الكرامة فى كتابه لا يجوز أن يكون محل ازدراء أو هزء من أحد حتى لو كان مذنباً، لأن ذنبه له حكم حدده الشارع إذا ثبت عليه الذنب، وهو العقاب المحدد، ولا يجوز أن يكون العقاب مهدراً للكرامة فما بالنا إذا كان المستهزأ به راسخ العدالة موفور الاحترام من كافة خلق الله أو من معظمهم؟، كما ان فيه سخرية ممن لا يجوز أن يسخر منه لانه قد يكون خيراً من الساخر، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن. وفيه ذريعة إلى الفتنة ونشر العداوة والبغضاء  بين أبناء الأمة بما يهدد بلدهم بالانقسام، ويلحق بحياتهم ودينهم المخاطر.
ثانياً: الأحكام العقابية لتلك الجرائم:
وهذه الجرائم التى أوجدها النشر على الحوائط، والكتابة الحقيرة على الجدران مرتبطة ومركبة ومتداخلة، وهى تمثل اعتداء على حقوق الله، لأن التعدى على كرامة عباد الله يتطاول إلى التعدى على الله صاحب الحق فى أبدان عباده وأقدارهم، كما أن فيها اعتداء على حقوق العباد، ولهذا كانت الآثار الإجرامية الناشئة عن تلك الكتابات ماسة بحقوق الله ومضيعة لحقوق عباده، وليس لمن قاموا بها مبرر ظاهر، أو سبب مقنع، سوى إظهار ما فى قلوبهم  من غل وما تنطوى عليه نفوسهم من غيظ ورغبة فى الانتقام والاضرار بالأبرياء.
والجرائم المركبة أو المرتبطة تستحق العقاب المقرر لكل منها فى  الدنيا على حدة، وهذا العقاب يبدأ بالجلد ثمانين جلدة، ثم يتطور إلى التعزير بما يجبر المساس بالعرض والسخرية من الناس والفتنة، والعرض يساوى الحياة فى القيمة، وفى التعدى عليه، وهذا العقاب قد يكون بالسجن المشدد أو المخفف بحسب مقدار القذارة فى الكتابة، وقد يكون من التعزير الضرب بما يهين، حتى يكف الجانى عن جنايته.
وهذا العقاب لا يحول دون التعويض العيني، كالاعتذار للمجنى عليه، أو تقبيل رأسه، أو الاعتراف بأنه سيدهم وتاج رءوسهم، وانهم كانوا حمقى حين استباحوا لانفسهم هذا الإجرام المسف، ثم بعد ذلك يتوبون إلى ربهم توبة نصوحاً، وبعد ذلك كله يبقى عليهم عقاب الدنيا وعذاب الآخرة.