الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

نظام الحكم سياسة «شرعية» وليس أصلاً دينيًا

نظام الحكم سياسة «شرعية» وليس أصلاً دينيًا
نظام الحكم سياسة «شرعية» وليس أصلاً دينيًا




عبدالله النجار

بداية يجب التنبيه إلى أن الإسلام قد نظم كل أمور الحياة، ومن أهمها نظام الحكم وممارسة الأعمال فى مجال السياسة وغيرها، وأن مبادئ الإسلام فى هذا الجانب من الفقه توجب أداء الأمانة لأصحابها، فلا يجوز للشعب أن يولى عليه من لا يصلح ولا يجوز للحاكم أن يختار نوابه ممن لا يصلحون، وفى ذلك يقول الله تعالى: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها»، ويقول سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون»، فأمر بأداء الأمانة إلى أصحابها ونهى عن خيانتها بمنعها عن الذين يستحقونها، والمراد بالأمانة فى هاتين الآيتين وغيرهما، ولاية الوظائف أصلاً، وأداء الأعيان المحفوظة لدى الإنسان، أو الديون المستحقة لغيره تبعًا، ومن ثم يكون معنى الأمانة هو اختيار الأصلح لعلمه وأمانته كما قال سبحانه: «إن خير من استأجرت القوى الأمين»، وأداء الأعيان المحفوظة عند الإنسان لأصحابها أو مالكيها، ولم يحدد نظامًا لاختيار الحاكم فيجوز أن يختار بالشورى أو الانتخاب، أو مراجعة أهل الحل والعقد، أو النظم الديمقراطية أو التعيين أو غيره.
وإذا كان أداء الأمانة يتعلق بتعيين الحكام ونوابهم، فإن مبادئ تنظيم عمل هؤلاء الولاة تتمثل فى الصدق، وإقامة العدل بما يشمل كل أركانه وغاياته، ومنها المساواة بين الناس، وتكافؤ الفرص، والتكافل الاجتماعى الذى يجعل الفقير فى رعاية الأغنياء ومشمولاً بحضانتهم له ورعايتهم لحقوقه فى الصحة والتعليم والعيش الكريم، وغير ذلك من مظاهر الحياة الإنسانية التى نصت عليها الدساتير ومنها احترام حقوقه والمحافظة على كرامته حتى وهو متهم يحقق معه، أو مذنب يقتص منه أو يخضع للعقاب النافذ بشأنه.
وإذا كانت هذه المبادئ تمثل أحكامًا فقهية جاءت مع نظائرهم فى مجال تنظيم الممارسة السياسية وتنظيم العلاقة بين الحكام والمحكومين، إلا أنها لا تمثل أصلاً من أصول الدين التى يكفر جاحدها أو يمرق من ينكرها من الملة، وأقصى ما يخص العمل بها إنها واجبة، والواجب هو الذى يثاب فاعله ويعاقب تاركه يوم القيامة عند ربه لكنه لا يكون كافرًا إلا عند بعض فرق الخوارج الذين يقولون إن الحكم من أصول الإسلام وكأنهم بذلك لا يقنعون بالأركان الخمسة له، وهى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً، ويضيفون إلى تلك الأركان الخمسة، نظام الحكم، كما أضاف الشيعة الإمامية له أصلين آخرين هما: الإمامة والتقية، وهذا غير وارد فى الحديث ولا فى الأدلة الشرعية التى عالجت الأحكام المتعلقة بممارسة السياسة ومبادئ الحكم فى الإسلام، ولأن الأمة إذا لم تعين حاكمًا يقود دفة الأمور فيها، فإنها ستخسر خسارة كبرى، وستلحق بها أضرار عظمى، لأن من مهام الحاكم حفظ الدين وسياسة الدنيا ورعاية المصالح وحراسة الثغور والدفاع عن البلاد وملاحقة المجرمين وعمل كل ما يحقق الأمن والاستقرار للبلاد والعباد، ودفع هذا الضرر واجب لا يقوم إلا باختياره، فهو حكم معلل بتلك الغايات العملية، وليس أصلاً يدخل فى نطاق المسائل الاعتقادية التى ترتبط بأعمال القلوب، وليس بأعمال الأعضاء والأبدان وقد بالغ القائلون إن الحكم أصل من أصول الإسلام، فيما يعتقدون صحته، فقالوا: إن الله تعالى قد أوجب طاعة أولى الأمر، كما أوجب طاعته، وطاعة رسوله فى قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم»، فجعل طاعة أولى الأمر معطوفة على طاعة الله ورسوله، ومن ثم كانت طاعتهم واجبة ولا طريق لإعمال تلك الطاعة إلا باختيارهم وإقامتهم لوسائل الاختيار المتاحة، ودون التقيد بشكل معين للاختيار طالما جاء ذلك فى نطاق الشورى التى أشار إليها القرآن الكريم وأوجبها فى قوله تعالى: «وأمرهم شورى بينهم»، وقوله سبحانه: «وشاورهم فى الأمر»، وإذا ما نصب الحاكم أو تم تعيينه، فإن طاعته تكون واجبة وجوب الطاعة لله ورسوله، وقد توقف أصحاب هذا النظر عند معنى واحد للفظ (وأولى الأمر منكم) فقالوا: إنهم الحكام الذين ارتفعوا فى وجوب طاعتهم لله ورسوله فى الآية الكريمة، أو هم الولاة والسلاطين وليس سواهم.
وهذا الفهم غير صحيح فلم تشرع الطاعة للحاكم مطلقة، بل هى مقيدة بطاعته لله ولرسوله، كما قال أبوبكر الصديق: اطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم»، وجاء فى الأثر: «لا طاعة فى معصية»، ومعلوم أنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، ومن ثم فإن الحكام ليسوا معصومين، وأن ارتكاب الخطأ فى أفعالهم السياسية وأمور الحكم من الأمور الواردة، ولهذا كانت فكرة إضفاء العصمة عليهم باطلة شرعًا لأنه لا عصمة إلا للنبى صلى الله عليه وسلم وإخوانه من النبيين والمرسلين».
وقد ذكر الإمام القرطبى فى تفسير هذه الآية الكريمة: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم»، (النساء - 38) أقوال الفقهاء، ومنها أن المراد بأولى الأمر هم العلماء المجتهدون الذين يتحقق بهم الإجماع وهو دليل شرعى يجب اتباعه كالكتاب والسنة، وهؤلاء العلماء غير الولاة، فإن الولاة لا تجب طاعتهم إلا مشروطة بطاعة الله ورسوله، وفهم الآية يوجب أن يقف معنى الطاعة فيها عند لفظ رسوله، وتبدأ قراءة مستأنفة لأولى الأمر، لهذا قال أبوحفص الدمشقى الحنبلى صاحب تفسير اللباب فى تفسير الكتاب، إن الحكام لا تكون لهم الطاعة إلا إذا حكموا بالعدل وأطاعوا الله ورسوله، فإن جاروا أو ظلموا لا تجب طاعتهم، ولا تجوز أصلاً، فطاعتهم مشروطة بأن يكونوا مستقيمين على الحق، وقد حكى الدمشقى فى القول الرابع من اللباب (جـ6 ــ ص  ــ 447 طبعة دار الكتب العلمية) أنه إذا كان المراد بهم (أى أولى الأمر) أهل الإجماع فإن طاعتهم تكون واجبة بإطلاق، وإما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة بإطلاق، بل هى مقيدة بطاعتهم لله ورسوله، ولهذا كان حمل الآية على الإجماع أولى، وقد تعسف الروافض فقالوا: إن أولى الأمر هم الأئمة المعصومون، وهو اعتساف وخطأ، وقال بعضهم: هم أبوبكر وعمر، وقيل هم الخلفاء الراشدون، وقيل هم أهل الحل والعقد الذين يختارون الإمام، أو مجلس النواب بلغة عصرنا، وقيل هم: أمراء السرايا والجيوش وقادة الأسلحة المختلفة داخل الجيش، وقبل غير ذلك.
ومعنى (أولى الأمر منكم) أنهم يختارون من بينكم، فهم لا يتميزون عنكم بما يضفى عليهم أمرًا زائدًا يختصون به، يقول الدمشقى (ص444): منكم فى محل نصب على الحال أى، وأولى الأمر كائنين من بعضكم أو مختارين من بينكم، أو هم بعضهم، وحيث كان الأمر كذلك يكون أصل الطاعة متوقفًا على طاعة ما قرره الله ورسوله، ونظيره الوفاء للدستور الذى اتفق فيه الشعب مع الحاكم المختار من قبله على احترامه، وتنفيذه ورعاية مصالحه، ويكون ما يريد أنصار ما يسمى (شرعية الصندوق)، أو بعض ذوى المعتقدات المذهبية تأييده والانتصار له من إضفاء القدسية على الحاكم وإطلاق يده فى مصالح الناس وفقًا لما يراه وبسلطاته المطلقة  وبمقولة أنه قد جاء بالصندوق، أمرًا لا صحة له ــ أو على الأقل غير مسلم ــ به على إطلاقه، وكما يبدو فإنه ــ وقد حظى بهذا الخلاف الفقهى الذى يشكك فى إطلاقه، ويتعدى إلى حقيقته، ــ لا يمكن أن يكون أصلاً من أصول الإسلام التى يجب الإذعان لها والخضوع لسلطانها دون مناقشة، ولهذا يكون الصواب فيه: أنه مشمول بتنظيم الإسلام له، وضبط أحكامه، لكنه ليس أصلاً من أصول الإسلام.