الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

مبارك .. والثعبان الأقرع

مبارك .. والثعبان الأقرع
مبارك .. والثعبان الأقرع




سراج وصفى

 لا يعرف سيادته كم من الوقت استغرق فى النوم. ولا فى اى مكان. السنوات الاخيرة كلها اخذت ماتبقى من وعيه وشعوره بالاحداث وبالناس وبالاشياء. يقول لنفسه. ربما نمت يومين كاملين. لا أشعر بجسدى. لا اعرف كيف احرك يدى ولا ساقى. لا أجد شيئا. كأن اولاد الكلب سرقوا جسدى ايضا. يمصمص شفتيه. أو هكذا يتخيل. وتخطفه ذكريات بعيدة. كأنه عاشها منذ قرون. كان يوم جمعة. ليس كباقى الجمع. لم أستيقظ على صوتها. ولم أتناول افطارى فى السابعة. ولم اراقب بعينى طوابير الخدم والحراسة. اختفوا جميعا. حتى هى بدت عجوز منكمشة ومرعوبة. لم أرها هكذا طوال حياتى. كيف ابقيها على العرش وهى سبب كل هذا الخراب. اطلقها مثلا. لا لا، فكرة سخيفة. هذا الكلام كله لا معنى له. هل كبرت فعلا ولم اعد ادرك خطورة ما اعانيه. لا خطورة ولا زفت. لن يتركنى المجلس. انا قائده الاعلى. لكن لن انسى هذا التصرف الغبى. اجتمعوا بدونى. مااااشى. تنتهى هذه الايام وسأعاقبهم واحدا واحدا. سأنقل رؤساء الجيوش وقادة الاسلحة. حتى طنطاوى وعنان. سأعاقبهم. اصلا لن يستمر اى منهم ساعة واحدة. هل نسوا انفسهم. انا قائدهم الاعلى. انا الرئيس. انا. انا. يارب ، هل نسيت اسمى ايضا. ماذا فعلوا بى. هل سرقوا رأسى. اين هى. اين يدى اصلا لأتحسس بها رأسى. اين انا. يارب لا يوجد شىء حولى. هل مت. لا لا انا لا اموت. سأتذكر ماحدث جيدا. ووقتها سأعرف اين انا..
يظن نفسه تحرك قليلا. وبدل نومه من الجنب الأيمن الى الأيسر. يقول لنفسه هذا الوضع افضل. اشعر براحة غريبة فى جسدى. لا اعرف اين تحديدا. لكن اشعر بها. وتقريبا هذا المكان افضل. لقد تعبت من كل الاماكن التى حبسونى بها. من سرير المستشفى. وسرير الطائرة. وكرسى العجل. وقاعة المحكمة. ها ، لقد حاكمنى الرمم. شوية العيال ابناء الكلاب الذين احتلوا التحرير. وفضحونى بالشتائم والاغانى. كله بسببك يا عادل زفت. هههه. اسمه عادل فعلا ؟ وزير الداخلية. لا يمكن ان انسى اسمه. بالتأكيد عادل او عدلى. كان كاتم اسرارى. قربته اكثر من اللازم. وهو السبب ان باعنى الولاد فى الجيش. يخرب بيته هو سبب كل الكوارث. اوهمنى انه يسيطر على كل شبر. جعلنى انام واسترخى وارفض حتى قراءة تقارير المخابرات. وفى الاخر شوية عيال يسحلوه ويسحلونى معه. لكن طنطاوى هو الخاين. وعنان كنت اعرف انه يدبر شيئًا فى  زيارته لامريكا. ضحكوا على وصدقت ان الموضوع كله يومين وخطاب عاطفى يكتبه كارم احمد. وسأعود. باعونى وتركونى راقدا امام رئيس محكمة. لا احرك حتى اصابعى. وقالوا لى لا تتحرك. هاهاها. عفارم عليك يا تعلب فعلا محامى عقر. لن انسى جملتك الاخيرة «اعمل نفسك ميت ياريس». لكن حتى انت لم تنفعنى فى شىء. حاكمونى وادانونى واشعر الان اننى ميت فعلا. هل يقترب احدكم منى ويعطينى يدى لأحركها. او يلمس اذنى لأشعر بها. انا ميت فعلا ياتعلب. لكن اذا كنت ميتا. فأين الملائكة والشياطين والثعبان الاقرع. ألن يسألنى احد منهم. هل يحاسبون الرؤساء اصلا. هل اخبرتهم اننى من اقدم واقوى الرؤساء. لماذا لا ترد. هل مت مثلى. ام سويت الأمر معهم.  ها ، يبدو أنه لن يحاسبنى احد..
حاول ان يمط شفتيه. مثلما اعتاد ان يفعل. كلما شعر بالملل او القرف. خطفته ذكرى الشيخ حسن. مدرس اللغة العربية فى مدرسة المساعى المشكورة. عندما كان يجذبه من اذنيه ويدور به بين الكراسى. عقابا على هذه الحركة الغبية. اه لقد افلت منى. حك انك مت قبل ان ادخل الكليه الحربية. كنت نفختك يا حسن. لكن حسن ليس مهما الان. الاهم ان اعرف اين انا تحديدا. ان اتذكر ما حدث معى. اخر ما اذكره تاريخ 28 نوفمبر. انا اصلا اكره يوم 28 واكره الجمعة واكره الشتاء. من اليوم الذى سموه جمعة الزفت الغضب. ما الذى اغضبهم اصلا. حتى اليوم الذى سمونى فيه المخلوع كان جمعة. مقلب عمرى اخذته منذ صعدت الى طائرة شرم الشيخ. وتركت جمال وعلاء ولم اصدقهما عندما قالا أننى لن اعود. لكن هذه الجمعة 28 نوفمبر كانت الأجمل. ضحكت فيها كما لم افعل منذ سنوات. كنت استدعى الممرضات كل دقيقة لأضحك معهن. غدا يوم النطق بالحكم. وهذه المرة لن اضطر لتمثيل دور الميت. سأكتفى بالجلوس مبتسما. ولحظة أن ينطق بالبراء. سأرسل القبلات الى شعبى. لو استطعت لغنيت لهم. الملايين ستخرج لتحتفل وتعتذر وربما يطالبون بعودتى رئيسا. لكن لا لا. لن اعود. السيسى لن يسمح بذلك اصلا. ولا استطيع اقالته الان. ايضا لن استطيع التعامل مع كل هذه الازمات. لن يفيدنى صفوت ولا سرور ولا زكريا ولا حسنى سالم. مين حسنى ده. الأهم ان العيال الصيع اصحاب جمال لن يسمحوا بعودتى وحدى. سيفرضهم علي هو وامه. وستعود المشاكل. لا لا ، تكفينى البراءة والفرجة على نظرات الندم على ايامى فى عيون الناس. والاستمتاع بالاحداث اللطيفة. لكن المهم الان ان انام جيدا واستعد للحظة البراء. هههه لكن الجلسة تمت فعلا. وحدث ذلك منذ وقت بعيد جدا. غدا ليس 29. غدا يوم لا اعرفه ولا اذكر ما اصابنى طوال هذا الوقت. كل ما اشعر به كأننى مربوط بخيوط رفيعة. واحدهم يجذبنى ناحيته. لكنى لا اتحرك. او اتحرك ببطء. اريد ان ابتعد قليلا. لأنى اشعر كأن حشرات صغيرة تجرى تحت ابطى. اريد ان اهرشها. او يهرشها احد. اين ذهبت يا حيزبون..
عاصفة ترابية لفحت وجهه. وامتلأ فمه وانفه برائحة عفن صارخة. مد يديه ليحمى وجهه. وببطء شديد فتح عينيه ليرى ما حوله. تأمل اصعابه. حركها بعصبية. تسارعت نبضاته من السعادة عندما ادرك أنه مازال حيا. لكنه انتبه على رجلين عملاقين يقفان فى وجهه. يتفحصان ملامحه بدهشة واضحة. فكر لثوان وقال لنفسه. اكيد هما من طاقم الحراسة. لكنى لا اذكرهما. لا يهم. اخذ نفسا عميقا. وتعمد ان يخرج صوته غليظا وصارما. وقال : فين العربية يابنى انت وهو. حدقا فيه للحظة. قبل أن يصرخ احدهما: انت هتهزر عربية ايه. اغضبه الرد لكنه تماسك خوفا الا يكونا من طاقم الحراسة بالفعل. وقال بنبرة متوددة: انتو مش من حرس الرئاسة. فصرخ فيه العملاق الايمن: حراسة ايه ورئاسة ايه. انت فاكر نفسك على الارض. انت بتتحاسب يا محترم على اعمالك. خلاص احنا على مشارف يوم القيامة. وانت لسه خارج من البرزخ. شعر بروحه تسيل ببطء بين قدميه. وانتفض عدة مرات. تيقن خلالها انه ميت بالفعل. وأن لا حقيقة سوى ما يعيشه فى تلك اللحظة. حاول اكثر من مرة ان يحرك لسانه بأى كلمة. لكنه عجز.
انتظراه لدقائق. تبادلا خلالها حوارا هادرا بلغة لم يفهمها. اقترب منه العملاق الأيسر ووضع كفه الممتلئ على عظام صدره لثانية. وسأله بلهجة امرة. ما اسمك ومن ربك وما دينك ومن نبيك. وماذا فعلت فى حياتك. كم نفسا قتلت. وكم روحا ظلمت. وكم خطيئة ارتكبت. كم ارضا افسدت. وكم حريقا اشعلت . اقترب العملاق الاخر وازاح رفيقه بلطف ووضع كفه على عظام صدره واكمل الأسئلة : من يحميك اليوم. من يشفع لك. من يدفع عنك دينك. من يعفيك من ذنوبك. من يخلصك من خطاياك. من ومن ومن.. نظر لهما طويلا جدا. ظن انها سنوات مضت وهو يحدق فى ملامح العملاقين. وركبتاه ترتعشان من وهن. قبل ان يستجمع شتات روحه ويسألهما بيأس وخضوع : من انتما لو سمحتا لى بالسؤال. نظرا اليه بدهشة وقال العملاق الأيسر : نحن الملكان المكلفان بحفظ اعمالك وعدها عليك. وانا عن نفسى سجلت كل سيئاتك. حتى عظمت وفاضت. وهذا اخى سجل لك كل سيئاتك حتى عظمت وفاضت. اخذ نفسا طويلا. ومط شفتيه وسألهما بشيئ من التهكم: انتما الاثنان تكتبان سيئاتى. فمن كتب حسناتى اذن. نظرا إليه للحظات قبل ان يزلزلا الارض بضحكات مجلجلة ويقولا له فى صوت واحد: هى فين حسناتك دى اصلا !
الام البروستاتا رهيبة. سكين حاد يقطع اسفل البطن. اعتدل بقوة لا تناسب شيخوخته. واسرع بالوقوف محاولا ارتداء شبشب جلد اسود. لكن دوارا مفاجئا اصابه وألقى به على ارض الغرفة. انتفضت الممرضة المقيمة بجواره. صرخت فى الحراسة الموجودة خارج الغرفة. دخل ثلاثة أفراد ساعدوها فى حمله. بينما عيناه جاحظتان تجاه دورة المياه. حملوه ببطء. وهو يصرخ من احتباس البول. دخل بمفرده. لحظات ظل صامتا. وهو يتأمل جدران السيراميك الحمراء. خطر بباله انه ربما حكم عليه القاضى بالاعدام. تذكر سريعا ان النقض لا يأتى بعقوبة اشد مما حصل عليه. راودته فكرة البراء لم يشعر بنشوتها المعتادة. ادرك يقينا أن لا شىء يهم فى الايام الباقية. وأن عيال التحرير خدعوه ورجاله الاشاوس. ونفذوا حكم الاعدام عليه قبل سنوات. وأن اى براءة لن تفيده. لأن قدرا الهيا قد كتب. لن تغيره محاكم الدنيا. خرج الى سريره. ابتلع هزيمته. ونام..