الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فى «الكباريهات» للصبح!

فى «الكباريهات» للصبح!
فى «الكباريهات» للصبح!





وليد طوغان

فى القرن السابع عشر، توصل «جاليليو» إلى أن نظرية اليونانى  «كوبرنيكوس» فى ثبات الشمس، ودوران الكواكب حولها صحيحة. كان فكرًا جديدًا.. وجديرًا بالاهتمام، لكن «الدوجماتيك» من رجال الدين ، الذين  كانوا يحتكرون فكرة دوران الأجرام السماوية، بما فيها الشمس على أساس تفسيرات الكتاب المقدس؛ اتهموا «جاليليو» بالإلحاد.. وحولوه إلى محاكم التفتيش بوصفه واحدًا من الهراطقة والمجدفين.
«الدوجما» لفظ يونانى، معناه الأول «حقيقة» أو «مبدأ». ثم حولته  المجامع المسيحية المقدسة إلى لفظ مرادف  «للحقيقة الوحيدة» أو «المبدأ الصحيح»،  يخرج  كل من يخالفه من المسيحية..  تمامًا كما يوصم  فى الإسلام منكر «المعلوم من الدين بالضرورة».. بالكفر.  
كانت «الدوجماتيكية» كارثة؛ تماما مثلما الأصولية الدينية مصيبة.
«الأصولية» اشتقوها من «الأصول»، وهو تعبير إنجيلى مأخوذ من مصطلح «الأساس الدينى الصحيح». وعُرف الأصوليون بأنهم الذين على استعداد لخوض أى معارك للحفاظ على «الأصول فى الدين» كما يرونها.
بمعنى آخر؛ الأصوليون كانوا على استعداد دائم  للقتال، وسفك الدماء، للحفاظ على ما يعتقدون  أنه أساس دينى؛ لكن هذا لا يعنى بالضرورة،  أن ما يعتبرونه  «أصلاً» هو فى الحقيقة كذلك.
الفكرة لدى الأصوليين أن حقائق الإيمان، وافتراضات المفسرين الذين ظهروا قبلهم لا يمكن أن تخضع للنقد أو النقاش، حتى لو تطورت الظروف وتغيرت المجتمعات..  وظهر ما يستلزم التغيير.
رفض الأصوليون المسيحيون مثلًا أفكار مدارس «نقد الإنجيل» التى ظهرت نتيجة ملاحظة الاختلافات فى تواريخ وأسماء المدن بالترجمات المختلفة للكتاب المقدس.  رفض الأصوليون مناقشة وجهات نظر نقاد الإنجيل فى ضرورة اعتبار الكتاب المقدس تسجيلًا لتطور تاريخى دينى. فقد  رأوا أن الفكرة التى يحاول نقاد الإنجيل بحثها تخالف ما استقر عليه المسيحيون الأوائل من مسلمات.
رفض الأصوليون التأويلات الجديدة للنص الدينى، هو الذى أدى لاستمرار  الصراع فى أوروبا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر بينهم وبين مدارس العقلانيين. فالعقلانيون رفضوا مسلمات رجال الدين، واعتبروا أن إعادة فحصها على أساس رؤية جديدة للكتاب المقدس لا يمكن ان يكون إثماً..  ولا خروجاً عن الدين.
الصراع بين أفكار «جاليليو» وأفكار الأصوليين  كان صراعًا بين «الدوجماتيكية» وبين «الاجتهاد العقلى» و«التفكير المنطقى»..  قابله الدوجماتيك بالتكفير. لكن أفكار «جاليليو» ظهر اتساقها الكامل مع الحقائق العلمية فيما بعد. كانت هى الحقيقة ، بينما لم يكن صحيحا ما قال الأصوليون انه موحى من الله!
تمسك الأصوليون بالتفسير الحرفى للكتاب المقدس، وما التف حوله من تراث صنعه رجال قبلهم، ورفضوا الاجتهادات العقلية بينما رفض «العقلانيون» التمسك بحرفية تفسيرات الكتاب المقدس القديمة؛ لأنهم رأوا أن إعادة تفسير نصوصه وفقًا للمنطق واجبة.
وفيما ظل الصراع مشتعلا فى أوروبا؛ ظهرت حركة إصلاح دينى مؤثرة قادها «مارتن لوثر» الذى طالب بإعادة تقييم الأصول الدينية، وإعادة تأويل النص المقدس بعد تدمير ما سمّاه بـ«الأسوار الثلاثة» التى تقف فى الطريق للإصلاح الدينى.
«سلطة رجال الدين» كانت السور الأول الذى رأى «كينج» أن عليه تدميره. لم يقصد «كينج» احتقار الكهنة، أو ازدراءهم، إنما اعتقد أن خضوع أفكار رجال الدين للفحص لا يؤثر على هيبتهم كما كان يرى المجتمع ذلك الوقت.
وشن «لوثر» هجومًا شديدًا على عصمة الكهنة والبابا. قال إن رجال الكهنوت كثيرًا ما يلعبون بالعامة لأنهم وحدهم أصحاب سلطان تأويل النص. يتلاعبون أحيانًا بالألفاظ والمفردات، وأحيانًا بالحقائق.. ويقنعون  الناس، ثم فجأة يظهر أن الكهنة ليسوا على حق، وأن طريقة كثيرين منهم فى الاستدلال لم تكن صحيحة.
ولما ردّ الكهنة بعصمة البابا من الخطيئة، وقالوا إنهم لا يمكن أن يخطئوا لأن البابا يراقبهم، والبابا لا يخطئ؛ رد «لوثر» بحملة  أخرى  على مبدأ العصمة.
قال أن ميلاد البابا، ووظيفته، لاحقان على نزول  الكتاب المقدس.  فالإنجيل أقدم من البابا، وتشريعات الله صدرت قبل ميلاد البابا، فإذا كان البابا معصومًا من الخطأ، بشكل يمكنه من إدارة حياة المؤمنين من دون تشريع؛ فما الحاجة إذا للكتاب المقدس؟ وما نفع الإنجيل إذا كان البابا يعلم ما يحاول الإنجيل شرحه للمؤمنين وغير المؤمنين؟  
قال لوثر ؛ أنه إذا أتى الكاهن بفعل خطأ، فالعيب ليس فى الدين، إنما فى البشر. وقال إن تعاليم الكهنة لا يمكن ان تكون هى الدين، وإذا أتى البابا بما يظهر انه مخالف لتعاليم الإنجيل؛  من حق المؤمنين الوقوف إلى جانب روح الإنجيل..  وليس فى صف تعاليم البابا.. لمجرد انه البابا!
وفى احدى خطبه، قال لوثر ان احتكار البابا ورجال الدين تأويل الإنجيل لا يجب أن يكون مسلمة دينية؛ لأنه من حق جميع المؤمنين تأويل الآيات المقدسة، على ان تبقى تلك التفسيرات اجتهادًات  قابلًة  للرد  فى أزمان تالية سواء بالحذف أو الالغاء.
أضرت «الدوجماتيكية» بالعقائد والأديان. ورغم الحركات العقلانية الكثيرة التى دخلت فى صراع شديد مع الدوجماتيك؛ فإن «احتكار الحقيقة» ظل سمة أساسية من سمات المجتمعات الأصولية.. لماذا؟ وما هى الأسباب؟ للآن لا نعرف.  
 لكن احتكار الحقيقة هو الذى أدى بالمشايخ المسلمين إلى إعلان إغلاق باب الاجتهاد فى الإسلام فى القرن الرابع الهجرى.. بلا سبب ولا منطق. ولمّا فعلوا؛ دخل المسلمون عصر «التقليد»، فتم الاكتفاء بالأدلة الشرعية، والأحكام الدينية التى شرعها الأولون، فزاد التعصب وتعالت نبرة «التخويف» والإرهاب،  فى الوقت الذى كان فيه معظم الحضارات لا تؤمن بحقيقة مطلقة، أو بنظرية واحدة.. حتى فى الدين.  
هم طلعوا القمر.. ونحن طلعنا الهرم.. نركب خيل ظهرا، وننام فى الكباريهات.. حتى مطلع الفجر!