الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

«كليم صّديقى».. الرافض للدولة القومية الحديثة

«كليم صّديقى».. الرافض للدولة القومية الحديثة
«كليم صّديقى».. الرافض للدولة القومية الحديثة




قدمت هذه الدراسة فى مؤتمر تربوي/ تعليمى عقد فى مكة المكرمة عام 1977، وقد نشرت عدة مرات فى دول مختلفة.
وفى أعقاب الثورة الإسلامية فى إيران، عام 1980، أضاف الدكتور صدّيقى إليها جملتين.
وقد آثرنا ترجمة النص الأصلى كما كتب أول مرة، وإيراد الجملتين الإضافيتين فى الهوامش، وذلك كما فصل محرر كتابات الدكتور صديق وفى عام 1980 أيضاً، أضاف التذييل التالى:
«منذ كتبت النسخة الأولى لهذه الورقة.. فإن الوضع التاريخى قد شرع بالتغير بهبوب الثورة الإسلامية من إيران لقد أنجزت الحركة الإسلامية بالفعل طفرتها الحيوية»،
ويمكن تقسيم حياة الدكتور صدّيقى إلى مراحل ثلاث:
مرحلة الناشط السياسى فى الهند وباكستان، ثم مرحلة ما أسماه كاتب سيرته وتلميذه ورفيقه (ظفر بنغش) التحرر من الأوهام بالغرق فى البحث والدراسة النظرية فى لندن، والتى يمكن اعتبارها مرحلة تمهيدية أو مرحلة تهيئة للمرحلة الثالثة والمحورية فى حياة الدكتور صديقى مرحلة اضطرام وجدانه بالعمل النظرى والحركى جنباً إلى جنب فى خدمة ما اعتبره «حركة إسلامية عالمية».
لقد كان رفض الدكتور صديقى لأطروحة الحزب السياسى ومنهجه فى «التغيير» وراء كتابة هذه الورقة التى أنجزها فى المرحلة الثالثة من حياته، فكتبها نقداً لمقارنة بعض المسلمين «الحداثيين»، ورفضاً لبنية الدولة القومية الحديثة، باعتبارها بنية غريبة وشاذة عن المنظومة القيمية الإسلامية ورؤيتها التوحيدية للأمة.
ولد كليم صديقى فى الهند «البريطانية» عام 1931، وتوفى فى جنوب إفريقيا عام 1996، وإذا كان القول باستحالة فهم هذه الحقبة بغير الرجوع لكتابات الدكتور صديقى ينطوى على مبالغة واضحة، إذ ليس ثمة أحد فوق التاريخ. فإن دراسة حياة الرجل وأعماله تفتح لنا باباً فريداً وزاوية متفردة الرؤية لفهم هذه الحقبة، لقد كان الرجل نتاجاً لهذه الحقبة كما كان دارساً لها.
فقد عاشها ودرسها وحللها واستوعبها بكل وجدانه، كما شارك فى تشكيلها جنباً إلى جنب مع أبناء جيله.
فجمع الجهد النظرى والحركة، وهى حالة نادرة فى أوساط المثقفين المسلمين فى الدولة ما بعد الكولونيالية.
إن أعماله لا يمكن فهمها وإنزالها منزلتها بغير إفراط ولا تفريط إلا فى هذا السياق التاريخى.
نشأ كليم صديقى وقضى سنواته المبكرة عندما كان الوجود البريطانى فى الهند يلفظ أنفاسه الأخيرة.. وانخرط فى صفوف عدة تنظيمات «إسلامية»، منها ما كان يسعى لإنشاء دولة إسلامية فى بعض أجزاء الهند «البريطانية» وبمجرد أن ظهرت دولة باكستان للوجود، أدرك صديقى أنه ليس ثمة فارق حقيقى بينها وبين الحكم الكولونيالى البريطانى الذى خلفته فانضم لاحقا لحركة الخلافة فى كراتشي، والتى كانت تسعى لتحويل باكستان لدولة إسلامية «حقيقية».
ثم أصبح محرراً لصحيفة «ذى إندبندنت ليدر» (1)، لينتقل مع بعض رفاقه فى الحركة إلى لندن فى بواكير عام 1950، رغبة منه فى مواصلة دراسته بما يعزز خدمته للحركة، فحصل على درجة جامعية فى الاقتصاد، وتلاها بالدكتوراه فى العلاقات الدولية عام 1972 دارساً ومتفحصاً للتطورات الباكستانية فى عهد الدولة «المستقلة»، فى ضوء محددات ومعالم ومعايير الحكم فى العهد الكولونيالي، فضلاً عن تاريخ النخبة الباكستانية ودورها فى تشكيل دولة باكستان وأولوياتها السياسية فى دولة ما بعد «الاستقلال»، وقد كان نشر كتابه الأول (2) كاشفاً لطبيعة النخبة الباكستانية الحاكمة، وانبطاحها التام للغرب.
وبرغم أن هذا الكتاب قد ألف بعد اكتمال رسالة الدكتوراه، وتأسست أطروحته على ما بدأه فى الدكتوراه، فإنه نشر قبله فى لندن ونيويورك عام 1972، بينما لم تنشر رسالته إلا عام 1975.
ولعل أكثر ما يثير الدهشة بخصوص الدكتور صديقى هو محدودية انتشار كتاباته، فأقل القليل مما نشر عنه بعد وفاته قد أشار لانتاجه الفكرى إلا من لمحة عابرة وأكثر من عرفوه عن قرب قد ضخموا نشاطه السياسى ودعمه للثورة الإسلامية فى إيران، وكتاباته التى تصب فى تجديد الحركة الإسلامية ومفاهيمها ومجال حركتها، والمعاهد والمؤسسات المهمة التى أسسها مثل «مسلم أنستيتيوت فور ريسرش آن بلاننغ» 1977 ومسلم برلمان أوف غريت بريتان، 1992 لقد كان هذا النشاط بالتأكيد جزءاً محورياً من حياته، لكن تظل درة أعماله هى تحليلاته الفريدة وفهمه العميق للتاريخ الإسلامى، والوضع الحاضر الذى يواجهه المسلمون.
وهو ما طوره وقدمه فى سلسلة من الكتابات المفتاحية والمحاضرات طوال ما يزيد على 25 عاماً من حياته.
ونتيجة التعتيم الإعلامى الذى غذته الخلافات الأيديولوجية المذهبية ومنظرى الحركة الإسلامية، فظل مجهولاً للقارئ والمثقف المسلم الناطق بالعربية، برغم حاجة الأخير لهذه الأفكار أكثر من غيره.
وتتميز أعمال صديقى بأسلوب واضح صارم صادم إلى حد ما، لكنه عميق التحليل ثاقب الرؤية، وهو إن كان يرفض النظام السياسى الغربى المفروض على الأمة منذ رحيل الاستعمار العسكرى المباشر، فإنه لا يلقى الكلام على عواهنه، بل يبين بدقة وحذق أستاذ العلوم السياسية، وبإخلاص المسلم، لم كان هذا الشكل من التنظيم السياسى مناقضاً ليس لأهداف الأمة ومعرقلاً لمسيراتها فحسب، بل هو مناقض للإسلام اتبداء.
لقد تنبأ صديقى بكثير من الظواهر التى استجدت على الحركات الإسلامية منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين، تنبأ بها ووصفها وحدد مكامن الضعف والفساد فيها، ومكامن القوة، بل إنه كتب ونظر لـ«الثورة الإسلامية» قبل انتصار الثورة الإيرانية بعدة سنوات، فكان انتصارها تحقيقاً لبعض مقولاته المهمة، ودليلاً على نفاذ بصيرته.
جمع كليم صديقى بين المنظر والناشط السياسى، فلم يعزل أفكاره الأصيلة والعميقة الجذور فى التربة الإسلامية عن الواقع المتردى، بل أجاد تمثلها والدعوة إليها بأسلوب جمع الجاذبية والإخلاص ولأنه كان صحفياً متميزاً قبل انخراطه فى السلك الأكاديمى، فقد أتت لغته بعيدة كل البعد عن الجفاف الأكاديمى، وسلسة النفاذ لهدفها مباشرة: إزالة الغبش والتشوش اللذين ساهم علماء الاجتماع «المسلمون» فى تكاثفهما بالمناهج والرؤى التى اجتلبوها من الغرب.
ويقول صديقى فى يوم من أيام شهر ديسمبر عام 537 للميلاد، اكتمل بناء كنيسة أيا صوفيا التى اتخذها العثمانيون مسجداً، ثم حولها الكماليون لمتحف هذا المبنى المسخ ليس شاهداً فحسب على ثلاث حقب، بل هو شاهد على النمط والتحول الذى ميز تلك الحقب.
ففى الحقبة المسيحية، يحل الإله فى الكنيسة، فتمتلئ بالأيقونات المقدسة، وتصبح هى مصدر الشرعية، فيخصص مكان لتنصيب الإمبراطور الرومانى خادم المسيحية.
هنا تهيمن الكنيسة والبابا على الدين والسياسة وفى الحقبة العثمانية، يحول محمد الفاتح المبنى إلى مسجد. فهو الأمير «المظفر» الذى أخبر به النبى (صلى الله عليه وسلم)، ليوظف «الكنيسة» الجديدة بعد أن ألبسها العمامة واتخذ لها «بابا»، سماه: «شيخ الإسلام» فالمسجد فى حقيقة الأمر هو أحد أورقة القصر الإمبراطوري، ليهيمن السلطان على الدين والسياسة، ويوظفهما لخدمة سلطانه.
وفى الحقبة الكمالية، يزيح أتاتورك كلاً من الكنيسة والمسجد، ويحولهما لمتحف «دينى»، متحف يرمز لمدى قوة السلطة الجديدة: سلطة الدولة القومية الحديثة، هنا لا يوجد مسجد ولا كنيسة، فقد انتقل المعبد إلى أنقرة.. إلى مقر أتاتورك، البابا الجديد و«شيخ الإسلام» الجديد إنه «نبى» الدين الجديد، فالدولة القومية هى الإله، وأتاتورك هو نبيه، و«المقر الرئاسى» هو المعبد الجديد!
إن الدولة الحديثة تتعامل مع الدين بطريقتين لا ثالث لهما: الطريقة اللاتينية أو الطريقة الأنجلوسكسونية، أو طريقة أتاتورك ورضا خان وطريقة عبد الناصر/ صدام، إما إزاحته من المجال العام تماماً، أو تأميمه وتوظيفه لخدمة أيديولوجية الدولة، ولإضفاء البعد الميتافيزيقى الذى قد تفتقده سرديتها القومية.
إن الدين فى الحالتين يتحول لدين وضعى تماماً لا علاقة له بالإسلام، فهو يتحول لسردية قومية حلولية بالكامل تستمد عناصرها الميتافيزيقية من أصول أسطورية (أتاتورك)، أو حتى من الوحى ذاته (عبد الناصر).
إن خطورة الدول القومية وضررها ليس فى أنها «أخذت ولم تعط»، وليس فى أنها «سلبت الاستقلال القومى»، وليس فى أنها «وظفت الموارد» لصالح الاستعمار، وليس فى أنها «قهرت المواطنين»، وليس فى أنها كرست حالة «استضعاف القلة» ونظرت لخرافة «الأقليات» وقننت وضعها المنحط، ولا فى سائر الترهات التى يلوكها الفلاسفة والأكاديميون الغربيون ونقاد الدول القومية، إن الكارثة الأكبر هى إزاحتها ونتيجة، وسواء وظفت ذلك الإله أو «حجبته» كلياً عن المجال العام، فإنها قد أزاحته من المركز واحتلت مكانه فبعد إزاحة المسجد/ المعبد إلى الهامش، أمسى مبنى البلدية مركزاً للدولة/ المدينة، ثم حل محله السوق/ المركز التجارى فى الثلث الأخير من القرن العشرين.
إنه نمط وثنى بالكامل، ولا يمكن «أسلمته» أن الخروج من نسق الدول القومية يستلزم عودة حقيقية للتوحيد وهذه العودة لن تكون قطعاً على يد ميشيل فوكو ولا تيموثى ميتشل ولا يرتران بادى ولا غيرهم بل على يد الغزالى وابن تيمية وأحفادهم من المجددين إن الدعوة لتقويض الدول القومية ليست دعوة «أناركية» تتدثر بثوب الإسلام، فالأناركية ترفض فكرة المركز/ الإله ابتداء وإذا فهى ترفض الدولة/ الإله اتساقا مع نزوعها الإلحادى.
لكننا حين نبنى دعوتنا على الإسلام، والإسلام وحده، فإن ذلك يعنى أننا ندعو لتقويض الدولة/ الطاغوت وحاكميتها، ليس لحساب شعب أو نظام أو طبقة أو جماعة أو طائفة أو مذهب، بل ليكون الدين كله لله.
إننا ندعو لإخراج العباد من عبادة الدولة إلى عبادة الله، لا إلى الخواء والوهم الأناركى فلا فارق عندنا، وبين الطاغوت الذى تجسده الدولة، وبين الطاغوت الخفى الذى تجسده الأوهام الأناركية.
لقد إلتزمت فى ترجمتى لأعمال الدكتور صديقى بمنهج تعريب المصطلحات الأجنبية، وليس ترجمتها ونقلها للعربية، إذ أن أكثر المصطلحات المستخدمة تنتمى لفضاء ثقافى وفلسفى مغاير كلياً.
ولا يعنى كوننا ابتلينا به أنه قد اتحد بسياقنا الخاص، وإن كان المؤلف لم يستطع الفكاك من هذا السياق بشكل كامل، أن دور المترجم هو صياغة النص الفلسفى فى سياقه الحضارى والثقافى واللغوي، وليس نقله لحضارة أخرى و«تعريبة» أو «أسلمته»، لما فى ذلك من تشويش للأفهام يصل لدرجة التدليس أحياناً كثيرة، وذلك كما فى ألفاظ مثل الكولونيالية (Colonialism) والتى تترجم خطأ إلى «الاستعمار»، تلك اللفظية التى تطوى مدلولا مخالفاً بالكلية فى اللغة العربية وربما كان الأدق استخدام اللفظة التى استخدمها أحد أساتذة العلوم السياسية المصريين: الاستخراب.
وكذا سيجدنى القارئ قد فعلت فى مصطلحات أخرى مثل البولوتيك (Politique/Politics) فقد نقلتها كما هى وأوضحت ذلك فى الهامش، وحين استخدمت مضطراً لفظة «السياسية» كترجمة لها، فإنى قرنتها بوصف «الغربية»، وأعتبرت أن البولوتيك مرادفها «السياسة الغربية»، وليس «السياسة» على إطلاقها.
وأخيراً كنت شديد الحرص فى ترجمة اللفظة الانجليزبة مثل (Satate) إلى «الدولة الحديثة» و(Nation-State) إلى «الدولة القومية الحديثة»، وذلك لفصلها عن الحقل الدلالى الأصلى للفظة «الدولة»، بإطلاقها.
أن النص الفلسفى بطبعه ليس نصاً مطلقاً، وارتفاع سقف التعميم فيه دليل على تماسك النسق الفلسفى لكنه ليس دليلا على مطلقيته من هذا المنطلق يجب أن يفرق يجب أن يفرق القارئ بين تماسك النسق  الذى تطرحه الورقة التى بين أيدينا، وبين توهم إطلاقه.
وأود أخيراً أن أشكر كل من تكرم وزودنى بمادة المفكر أو من أعماله، مادة ساعدتنى على تفهم النسق الذى يعبر عنه، فالشكر لإقبال نجل الدكتور كليم، ولغياث صديقى تلميذه ومدير (المسلم انستتيوت)، وللصحفى ظفر الإسلام خان رئيس تحرير (مللى غازيت)، لصبره على طول إلحاحى وكثرة طلباتى، ولظفر بنغش رئيس تحرير (كريسنت انترناشونال) على حماسه كما أتوجه بخالص شكرى لمن صبروا على أسئلتى واستفساراتى وشاركونى بعضاً من ذكرياتهم وانطباعاتهم سواء من خلال لقاءاتنا أو بالبريد الإلكتروني: المفكر العربى بشير موسى نافع، والصحفى البريطانى ضياء سردا.
ويرى صديقى أن المسلمين اليوم ليسوا أكثر تشوشًا فى أى من المجالات الإنسانية، منهم فى حقل العلوم السياسية.
ويتجلى هذا التشوش على كلا المستويين: المستوى النظرى «ومستوى» ممارسى «فن» أو «علم» السياسة، أى السياسيين.
ويتعاظم هذا التشوش على المستوى النظرى فى صفوف من يتوقع منهم أن يكونوا أقل تشوشًا:
علماء السياسة، فعالم السياسة المسلم المعاصر ينوء بما يعجزه فهو يحمل درجة الدكتوراه فى العلوم السياسية، ويشغل منصبًا بهيئة التدريس بالجامعة، وربما حوى رصيد مؤلفاته عدة كتب.
لكنه برغم ذلك يتعين عليه مساءلة نفسه مخلصًا عما إذا كان يختلف فى شىء عن عالم السياسة غير المسلم، الذى يحمل الدرجة ذاتها، ويشغل منصبًا مماثلًا، وينشر كتبًا مشابهة؟ الجواب الصادق هو «لا»، لا يختلفان فى شىء.
يكمن الفخ فى عبارة «عالم سياسة مسلم».
ففى الواقع الفعلى، فإن المسلم فى عالم السياسة مستقل عن تخصصه الاكاديمى فهناك، إن جاز التعبير، شخصان فى واحد: المسلم، وعالم السياسة، إن المسلم هو ذلك الإنسان «المؤمن» فعلًا بالإسلام، لكن علمه السياسى غير مسلم، ليعيش المسلم «المخلص»، وعالم السياسة غير المسلم جنبًا إلى جنب فى شخصية واحدة، ليتسبب ذلك الفصام بمزيد من التشويش.
وحين يشرع «عالم السياسة المسلم»
صاحب هذه الشخصية الفصامية بالحديث عن «نظرية الإسلام السياسية، و«الدولة الإسلامية» فإن التشويش يتبدى فى أسوأ صوره، وبجلاء مربك.
ويقول صديقى: إنه قبل أقل من خمسين عامًا مضت «4» كان ينابيع الحكمة هؤلاء، أساتذة العلوم السياسية، فصيلة إنسانية مجهولة، إذا كانت أوائل معرفتنا بهم خلال القرن العشرين «5» وبرغم الحداثة النسبية لوجودهم على الساحة العلمية، فإن أى استفسار عن مصدر المادة الخام لموضوع «علم» السياسة يكون رده الفورى هو: أفكار أفلاطون «6»، وأرسطو، والقديس أو غسطين، وتوما الأكوينى، ونيقولو ميكيافيللى، ودانتى الليغرى،وتوماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو، وجريمى بنتام، وكارل ماركس، وجون ستيورات ميل، ثم يليه استعراض لمواصفات كبريات الدول الحديثة:
الولايات المتحدة الأميريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والاتحاد السوفييتى وبعض الدول الأخرى التي تنتمى لذات النموذج وأخيرًا، يأتى دور الفيض الهائل من الأدبيات المعاصرة التى تضطلع بعرض وتحليل تصورات ذات النموذج وبالتمعن فى هذه اللائحة، عدة أسئلة.
مثلا، إذا كان «أبو العلوم السياسية» «أفلاطون»، قد كتب جمهوريته قبل «2400» ألفى وأربعمائة عام تقريبًا، فأين كان الطفل منذ ذاك؟! والإجابة، إلى حد ما، أنه كان مصفودًا الكنيسة لعدة مئات من السنين، ثم بدأ بالظهور على استحياء خلال ما سمى بـ «عصر الإصلاح الدينى» و«النهضة» وبعدها تعين عليه الخروج سالمًا من الأروقة الأكاديمية التى يدرس فيها القانون والتاريخ والفلسفة حتى يتم الاعتراف به كتخصص مستقل وقائم بذاته.
ومازالت شقيقته التوأم، العلاقات الدولية، تعانى عسر الولادة «7» والإجابة، برغم ذلك، ما زالت غير مرضية تمامًا، ليظل السؤال عن سبب حبس الكنيسة ومعاهد تدريس القانون والتاريخ والفلسفة للطفل طوال هذه المدة داخل حضانة ثم تسليمه بهذه السرعة صحيحًا معافى، سؤال بلا إجابة «8» لماذا حدث ذلك على نحو مفاجئ تقريبًا فى القرن العشرين؟ لماذا لم يحدث فى القرن الثامن عشر أو التاسع عشر؟ أو لماذا لم يتأخر حتى القرن الحادى والعشرين؟ لماذا؟ لماذا فى القرن العشرين؟ لماذا فى هذا الوقت تحديدًا؟ إن إجابة هذا السؤال تنطوى على مفتاح عدد ضخم من الألغاز.
وإحدى الأجوبة المحتملة هى أن علم السياسة الذى نعرفه الآن كانت الحاجة إليه على أشدها فى ذلك التوقيت، وذلك بعيد تحقيق النجاح الاقتصادى الساحق، والتوسع الإمبريالى الهائل، والصعود الغربى الكبير الذى اجتلب أتباعًا كثرًا.
لكن من الذى كان بحاجة إلى هذا العلم؟ ولم؟
كتب المؤرخ الانجليزى الشهير، إيه جيه بى تيلور، يقول: استغرقت أوروبا وقتًا طويلا لتدشن عصرها الذهبى فلم  تبدأ محاولات هيمنتها «على الحضارات غير الأوروبية» سوى فى القرن السادس عشر «يفقد المسلمين للأندلس»، لكن انتصارها الكامل لم يتحقق سوى فى القرن العشرين «9» كان تيلور يعرض الكتاب الذى ألفه جيه إم روبرتس «10»، مدبجًا بالقصائد فى مديحه: «هذا تاريخ فريد للعالم، تاريخ يكتب لزماننا يتسع ليغطى كل العصور، ويمتد فيشمل كل القارات يسجل تجارب أواسط الناس، كما يؤرخ لأعمال أهل السلطة.
أنه دقيق بشكل لايصدق فى عرضه للحقائق، ولا يمكن تقريبًا الجدال بشأن أحكامه».
وتمادى تيلور فى مدح روبرتس على «الوزن بالقسط بين مختلف الحضارات»، فى كتابه البالغ «1100» ألف ومائة صفحة.
ثم يفصح بعدها عن سر هذا الحماس: لايستطيع «روبرتس» إلا أن يكرس أكبر قدر من الاهتمام للحضارة الأوروبية التي يعرفها جيدًا، وينتمى إليها فانشغل فوق ما يزيد على نصف كتابه فى تناول القرون الأخيرة، بعد استيلاء أوروبا على زمام القيادة ولم يأسف تيلور على ذلك التحيز، بل أضاف: «سيرحب القارئ بهذا الاهتمام» فلماذا كان تيلور واثقًا إلى هذه الدرجة من ترحيب القارئ بهذا الاهتمام بالحضارة الأوروبية؟
السبب الجلى هو علمه بأن ذلك ليس هو «التاريخ الحقيقى»، بل هى وجهة النظر الغربية للتاريخ، ولذا ستحظى بالاهتمام فى الغرب وربما لهذا السبب لقبه بـ «التاريخ الذى كتب لزماننا» وهو بذلك يقر لا إراديًا بأنه يتعين على كل حضارة أن تنتج رؤيتها الخاصة لتاريخ العالم والحضارات الأخرى.
وبناء على ماسبق، لا يمكن نسبة أى من أحكام الكتاب التاريخية إلى فضيلة الموضوعية، ناهيك عن وجود أى ظلال للموضوعية فى المادة التاريخية التى يتناولها.
وإذا توقفنا عند رؤية تيلور للتاريخ وقبلنا بها جدلًا، أن قيادة أوروبا للعالم قد بدأت فى القرن السادس عشر، فإننا نكتشف إغفاله الحديث عمن كانت له القيادة قبلها «فالإنسانية لم تولد منذ أربعة قرون بكل تأكيد»، وإذا كان مؤرخو الغرب يخفون الحقيقة بحرص عن قرائهم، فإننا كمسلمين «تصادف» معرفتنا بالإجابة.
لقد ظلت الحضارة الإسلامية مهيمنة لما يزيد على الألف عام، ولم تنتصر الحضارة الغربية فى واقع الأمر، كما يقر تابلور، إلا فى القرن العشرين.
وبمجرد اكتمال الانتصار الغربى بشكل «نهائى» وإزاحة المسلمين من على مسرح التاريخ، فقد احتاج الغرب لنوعين من المثقفين: المؤرخين الذين بوسعهم حصر الإسلام والمسلمين فى فقرات وهوامش معدودة، وعلماء السياسة الذين بمقدورهم تبرير وتسويغ الهيمنة التى تحققت على مقدرات هؤلاء المسلمين.
وفى إطار مشروعها لتزوير التاريخ الإنسانى وإنتاج رؤية علمانية للإنسان وتطوره السياسى استثمرت الحضارة الغربية، حديثة العهد بالانتصار، جهودًا إنسانية ومادية ضخمة.
وكان المحور الثالث لذات الاستراتيجية هو التقليد العلمى الاستشراقى والذى أقيمت مؤسساته أصلًا للتسلل إلى جثة العالم الإسلامى، وإفساد ما بقى منها مستعصيًا علىالتلف.
بل وانخرطت بعثات التنصير المسيحية بذات المشروع، وحصلت جراء ذلك على مكافآت سخية وبالتمعن فى جذور  العلوم السياسية «الغربية» فسنكتشف أن تلك الجذور لم تترك لتتمدد بإرادتها الحرة، إذا لم يسمح لها مثلًا أن تقبس شيئًا من الإمام الغزالى أو ابن تيمية، ولا حتى من ابن خلدون.
بل إن جذور العلوم السياسية «الغربية» المعاصرة قد عزلت بحرص عن مظان الاتصال بالإسلام أو المسلمين، وبدلًا عن ذلك تم مدها مباشرة لتستقى من الإغريق القدماء، والكنيسة القروسطية، ثم من الإقطاع، ولاحقًا من الأيديولجية القومية، الأوروبيين. ولهذا، فما زال فلاسفة الغرب السياسيون يتجادلون حتى الآن حول قضايا، مثل طبيعة الإنسان، محاوليز، تفسير السلوك الإنسانى من منظور عقيدة «الخطيئة الأصلية» المسيحية «11». وهو ما لا يمكن فهمه إلا بكشف جذور العلوم السياسية «الغربية» الملفقة.
فقد لفقت العلوم السياسية الغربية، والسردية التاريخية الغربية، والفلسفة والفنون الغربية جميعها، لفقت تلفيقًا لخدمة أهداف الحضارة الغربية.
ويؤكد صديقى إن كشف وتفكيك وتحليل خلفي العلوم السياسية «الغربية» الحديثة يستدعى التساؤل التالى إذا كانت كل حضارة بحاجة لعلومها السياسية الخاصة، فكيف تسنى للحضارة الإسلامية، التى دامت لأكثر من ألفية «عشرة قرون»، إدارة واقعها السياسى بغير هذه العلوم؟
والإجابة، بحد ذاتها، بسيطة ومركبة فى أن، إذ لم تكن السلطة السياسية شيئًا جديدًا ومفاجئًا بالنسبة للمسلمين عمومًا، والمثقفين والمسلمين على وجه الخصوص، ولا كانت فى حاجة للتبرير والتسويغ والتنظير فالسلطة السياسية بالنسبة لهؤلاء، كما بالنسبة لرجال الحكم والإدارة المسلمين، كانت هى الجوهر للإسلام، إذ لم يكن بمقدورهم تخيل الإسلام أو ذواتهم المسلمة خارج مجال صيرورة التنظيم السياسى.
كانت الحياة السياسية بالنسبة لهم طبيعية كالحياة ذاتها،فتعاملوا معها باعتبارها مسلمة كما شروق الشمس وهطول المطر وهبوب الرياح وانبساط الأرض.
كانوا كالأسماك التى لم تكن بحاجة للتوقف عن السباحة للتساؤل حول أهمية المياه لقد اقتضت السنة النبوية إقامة نظام سياسى، نظام يمكن فهم الإسلام أو ممارسته بدونه فى واقع الأمر.
فلم يكن ثمة حاجة للتبرير والتنظيم والتفسير. وطوال فترة بقاء السلطة السياسية الحاضنة والإطار السياسى الناظم لتوسع وحماية الدولة المسلمة، لم ينشغل المسلمون كثيرًا بتحول الخلافة لمنصب وراثى، بل إلى ملك عضوض ثم ملك جبرى، وظل الحاكم يلقب نفسه بالخليفة وبرغم أنه أمسى يحكم وفق هواه، فقد ظل مطاعًا بصفته أميرًا «شرعيًا» للمؤمنين.
وهذا يتعارض كليًا مع فكرة فصل الكنيسة عن الدولة فى تاريخ الفكر السياسى الغربى وتطوره.
فقد كان المسيحيون الأوائل منظمين، إن صح هذا أصلًا، فى تنظيمات كهنوتية، وليس فى وحدات سياسية ولا عسكرية ولا مدنية، وكانوا خاضعين عمليًا للسلطة الرومانية فى كل شىء. وقد اشتعل الصراع بين الكنيسة والدولة أساسًا حين بدأ التنازع على الحدود الفاصلة بين المدنس والمقدس.
وعلى الجانب الآخر، بدأ الإسلام برفض وتقويض السلطة القائمة، وإعادة بناء نظمه الاجتماعية والعسكرية والإدارية فى حياة الرسول، لتدشين السيادة المطلقة لنظام الإسلام الجديد.
وذلك كما يوضح العلامة محمد إقبال: «ليس فى الإسلام فصل بين السلطتين الروحية والزمنية. وطبيعة أى فعل، مهما كان دنيويًا فى مغزاه وفحواه، إنما يحددها الموقف العقلى للفاعل فالخلفية العقلية الكامنة للعمل «انعقاد النية» هى التى تحدد طبيعة العمل بشكل حاسم فقد يكون العمل دنيويًا مدنسًا إذا ما تم أداؤه بنزعه انفصالية عن المزيج «الإسلامى» لمركب الحياة «الذى يجمع بين الروح والمادة» وقد يكون العمل روحانيًا إذا كان يستلهم هذه الثنائية فالحقيقة بحد ذاتها تبدو فى الإسلام دينا إذا نظرنا إليها من زاوية معينة، وتبدو دولة إذا نظرنا إليها من زاوية أخرى.
وليس صحيحًا الزعم بأن الدين والدولة وجهان لعملة واحدة، فالإسلام حقيقة واحدة لا تقبل التجزئة، قد يبدو لك دينًا أو دولة بحسب زاوية الرؤية التى تنظر منها والمسألة بعيدة الغور، وتوضيحها توضيحًا شافيًا يجرنا إلى مناقشات فلسفية عميقة لكن يكفى القول بأن هذا الخطأ القديم قد نشأ عن تقسيم الوحدة الإنسانية «ثنائية القطب» إلى حقيقتين منفصلتين متمايزتين بينهما نقطة اتصال بشكل ما، ولكنهما جوهريًا متناقضان.
والحقيقة أن المادة هى الروح إذا ما نظرنا إليها فى إطار مرجعية الزمكان والوحدة التى يطلق عليها اسم الإنسان هى جسم عندما تنظر إليها وهي تعمل فيما نسمية بالعالم البرانى وهي عقل أو روح عند النظر إلى عملها بالنسبة للهدف النهائى والمثل الأعلى وراء هذا العمل.
وجوهر التوحيد كفكرة قابلة للتنفيذ العملى هو المساواة والاتحاد والحرية ومهمة الدولة فى الإسلام هى تحويل هذه المبادئ المتالية إلى قوى تعمل فى المكان والزمان، يتركز طموحها فى تحقيق هذه المبادئ فى مؤسسة إنسانية محددة.
إن المناقشة أعلاه والمقتطف الذى أوردناه لإقبال، يظهران بجلاء الاختلاف الجذرى لمفهوم الدولة فى الإسلام عنه فى الدولة القومية الحديثة إن نوعى الدولة متناقضان، بل وليس ثمة مشترك بينهما من أى نوع فعلى حين يؤسس الإسلام كوسيلة لغرض مقدس فإن الدولة القومية تولد لعكس ذلك الهدف ونقيضه أصلًا: إزاحة الإله، واستبداله بـ «المصلحة القومية» كما يحددها العقل البشرى.
ودعنا نتأمل ما قد يذهب إليه عالم سياسة غربى، إذ يتفق دبليوتى جونز مع جان بودين «12» فى أن فكرة الحاكمية «13» لم تكن معروفة للإغريق ولا للمفكرين القروسطيين، ويسترسل فى عرض ذلك قائلًا: «إن العقل هو تلك الشروط الفلسفية المحددة التى تبلورت فى بواكير العصر الحديث، والتى استلزمت إطارًا نظريًا وفلسفيًا جديدًا. والإطار الذى تم تطويره أخيرًا أسس على مبدأ حاكمية الدولة التشريعية، وبما أن الشروط ذاتها لا زالت قائمة اليوم، فإن مبدأ حاكمية الدولة لا زال على رأس قائمة الأولويات. وهذه الشروط هى ظهور النظام السياسى الإقطاعى الخاص بالدولة القومية الفطرية. وهذا النوع من التنظيم السياسى كان واجب الوجود، ليتطور العالم الحديث على الصورة التى عرفناها- مزيج الثقافة الصناعية والرأسمالية- ولتتشكل الدولة القومية الفطرية، والتى تعتبر أداة ونتيجة للتطور فى آن.. إن ميكيافيللى وبودين وهوبز يرون ببساطة، وبوضوح شديد، أن وجود الحاكم الأعلى والمطلق القوة- المشرع- هو شرط لا غنى عنه لنظام الأشياء المستحدث» حددنا الآن بعض المجال الذى يغطية الدغل المفاهيمى الذى تسبب بهذا القد من التشوش فى التفكير السياسى للمسلمين المعاصرين شاملًا علماء السياسة المحترفين والسياسيين، وكذا الفقهاء والمجتهدين التقليديين، الذى يسعون لتشخيص علل الأمة السياسية، وتوصف الدواء لها.
وبالمصادفة، فإن هذا التشوش نابع من المصدر، من العلوم السياسية الغربية ذاتها، إذ ليس هناك اتفاق، حتى الآن بين كهنة ودهاقين العلوم السياسية على معنى «البوليتيك» «لفظة فرنسية Politique، أما الانجليزية فهى بوليتكس Politics» وبرغم أن لفظة «بوليتيك» قد تشكلت مع «البوليس» الإغريقية Polis «المدينة الدولة، مثل أثينا وإسبرطة»، فإن المعنى قد اكتسب ظلالًا جديدة بالاستخدام. وتتراوح تعريفات «البوليتيك / السياسة الغربية» من كونها «الصراع على السلطة» «مورجانثو»، أو «دراسة التأثير والمؤثر» «لا سويل» إلى كونها «الفرض السلطوى للقيم على المجتمع» «إيستون وذلك فى حين يرسخ برنارد كريك تعريفه التافه بأن «البولتييك هى البولتيك»، مستشهدًا بمقولة لإسحق دزرائيلى تعرف السياسة بأنها «فن حكم الإنسانية بمخاتلتها» «14».
وقد استشرت وترسخت صورة «اللعبة القذرة» للسياسة «الغربية» والسياسيين فى الوعى العام حول العالم، بما فيه الغرب نفسه، لذا يسعى بعض السياسيين، بمجرد حصولهم على مناصب عليا، لوضع أنفسهم فى مكانه «أسمى من السياسة والبعض يسعى لأجل «إنقاذ البلاد من السياسيين» بل ينصح رجال الحكم والدولة، بألا «يقحموا المصالح الوطنية فى لعبة السياسة» وبالكاد قد يثير ذلك العجب فى سياق تعتبر فيه الدولة القومية، التى لا تعترف بأية قيم أخلاقية خلاف القيم النفعية المتعلقة بالعالم المدنس، تعتبر أسمى أشكال.
التنظيم السياسي، هذه القيم ذاتها ليست بقيم ثابتة ولا عالمية، بل تختلف من دولة قومية إلى أخري، بل وعادة ما تتبنى ذات الدولة القومية قيما متناقضة، باختلاف السياقات، واعتماد أعلى «المصلحة الوطنية» ذات الصلة.
 ومن ثم، فليس من المستغرب والأمر كذلك أن تعكس العلاقات الدولية بين الدول القومية صراعا لأجل القوة، باستخدام القوة، فى سبيل مزيد من القوة لقد فصلنا ما فيه الكفاية لبلورة رؤية واضحة للوضع الحالي، فى  المناطق ذات الأغلبية المسلمة من عالم اليوم، إن العالم الإسلامى المعاصر مقسم الآن إلى قوميات، لكل قومية منها «دولتها القومية».
 الخاصة «الاستثناءات، مثل فلسطين وأريتريا وكشمير، ترزح تحت الاحتلال الأجنبى والحكم الكولونيالى المباشر».
 إن الدول القومية المسلمة لا تختلف ابتداء عن كل الدول  القومية الأخرى فالقلة، إن كان ثمت، تقبل القيم الأخلاقية، لتوظفها كشعارات.
 والبعض، مثل باكستان قد يرفع راية المواءمة والتماهى مع الواقع ملقبا نفسه بـ« الجمهورية الإسلامية».
 ورغم ذلك التشويش فإن كل الدولة القومية هى فى حقيقة الأمر نتاج مباشر للحضارة الغربية وحقبة هيمنتها الكولونيالية.
 أهدافها وبناها وأنماط سلوكها كلها واحدة، سواء «تصادف» وجود هذه الدول القومية فى أوروبا «موطنها الأصلي»، أو فى افريقيا أو آسيا أو أمريكا.
 وفى هذا السياق، تفشى نموذج الدول القومية ورواج الثقافة الرأسمالية يجب علينا النظر فى ادعاء جيه بى تيلور، بأن انتصار الحضارة الغربية تحقق فى القرن العشرين فحسب، فنحن الآن سجناء الحضارة الغربية «المستقلين».
 وللوصول لحل لهذه الاشكاليات طالب دكتور صديقى علماء السياسة المسلمين بتدارس وضعهم الحالى كمجموعة من السجناء إذ ما زال يتعين عليهم تحديد حجم وشكل السجن الذى يحيون وراء قضبانه (15) ورسم خارطة ذلك السجن بالتفصيل.
 الخارطة التى تتصل فيها الأبعاد الثلاثة لهذا السجن، الاجتماعية والاقتصادية  والسياسية ببعضها من خلال قنوات فكرية وثقافية. إن علماء السياسة هم طليعة الادلاء داخل سجنهم وإن كانوا أولى ضحاياه بذات الوقت.
 ولنتمكن أصلا من تخطيط وتنفيذ هروبنا بكفاءة من ذلك السجن «المشروعة» أبوابه فقد يلزمنا التصرف كسجناء نموذجيين لفترة نخالط فيها جلادينا بطريقة لا تثير شكوكهم ويمكننا أن نجتهد فى كسب ثقة «الحرس» إلى حد ما بل قد يتعاونون معنا ما دمنا لا نمثل تهديدا لمواقعهم وأدوارهم القيادية على المدى القصير.
 لقد انتهى بنا المآل إلى هذا الوضع الكابوسى بسبب التأثير التراكمى لمئات السنين من الاستخفاف واللامبالاة بالعرى التى انفصمت واحدة تلو الأخري، وخطيئة اسلافنا بتواكلهم واهمالهم علاج الانحراف أولا بأول.
 وبالتالي، فنحن لسنا مطالبين بعبور هذا المستنقع التاريخى بقفزة واحدة واقصى ما نستطيعه هو بناء أو الشروع ببناء منصة اطلاق راسخة، يستطيع جيل مستقبلى أن يطلق منها عملية هروبه لقد وقعنا فى هذا الشرك بتهاوننا لكننا لن نستطيع الخلاص منه سوى بعزيمة ماضية.