الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«مستشفى العباسية» تحوّل إلى «سجن» ليس له ضوابط

«مستشفى العباسية» تحوّل إلى «سجن» ليس له ضوابط
«مستشفى العباسية» تحوّل إلى «سجن» ليس له ضوابط




تحقيق ـ أحمد إمبابى

استوقفنى نداء ورجاء ذلك الرجل السبعينى بينما سطر المرض والألم كثير من علاماته على وجهه واكتست عيناه وملامح شيبته بكئوس من الحزن والألم قائلا: «عايز أخرج أنا وزمايلى من هنا».. كم كانت تلك الكلمات صادمة حتى تسمرت واقفا أتأملها لفترة ليست بقليلة من هول مفاجأتها.
فقد فاجأنى «عم محمد» – كما يحب أنا ينادى– بمأساة إنسانية حقيقية يعانى منها مئات المرضى بمستشفى العباسية للأمراض النفسية والعقلية، وكانت كلماته معبرة عن نداء العشرات ممن اجتازوا محنة المرض داخل المستشفى ولم يجدوا من يأويهم فظلوا فى المستشفى لسنوات، حتى تكدس المستشفى بأعداد المرضى وتحول لدار إيواء لهم بدلا من دار شفاء.
تلك المأساة الإنسانية التى ننقل بعضًا من مشاهدها فى هذه السطور لعلها تجد من ينقذ مئات الأرواح دخلوا طلبا للعلاج، وإنما هم فى واقع الأمر مكبلون بالحبس خلف أسوار وجدران المستشفى العالية الذى دخلوه أملا فى تجاوز محنتهم الصحية ولكنه لم يرحم ضعفهم ولم يكن عوناً لهم فى أزمتهم.
وحسب الإحصاءات الرسمية من إدارة المستشفى فإن نحو 55% من مرضى مستشفى العباسية مستمرون فى المستشفى منذ دخولهم، وأن المئات تم شفاؤهم بعد رحلة العلاج التى دفعوا فيها الكثير من عمرهم، حتى يخرجوا إلى النور ويتعايشوا وسط أقاربهم وأبنائهم، لكنهم لم يجدوا من يمد يده لهم بعدما أغلقت جميع الأبواب فى وجوههم، فصار مصيرهم إما البقاء فى المستشفى أو الشارع، بعد تجاهل المجتمع ورفضه التعامل والتعايش معهم.
عشرات من صور الدراما الإنسانية تصنع ملحمة من الألم الصامت فى ذلك المستشفى الذى ربما يخشى الكثيرون الاقتراب منه خشية من نظرة المجتمع السلبية لرواده، وتصل المأساة إلى ذروتها عندما تتصادم أحلام العائدين إلى الحياة بنظرة المجتمع لهم، فلا المجتمع يرضاهم أو يقبلهم، ولا هم يعرفون كيف يتحسسون طريقهم مرة أخرى بين الناس.
معاناة المرضى
عم محمد صلاح، رجل فى السبعين من عمره، وهو صاحب إحدى الحرف ويقيم بإحدى ضواحى شرق القاهرة، دخل مستشفى العباسية منذ ثلاث سنوات، وكان يعانى من حالة انفصام فى الشخصية، واستطاع بعد رحلة العلاج أن يتجاوز محنة مرضه.
ولكن حال عم محمد يختلف عن المئات داخل المستشفى، فقد استقبلته أسرته مرة أخرى واستطاع أن يعود إلى حرفته التى امتهنها لعشرات السنوات، واكتفى بالتردد شهريا على المستشفى لمتابعة حالته وصرف جرعة العلاج الشهرية.
لكنه روى مأساة مئات من زملائه الذين رافقوه داخل المستشفى، قائلا: «زمايلى نفسهم يخرجوا، لانهم حاسين انهم محبوسين، ومش عارف إزاى بس مفيش حد عايز ييجى يستقبلهم».
ومن داخل المستشفى، ووسط الإجراءات التى تقيمها إدارة المستشفى على عنابر النزلاء خاصة هؤلاء الذين فى حالة خطرة أو الذين اجتازو محنة المرض، كانت هناك بعض المقابلات التى تروى بعضًا من مشاهد تلك المأساة الإنسانية، حيث يروى عادل.م، قصته مع المرض، حيث جاء إلى المستشفى وهو يعانى من حالة اكتئاب منذ ثلاث سنوات، واستطاع ببرنامج العلاج أن يتجاوز محنة العلاج بعد عدة أشهر، لكن أسرته ترفض استقباله أو عودته للمنزل فلم يجد سوى الاستمرار فى المستشفى خشية من نظرة المجتمع له والمحيطين به.
مشهد آخر من الأزمة يرويه فائق.ف، وهو متخصص تأهيل لمرضى المستشفى، بأن هناك كثيرًا من الحالات خرجوا من المستشفى بعد علاجهم ويعيشون فى الشارع نظرا لرفض الأهالى استقبالهم، ويقول أنه يتابع حالة السيدة أمل.ص، خرجت من المستشفى منذ سنة بعد أن ظلت به ما يقرب من 10 سنوات، ونظرا لعدم استقبال اسرتها لها اضطرت للعيش أسفل أحد كبارى وسط القاهرة –رفض تحديد المكان تفصيلا– ويضطرون للذهاب لها شهريا لصرف جرعة العلاج الخاصة بها.
محمود صلاح، عامل فى منتصف الخمسينات، خرج من المستشفى بعد رحلة علاج استمرت أشهر، واستطاع أن يتجاوز المرض ويعمل فى إحدى شركات النقل، ولكنه يعانى من عدم تقبل المجتمع له ونظرة زملائه المستمرة له فى العمل التى تجرح مشاعره وتؤثر على حالته النفسية.
تكدس المرضى
لم تكن تلك الصورة المأساوية مجرد شكوى من بعض المرضى أو نزلاء مستشفى العباسية، وإنما المفاجأة أنها كانت تعكس حال مئات من نزلاء ذلك المستشفى العريق، حيث كشف الدكتور سامح حجاج، نائب مدير مستشفى العباسية للأمراض النفسية والعقلية، إن 55% من مرضى المستشفى تم علاجهم أى نصف المرضى، لكنهم لا يجدون مأوى يخرجون إليه.
وزاد حجاج بأن تراكم أعداد المرضى داخل المستشفى أدى إلى تكدس المرضى داخل العنابر أو الأقسام الخاصة بهم، ما يمنع المستشفى من استقبال حالات جديدة أو القيام بدورها العلاجى على أكمل وجه.
ولتوضيح المشهد الداخلى قال حجاج، إن مساحة المستشفى الذى أنشأ عام 1883 فى صحراء العباسية تصل إلى 86 فدانًا ليستوعب ما يقرب من 1500 مريض ولكن عدد المرضى بها حاليا 1270 مريضاً نظراً لأعمال التطوير الخاصة ببعض الأقسام.
ويضيف نائب مدير المستشفى أنهم يستقبلون فى العيادات الخارجية 500 مريض شهرياً، فضلا على أن هناك 300 مريض يتردد للمتابعة بالمستشفى شهريا لتلقى العلاج، وأن هناك ما يقرب من 700 مريض دخلوا المستشفى منذ أكثر من عام وتحسنت حالاتهم ولم يخرجوا إلى الآن بسبب رفض أسرهم استقبالهم أو نظرة المجتمع لهم.
مرضى منذ النكسة
ويروى الدكتور سامح حجاج مزيدًا من تفاصيل الأزمة الانسانية بأن هناك مرضى فى المستشفى منذ أيام النكسة فى 1967 وحرب أكتوبر ومازالوا موجودين به حتى الآن بسبب عدم استقبال أسرهم لهم.
وقال إن هناك كثيرًا من المرضى يموتون داخل المستشفى لأنهم مهملون ومتروكون من أسرهم وأقاربهم ويتم دفنهم فى مدافن الصدقة، وآخر هؤلاء إحدى سيدات الجالية اليهودية توفيت العام الماضى ولم يسأل عنها أحد فاضررنا لإبلاغ الشرطة لدفنها بمدافن الصدقة أيضا.
وأشار إلى أن المستشفى بهذه الصورة تحول إلى دار إيواء كبيرة للمرضى أكثر منه مكاناً للعلاج، ولا نجد من يساعدنا لتطوير العمل داخل المستشفى من ناحية ورعاية المرضى الذين يتجاوزن محنة المرض، مشيرا إلى أنه لا يوجد مستشفى فى العالم يستمر فيه المرضى لأكثر من 15 سنة مثل مستشفى العباسية.
تجاهل حكومى
وحول إذا ما قام المستشفى بمخاطبة وزارة الصحة أو الحكومة حول تلك المشكلة قال نائب مدير مستشفى العباسية إنهم خاطبوا وزارة التضامن الاجتماعى لاستقبال المرضى الذين تم علاجهم بدور الإيواء أو دور المسنين على أن يتابع المستشفى حالاتهم الصحية باستمرار.
وقال إن الوزارة وعدت بتوفير إحدى الدور المناسبة لهم، لكنهم واجههوا مشكلة أكبر وهى أن دور الرعاية التابعة لوزارة التضامن تشترط وجود الأوراق الرسمية وإثبات الشخصية الخاصة بالمريض وهناك مرضى لا توجد معهم أوراق اثبات الشخصية ولا يوجد ضامن لهم من أسرهم وهذه مشكلة أعاقت انتقال نحو 20 مريضا لإحدى دور الرعاية بمدينة حلوان.
ورغم أن الدكتورة غادة والى وزيرة التضامن الاجتماعى وعدت فى اتصال تليفونى معها بدراسة الأزمة وبحثها من قبل الوزارة لتوفير سبل رعاية بعض المرضى الأصحاء، إلا أن الدكتور سامح حجاج طالب بسرعة التدخل الحكومى من قبل رئيس مجلس الوزراء لتجاوز تلك المشكلة وتوفير دور رعاية تستوعب المرضى الأصحاء.
الطب المجتمعى
حاولت إدارة مستشفى العباسية أن تستحدث قسماً جديداً باسم وحدة الطب المجتمعى تساعدهم فى حل بعض مشاكل العلاج داخل المستشفى، بحيث يقوم فريق طبى من المستشفى شامل جميع التخصصات بالمرور على المرضى فى منازلهم ووسط أسرهم لمتابعة حالاتهم وعلاجهم.
الخدمة الحديثة التى استحدثها المستشفى «طب المجتمع» تعمل على تأهيل المرضى لجعلهم أفرادا صالحين للتعامل مع المجتمع دون الانعزال عنه، وأيضًا تغيير الصورة الذهنية الراسخة عن المريض النفسى بأنه «مجنون» لا يمكن الاختلاط به، ذلك من خلال إرسال فريق طبى مجانى لمنزل المريض بشكل دائم على أن تختار الحالات وفقًا لدراسة اجتماعية تكون الأولوية للحالات الفقيرة والمعدمة.
وتقول الدكتورة يمنى جابر، وهى طبيبة بوحدة الطب المجتمعى بالمستشفى، إن تلك الوحدة هى الأولى من نوعها فى مصر، وتقوم بإرسال فريق طبى كامل من طبيب وممرض واخصائى تأهيل لمتابعة حالة المرضى بمنازلهم.
وتروى أنهم يمرون على الحالات التى يتابعونها بشكل دورى، يمكن أن تكون شهريا، ويتم صرف علاجهم شهريًا، مشيرة إلى ان الوحدة مقسمة ما بين طب نفسى أطفال ومراهقين والإدمان وكبار السن أيضا.
وقالت: إن هذه الوحدة تعالج مشكلة التكدس فى مستشفى العباسية وتؤهل كثيرًا من المرضى الذين تجاوزوا محنة المرض للاندماج للمجتمع مرة أخرى وبالفعل استطاعوا أن يحققوا نتائج ايجابية مع حالات كثيرة.
وأضافت أنه يجب تغيير النظرة السلبية للمريض النفسى لأن هناك كثيرًا من المرضى مبدعين فى مجالاتهم والدليل أن هناك عددًا من النزلاء بالمستشفى الذين تم علاجهم استطاعوا فى فترة التأهيل أن يشاركوا فى عمل مسرحى عرض منذ أشهر فى مسرح جامعة عين شمس بجانب متطوعين آخرين باسم «عفريت لكل مواطن»، وهذا ما يعكس أن هناك كثيرًا من الحالات تستطيع أن تمارس حياتها بشكل طبيعى ولكن يجب أن نساعدهم على ذلك.
هروب الأطباء
صورة أخرى من صور المأساة فى مستشفى العباسية، أنه رغم كثرة عدد المرضى وتكدسهم داخل المستشفى إلا أن الأطباء المتخصصين داخل المستشفى يهربون من العمل.
تلك المشكلة التى يرويها أيضا الدكتور سامح حجاج نائب مدير المستشفى، حيث قال إن عدد الاطباء بالمستشفى 199 طبيبا والموجود فعليا حاليا 89 فقط، حيث يفضل باقى الأطباء الحصول على اجازات والسفر للعمل للخارج بسبب تدنى رواتبهم، إلى جانب أن المستشفى يعانى عجزا فى عدد الكوادر الطبية المتواجدة به نظرًا لتدنى الرواتب والحوافز المادية التى تجذب العنصر البشرى للعمل به.
وأشار إلى أن مصر بأكملها تعانى مشكلة قومية متزايدة من حيث نقص بتخصص الطب النفسى مقارنة بعدد المرضى الذين تستقبلهم المستشفيات الحكومية والخاصة، مضيفًا أن معظم مستشفيات الصحة النفسية بالدول العربية والخليج تدار بكوادر طبية مصرية من داخل مستشفى العباسية.
وشدد على أن حل أزمة هروب الأطباء من مصر للعمل بالخارج بحثًا عن فرصة مادية ومهنية أفضل هو رفع المخصصات المالية للمستشفيات ولوزارة الصحة بشكل عام لإعادة النظر فى رواتب العاملين بها بما يحقق له حياة كريمة.