الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

عبدالمسيح الكافر

عبدالمسيح الكافر
عبدالمسيح الكافر




 

الحقيقة باختصار أننا نعيش فى بلد كافر مر عليه الأنبياء ولم يتركوا فيه أثرا، المساجد والكنائس هنا ليست أكثر من اماكن للسياحة، وتغيير الحالة المزاجية، واداء الادوار التمثيلية المحفوظة والمكررة منذ قرون لكن بمجرد الخروج من الابواب لا شىء يتغير، بلد كافر حتى بأبسط القيم والثوابت التى استقرت عليها مجتمعات اخرى تحررت من الأديان تماما هنا لا دين ولا دولة من الاساس هنا لانعرف شيئا عن العدل سوى ماشاهدناه من مسلسل عن «عمر بن الخطاب»، ولا ندرك معنى الرحمة الا عندما يشترى أحدنا - بكرم بالغ - عبوة مناديل من امرأة عجوز فى الشارع، هنا فقط يمارس القادة والقواد وكبار لصوص الدولة دعارتهم فى العلانية وامام الشاشات، بتصريحاتهم عن العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر وتوفير الخبز لسد الأفواه الجائعة.
لكن كل هؤلاء فضحهم المجرم العتيد عبدالمسيح عزت، ابن الاعوام العشرة، الذى امتدت يده بتلقائية لتسرق خمسة أرغفة من أحد المخابز فى مركز الفشن ببنى سويف، المعادلة بسيطة الجوع كافر وطفل لايملك جنيها ليشترى رغيفين، ولاتنتظره وجبة جاهزة لتسد جوعه فى البيت، والخبز امامه فى الشارع، فما المانع؟ لكن مافات عبدالمسيح أن تجويعه قرار متعمد، وقهره مخطط استراتيجى، وأن جريمته تلك يمكنها أن تكسر نظاما راسخا يسير عليه البلد منذ سنوات طويلة حيث للسرقة حد أدنى لا يسمح بتجاوزه أن تسرق المليارات فأنت وطنى مخلص، تحتفى بك الدولة ويرفعك الاعلام إلى قائمة القديسين، ويحصنك جيش من المحامين اذا صادف وتعرضت للمساءلة أما من يسرق ليأكل أو يستر جسده من البرد أو يشترى علاجا لمرضه، فهؤلاء فى الدرك الاسفل من جحيم البلد صاحب الحضارات المتراكمة والدين الوسطى الجميل.
 لذا واجه عبدالمسيح منذ عامين مايستحقه من عقوبة، أمسك به صاحب المخبز وعدد من المواطنين الشرفاء وسلموه للشرطة، التى كانت تعانى من فراغ قاتل إبان حكم مرسى، المشغول بشرعيته وبمكافحة خطر الشيعة ونكاح الموتى وغيرها من معضلات المجتمعات الحديثة، لم يخل الأمر من ضربات موجعة تلقاها المجرم عبدالمسيح ابن الاعوام الثمانية وقتها قبل أن يتم اقتياده إلى النيابة، التى لم تتهاون بدورها فى احالة الأمر إلى المحكمة، ولم يفكر وكيل النيابة حتى من باب الصدقة أن يحفظ المحضر، ويقنع صاحب المخبز بالتنازل عن قيمة الخمسة أرغفة، خرج عبد المسيح وعاد إلى اسرته ليفاجأ قبل أيام بأن حكما قضائيا صدر غيابيا بإيداعه الاصلاحية وهو الخبر الذى اختطفته الصحف والمواقع الالكترونية، وازدحمت به مواقع التواصل الاجتماعى، التى لم تنس مهمتها الاصلية فى فضح وتعرية من اغتصبهم الفقر ودمرتهم الحياة وقامت بحشو صفحات كثيرة وعشرات الصور للطفل واسرته، وأدق تفاصيل حياتهم البائسة أو لنقل موتهم اليومى إلى أن حصل عبد المسيح اخيرا على حكم بالبراءة فى جلسة الاستئناف قبل يومين.
الآن تبتعد الكاميرات، ويغيب عبد المسيح عن ذاكرة الجميع، بعد أن وصمه العالم كله بالسارق الصغير ولنا أن ننتظر مايقوله لنا عبدالمسيح بعد حصوله على البراءة اتخيله يرسل القبلات إلى الجميع، ويقول لنا بود خالص : شكرا ايها الانذال على تسامحكم معى، شكرا يا أولاد الكلاب على الفضيحة اظنه لايعرف مظفر النواب ليقول لنا: (لا استثنى منكم أحدا) لكنى أقولها نيابة عنه لعلها تكفى ليستقيم المعنى.
الآن تسلينا بقصة عبدالمسيح غير المؤثرة بالتأكيد كيف لحكاية بهذه التفاهة أن تحرك مشاعرنا أو تؤثر فى كتل الصاج الصدئ المسماة بضمائرنا، لآن ملايين المجرمين الصغار تضج بهم شوارعنا طوال اليوم تراقبهم عيوننا بكسل، وتملأ صرخاتهم آذاننا برتابة، ونتجنب مذعورين أن نلمس أحدهم فى الزحام، حتى لا تتسخ ارواحنا أو تتعكر امزجتنا كل هذا ولم يتغير فى الأمر شىء.
ربما نحتاج لحكايات أكثر تشويقا وأدق وصفا لما يعيشه هؤلاء فى البلد الكافر مارأيكم مثلا فى التقرير المبهج الذى قدمه الجهاز المركزى للاحصاء الشهر الماضى، بمناسبة الاحتفال بمرور 25 عاما على اليوم العالمى لحقوق الطفل وفيه أن أكثر من 3 ملايين طفل يضطرون للعمل لسد احتياجات اسرهم أكثر من نصف هؤلاء يتم استغلالهم ولا يحصلون على أجر، معلومة أخرى لطيفة أن 40% من هؤلاء لا يتعلمون من الاساس، ونسبة مقاربة لهم تتسرب من مراحل التعليم فيما بعد يذكر التقرير أن عدد الاطفال فى مصر الأقل من 18 عاما يزيد على 30 مليون طفل أكثر من ربع النسبة من الفقراء والمحرومين من الغذاء والمأوى والصرف الصحى، أعرف أن هذه الأرقام وغيرها لاتعنى لنا شيئا، لأننا اعتدنا رؤيتها كواجب مقدس طوال تلك السنوات هى أرقام من باب العلم بالشىء لا أكثر، من قبيل الاحصاء الضرورى لولاة الأمر وقواد المؤسسات لتفتح شهيتهم وتزيد شراهتهم فى افتراس الضحية لا أكثر.
هنا فقط تعيش آلاف الأسر فى خرابات ابدية، وعلى بعد خطوات من قلب العاصمة لا تمر امامهم مواكب الامراء، ولا تصلهم كاميرات فضائيات رجال السيراميك والهيروين تلك الأسر المستورة نسبيا، ينام الاب وزوجته وطفلين أو أكثر على سرير متهالك، وتحته يزدحم باقى الأبناء، كل منهم يسرق الدفء من جسد أخيه أو أخته لا يهم، هؤلاء المشغولون بتنظيم الطوابير لدخول دورات القذارة التى لم تدخلها المياه من الاساس، الحالمين بالعثور على بقايا خبز أو طعام فى اكوام الزبالة، الطامعين فى ارتداء ما يستر عوراتهم أو يحمى أقدامهم من قسوة الارض هؤلاء من نراهم لاحقا مجرد ارقام فى اعداد المصابين بالسرطان والعاطلين عن العمل وضحايا زنى المحارم والبائسين المنتحرين، والباحثين عن الغرق على أعتاب أى بلد يحترم آدميتهم هؤلاء ايضا ليسوا الأكثر بؤسا ولا الأشد احتياجا، وما يخفيه بلدنا الكافر من مآس لأعظم.
لا أكلم احدا بالأساس لست معتوها لأذكر الجميع بما يعرفونه جيدا ولا غبيا لأستدر عطف من يحكم ومن يتحكم الأمر وما فيه أننى اكلم هؤلاء المنبوذين، السكان الاصليون لهذه الأرض، عيال الله ونتاج حكمته هم لا يقرأون ولا وقت لديهم الا لكسر الوقت، وانهاء اعمارهم بأسرع ما يستطيعون، اكلمهم واتعجب منهم واذكر ما قاله ابو ذر الغفارى عنهم: (عجبت لمن لا يجد قوت يومه، فكيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه) اللهم ارحمنا من اختبارات الفقر وبما يفعله الحقراء منا.