السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

أخطأت.. وأصاب الدكتور زكى نجيب محمود

أخطأت.. وأصاب الدكتور زكى نجيب محمود
أخطأت.. وأصاب الدكتور زكى نجيب محمود




عبدالله النجار

أثيرت قضية الانتماء الوطنى فى منتصف القرن الماضى بحدة فرضتها أحداث الإرهاب التى ظهرت فى تلك الفترة، وشغلت الناس بخسة جرائمها، وخطورة أفكارها وخطرها الداهم على الوحدة الوطنية، وكان من لوازم فكر التكفير والهجرة، ترك الأوطان بما فيها من سكان حتى تكون هدفا خالصا للمخربين الذين يستحلون كل حرمات القاطنين بها، باعتبار أنهم كفرة فى نظر أولئك المارقين، وفى ظل تلك الأفكار الموغلة فى الافتراض والتخيل الذى لا يصنع إلا فى عقول مريضة، ولا يتكون إلا فى قلوب عمياء ولا ينفذ إلا من نفوس ضالة خائنة، تتعرض فكرة الوطن والمواطنة لانتهاك شديد وتضليل أكبر ولا يكون الوطن فى نظر أصحاب هذا الفكر الشارد المريض إلا حفنة من التراب، كما قال أحد أساتذة هؤلاء الضالين، أولا يستحق من الناس أدنى اهتمام حتى قال أحد نظرائهم فى الضلال: إنه شىء تافه ولا يستحق مجرد ذكر اسمه، وأردف قائلا: «طظ فى مصر»، لأنه لا يؤمن بالوطن ولا يرى فيه إلا حفنة من التراب كما قال سلفه ومعلمه من قبل، وأنه لا فرق فى سكان هذا الوطن بين مسلم وغير مسلم، فالكل كفرة لا يجوز الولاء لهم، بل يجب البراء منهم، ولعل فى ذلك الفكر الأسود ما يقدم تفسيرا مقنعا لسبب الحقد الأعمى على كل عامر على أرض الوطن، والذى دفع أولئك الذين ارتضعوا ثدى هذا الفكر إلى الانطلاق فى ربوعه حرقا وهدما وتخريبا، وفى وثائقه ومتاحفه سلبا وتمزيقا، وفى أهله قتلا واغتيالا دون رحمة أو شفقة، وبلا رادع من دين أو ضمير أو خُلق.
وقد استلفتت هذه الأحداث المؤلمة نظر الفليسوف المصرى العربى الكبير الأستاذ الدكتور زكى نجيب محمود - رحمه الله - فكتب فى ثمانينيات القرن الماضى سلسلة مقالات بجريدة «الأهرام» تحت عنوان «الانتماء»، وكان يهدف من وراء تناول هذا الموضوع بالتفسير والتحليل إلى تحرير هذا المصطلح مما ران عليه من تلك الأفكار البالية، وليجرده مما ألصقه به التكفيريون من هوان جعله فى نظر أولئك المخربين الجدد أمرا تافها لا يستحق من نشاطهم إلا الهدم والتحريق، وليضعه فى دائرته الصحيحة من مجموعة دوائر اهتمام الناس بالمعانى التى يحبون الانتساب لها والانتماء إليها، ولهذا بدأ فى سلسلة مقالاته ببيان أنواع الانتماء الذى يشعر المصرى بالاعتزاز بها ويفخر بالانتماء إليها، وقسَّم هذه الأنواع إلى دوائر تبدأ ضيقة ثم تتسع فى مدى أكبر وأكبر، وهذه الدوائر هى: مصر، ثم العروبة، ثم الإسلام، حيث يبدأ الإحساس بالانتماء فى الدائرة الأقرب أو الأضيق وهى الوطن، ثم تتسع تلك الدائرة لتدخل فى دائرة أوسع تشملها مع غيرها، ومعلوم أن مصر مع غيرها من البلاد العربية تجمعها العروبة بما تعنيه من الارتباط على أساس البُعد الثقافى القائم على جغرافية المكان وثقافته الإسلامية ولغته العربية، فتكون العروبة هى الدائرة التالية لدائرة الانتماء الأول وهو الوطن، ثم تتسع دائرة العروبة لتتواصل مع غيرها من الدول التى تجتمع معها على دين واحد وثقافة واحدة هى الأمة الإسلامية، وانتهى إلى أن دوائر الانتماء للمصرى ثلاثة هى: مصر، العروبة والإسلام، وهنا طرح سؤالاً حاصله: إذا سئل المصرى عن أولويات انتمائه، هل يبدأ بالخاص وينتهى بالعام فيقول: أنا مصرى عربى مسلم؟ أم يبدأ بالعام وينتهى بالخاص فيقول: أنا مسلم عربى مصرى؟
وقد انتصر الفليسوف الكبير - رحمه الله - للرأى الأول وقرر حازما أن الأصوب والأصح عنده أن يبدأ بالخاص وينتهى بالعام، فيقول: أنا مصرى عربى مسلم، وأن ذلك الاختيار هو الذى يتفق مع ترتيب المصالح الذى تدفع المصرى إلى الحرص عليها والانتماء لها، وأن الوطن يجئ على رأس تلك المصالح، ولولاه ما اكتملت الدائرة الثانية ولا الثالثة ولأنه هو مَهوى فؤاده ومستقر حرماته ومظهر حريته وكرامته.
وأذكر وقتها أنى دخلت معه فى مجادلة على صفحات الأزهر حول ما انتهى إليه وكنت أرى أن الأصح إذا سئل المصرى عن انتمائه أن يقول: إنه مسلم عربى مصرى، فيبدأ بالعام وينتهى بالخاص وذلك عكس ما ذهب إليه الدكتور زكى نجيب محمود، ويخالفه تماما، وإذا كان الاختلاف قد وقع معه فى نتائج بحث الفكرة وخلاصتها، إلا أن وسائل الوصول لتلك النتيجة كانت مختلفة، حيث غلب عليها الطابع الفلسفى عند الدكتور زكى نجيب محمود، بينما جاء ما قلته فى إطار دراسة فقهية اعتمدت على الأدلة الشرعية التى تحدثت عن أولويات الانتماء، وأنه يبدأ بالإسلام ويليه الانتماء الأسرى، ثم يجىء الانتماء الوطنى بعد الانتماء للإسلام، ليكون محكوما بمبادئه فى إقامة العدل بين المسلمين وغيرهم، وحتى تعم رحمة الإسلام الجميع ليكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، ومن الآيات المفيدة فى ترتيب الأولويات فى الانتماء قول الله تعالى: «وَقضى ربُّك أن لا تعبدوا إِلا إِياه وبالوالدين إحسانا»، ومن الأحاديث ما ورد عن النبى - صلى الله عليه وسلم - فى حب مكة حين أُرغم على الهجرة منها، وفى حب المدينة عندما استقر فيها بعد الهجرة، وقد بسطت ذكر تلك الأدلة وشرحها فى سلسلة مقالات نشرت بمجلة الأزهر، وقد تم جمعها وتطويرها وزيادة شرحها فى أول كتاب نشرته سنة 1985 بعنوان «الانتماء فى ظل التشريع الإسلامى»، وفيه توثيق لفكرتى عن الانتماء وأنه يجب أن يبدأ بالإسلام ثم العروبة ثم مصر، فذلك ما ينسجم مع التعريفات المنطقية التى تبدأ بالعام، ثم تخصص بالقيود التى تحددها نطاق هذا العام، ولتكون الأولوية للقيد قبل الأصل، لأنه استثناء عليه والاستثناء يقدم على الأصل لأن دليله أقوى من دليل الأصل.
مرت الأيام واستبان لى أن تأخير الانتماء لمصر، قد أغفل أمرا مهما يمس المحافظة على قيم الإسلام، وسلامة مبادئه على الأرض التى يعيش عليها الناس، وأن الوطن (مصر) هو وعاء أحكام الإسلام ومبادئه وحرماته، فإذا ما تعرض للخطر أو التلاشى، تعرضت حرمات الإسلام للضياع، بل وأصبح للمصحف الشريف وغيره من كتب الحديث والعلوم الشرعية موضع امتهان، إذا ما تعرضت مصر - لا قدر الله - لاعتداء من أحد يعادى الدين، ولو تمكن من هزيمتها، فلن يستطيع مصرى أن يحمى مصحفه أو مسجده، أو أن يقيم شعائر دينه أو يحافظ على نفسه وعرضه، وهذه كلها حقوق للناس، وتمثل حرمات للإسلام، فحفظ مصر يعنى المحافظة على الإسلام وقد صدق الشيخ جمال الدين الأفغانى حين قال: إن حفظ الأوطان يسبق حفظ الأديان، وذلك يقتضى أن تكون أولوية الانتماء للوطن لأنه لا ينفصل عن الانتماء للإسلام والارتباط به.
ومما زاد اقتناعى بأنه لم يكن مصيبا فيما انتهى إليه رأى فى مسألة أولوية الانتماء ما رأيناه بأم أعيننا من ذلك العداء الكالح للوطن، والذى حدا بمن يعادونه أن يتخذوا من مسألة أولوية الانتماء للإسلام هذه مدخلا لتقويض حرمة الأوطان والاعتداء عليها بأسلوب لم يعهده أحد إلا من أقبح الأعداء الذين هجموا على ديار الإسلام كالمغول والتتار وغيرهم من أعداء الدين والإنسانية الذين دمروا فى بلاد المسلمين كل مظاهر العلم والحضارة، وأخشى أن يستغل ما رأيته ردا على الدكتور زكى نجيب محمود لصالح هذا الفكر التخريبى الأهوج والأحمق.
ولهذا لا أجد غضاضة أو حرجا فى أن أعترف بأن الدكتور زكى نجيب محمود كان على صواب، وأن ما رأيته لم يتبصر مآلات ما يمكن أن تترتب عليه، ولهذا أعلن أننى قد عدلت عنه وأرى أن الانتماء لمصر هو المدخل الصحيح للانتماء للإسلام.